لماذا هذه حالنا؟ كتاب جديد للكاتب والسياسي والطبيب والمعتقل لطفي المرايحي والذي صدر بمناسبة معرض تونس الدولي للكتاب بعد أن افتتحه الرئيس قيس سعيد منذ أيام. وبدا الكتاب حفرا في أصول نكسة الثورة التونسية وبحثا في تراجيديات الإنسان التونسي ونشأة الانحطاط الذي لم يعد حادثة عابرة أو مرحلة، بل تحول إلى كائن حي يكبر ويتعاظم كوحش ملتهم كل ما هو جميل وذكي.

إنها رحلة تساؤل مر من مثقف وسياسي مطارد، يسجلها من مخبئه كما فعل ديستوفسكي من قبوه، يحاكم فيها الكاتب التاريخ واللحظة والشعب والنخب والذات دون شفقة. وتلك الشفقة التي اعتدنا تغميسها في الخوف، وذلك الخوف الذي أحدث كل هذا الظلم والفشل، فاستقام الاستبداد قدرا لأمة تنهض كل صباح وتهتف بإرادة الحياة دون أن تدركها أو تعيها. وهي ذاتها أمة الشابي الذي مات ساخطا عليها لأنها لم تسمع غناءه.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2منها بوليود.. اتهام الهند بارتكاب إبادة ثقافية ممنهجة بحق مسلمي كشميرlist 2 of 2غزة تُعلن رسميا "منطقة مجاعة" جراء الحصار الإسرائيليend of list

وفي هذا المؤلف المؤلم، يفكك المرايحي أسباب الإخفاق التونسي المركب، ويذهب بنا بعيدا في التاريخ الحديث، منقبا ومستفسرا ومحللا، بحثا عن إجابة لسؤاله "لماذا صار هذا حالنا؟!" وفي رثاء العقلانية واستنهاضها، لا يخون الكاتب ولا يتهم أحدا بعينه، ولا يترك أحدا في سلام، فالكل شركاء في إنتاج هذه اللحظة الراهنة من الانحطاط الكلي. في خطاب فكري هو هذا المنجز، فاضحا أزمة الوعي والجهل المكدس وصناع الظلم والمستثمرين في الفقر وفقراء الخيال الذين قادوا مسيرة التخلف عوض قيادة مسيرة التطور والرقي.

إعلان وطن تحول إلى سجن

كتاب المرايحي، الذي وصلنا مخطوطا من عائلته قبل النشر، هو ضد البلادة والسطحية التي غرق فيها المشهد التونسي بكل وجوهه (التعليم، السياسة، الإعلام، الثقافة، الاقتصاد، المجتمع المدني..) فلا يكتب السجين السياسي المرايحي كتابا ذاتيا يقدم فيه محنة شخصية، بل يطرح محنة أكبر، هي وطن تحول إلى سجن، بعد أن أضاع شعبه الطريق نحو حريته عندما أجهز على كل ما يجعل منه شعبا حيا ومريدا فعلا، وعندما تنازل عن التفكير بمصيره لحكامه، وانشغل بالخبز وحده، فصار حتى الخبز قاسيا وبدأ بتكسير أسنانه.

ولم يكن صاحب كتاب "الفرد الغائب في مشروع التحديث" حديث عهد بالنضال السياسي والفكري لتربكه ملاحقة أو اعتقال، فقد اختار منذ بدايته أن يكون في صف المستضعفين والحالمين وأرباب الخيال. ولذلك، ورغم انتقاده الشديد لمسار الثورة بعد 2011، إلا أنه لم يهلل لانقلاب 25 يوليو/تموز 2021، لأن أخطاء الديمقراطية لا يمكن إصلاحها بالتخلص منها وتغيير الاتجاه نحو الدكتاتورية القصوى.

ويرجع الكاتب كل ما حدث إلى أن المجتمع التونسي من المجتمعات التي "تفككت بناها التي كانت تقوم على الأسس العرقية والقبلية والعشائرية، ولم يحل محلها عقد جديد يربط الناس بعضهم ببعض ويجعلهم يثقون ببعضهم، فأصبحوا أفرادا متناثرين على رقعة جغرافية، متقوقعين على أسرهم، وكل ما زاد على ذلك غريب لا يأمنون جانبه".

وهذا الوضع الديستوبي للحظة ما بعد العشائرية وما قبل المواطنة، الذي ينتهي إليه المرايحي في تشخيصه للمجتمع، هو الذي جعل الحشود تصطف وراء أي شخص يدعوهم إلى الكسل ويعفيهم من الفعل ومن التفكير. فرفض الفرد الفاقد لعشيرته لفكرة المواطنة هو الذي جعل الاستبداد يعود بعد كل انتفاضة بصورة أكثر بشاعة من الاستبداد الذي انتفض عليه.

ولم يتخذ المرايحي، على عكس السياسيين التونسيين وخاصة المترشحين للرئاسة، نهج منافقة الشعب بمدحه وتعظيمه، بل ذهب إلى مصارحته تلك المصارحة المؤلمة باعتباره شريكا رئيسا فيما يعاني منه الآن، وألحقه بصنف من الشعوب التي تهرب من راهنها الصعب والهوى المتفتت نحو ملاذات أسوأ، كالسلفية، وتهرب من الارتباك الديمقراطي نحو الدكتاتورية، ومن الرجعية نحو الحداثة المزيفة.

إعلان

وهكذا يتنقل المرايحي من فصل إلى آخر، طارحا موضوعا جديدا يطل من خلاله على الانحطاط، مرة من التخلي عن المواطنة وإنكار الديمقراطية، ومرة من قضايا الهوية بين الحداثة والمحافظة، ومرة من المسألة الدينية وطرق التعامل معها، ليتساءل عن النظام السياسي الأنسب وعن مفهوم الوطن اليوم.

فهذا كتاب "عقل محض" زمن الانفعال والشعبوية، لمثقف وطبيب يشخص في هدوء علل وطنه وشعبه منذ حلول الرجل المريض (الخلافة العثمانية) به إلى اليوم، ويقترح بين سطوره وصفات ممكنة ورحلة للتعافي.

ولم يغيّب الكاتب وجهه الروائي، فالكتاب يروي سردية جديدة لتونس والتونسيين، وينهيه بنص في التخييل الذاتي، كوميديا سوداء يروي فيها المرايحي قصة قرار منعه من الترشح للرئاسة، لينتصر للخيال باعتباره حاجة وضرورة لكل سياسي، فمن دونه لا شيء ممكنا غير الاستبداد.

ويغلق الكتاب على كلمة "يتبع.." في إشارة واضحة إلى إصراره على مواصلة النضال من أجل تونس أخرى، ذكية، تقطع مع الاستبداد والغباء، ولا يمكن للاعتقال أن يعتقل رجل الخيال.

قيمة كتاب المرايحي تتمثل في إصرار المجتمع المدني على مواصلة الإيمان بحرية التعبير والديمقراطية (الصحافة التونسية) تونس بين الحرية والاستبداد

إن قيمة هذا الكتاب، الصادر عن دار مسكلياني وبتقديم من المولدي قسومي وكلمة للغلاف للإعلامي والناقد عامر بوعزة، وظهوره في معرض تونس الدولي للكتاب، تتمثل في إصرار المجتمع المدني على مواصلة الإيمان بحرية التعبير وبالديمقراطية كحل وحيد للخروج من مأزق الاستبداد.

وهي إشارة ومساندة للمعتقلين جميعا في قضايا الرأي والسياسة بأن الفضاء العام في تونس لم يتخل عنهم، وأن صمت قسم من النخبة التونسية لا يمثل إلا أصحابه، وأن المجتمع المدني الذي يتظاهر بشبابه وشيبه في الشوارع لاسترداد المسار الديمقراطي ليس ظاهرة صوتية فقط بل فكرية وثقافية أيضا.

إعلان

ويقول قسومي في مقدمته "إننا أمام نص كتب في برهة سياسية غائمة من تاريخ تونس، جاءت بعد انفتاح الأفق الذي تشوف إليه جميع أبنائها، وتطلعوا من خلاله إلى الدخول في زمنية سياسية تمنحهم كل مقومات المواطنة، وتعبد أمامهم كل مسالك الحرية، إلا أنها انقلبت إلى حالة عصية على البلوغ جراء وثبة ارتجاعية شاهقة إلى ما وراء الوراء، الذي لا يمكن أن تجسده إلا حالة الدولة الأولية".

ويكتب بوعزة معززا هذه الفكرة "الكاتب هنا يعاين العلة كما يفعل الطبيب المتمرس، فيجد للتشخيص الذي بين يديه صدى في الماضي وفي تجارب الأمم. الجهل والتخلف والأنانية من صفات الانحطاط، ومقدمات للانهيار الوشيك، عندما يصبح الخلاص الفردي الملاذ المنشود".

ويتمدد كتاب الأسير المرايحي على جملة من الأسئلة منها: ما علاقة الديمقراطية بالنهضة؟ حقيقة أم خيال؟ الفردية والجماعية؟ حداثة أم محافظة؟ هل الدين عائق أمام التقدم؟ الديمقراطية الليبرالية أهي الحل؟ أي نظام سياسي؟ من العولمة إلى صراع الهوية، الوطن ما الوطن؟ هل السلطة تفقد صاحبها العقل؟

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات حريات المجتمع المدنی

إقرأ أيضاً:

د. النجراني ينضم لقائمة كتاب صحيفة Atalayar الإسبانية

انضم الكاتب والصحفي الدكتور حسن النجراني إلى نخبة كُتّاب الرأي في صحيفة Atalayar الإسبانية، الصادرة من العاصمة مدريد منذ عام 2013، والتي تشتهر بخطها التحريري المعتدل في تناول قضايا الشرق الأوسط والمغرب العربي.

واستهل النجراني في مقاله الأول بعنوان: "السعودية من الداخل: لماذا نختلف عن الأوروبيين؟" أن فهم المجتمعات يتطلب النظر إليها من الداخل بعيدًا عن الصور النمطية، مبرزا خصوصية الهوية السعودية المتجذرة في الدين والتقاليد القبلية، ويقارنها بالمجتمعات الأوروبية ذات الطابع الفردي والعلماني. وأشار في ثنايا مقاله إلى أن الإصلاحات في ظل رؤية 2030، وتمكين المرأة، والانفتاح الثقافي، تمت مع الحفاظ على الهوية. ويخلص إلى أن الاختلاف بين الشعوب ثراء، لا عقبة، وأن العالم بحاجة إلى الأصالة لا التقليد.

وقال د. حسن النجراني في تصريحات لصحيفة عاجل إن مراسلة الصحف الاجنبية والكتابة فيها، خصوصًا من قبل كُتّاب الرأي السعوديين بلغات أجنبية، تمثل أداة فاعلة لتعزيز الصورة الذهنية الإيجابية عن السعوديين وإبراز تنوعهم الفكري والثقافي.

وأضاف النجراني أن هذا الحضور يمنح القراء العالميين فرصة للاستماع إلى أصوات سعودية أصيلة تعبّر عن واقع المجتمع من الداخل، بعيدًا عن القوالب النمطية أو التأثير الحكومي المباشر.

كما يسهم ذلك في بناء جسور فهم متبادل، ويعزز مصداقية الرواية السعودية في تناول القضايا المحلية والإقليمية والعالمية، من خلال تقديم وجهات نظر مستنيرة ومبنية على خبرة ومعايشة، مما يرسخ الثقة ويدعم الحوار البنّاء مع الرأي العام الدولي.

ود. حسن النجراني، إعلامي وأكاديمي سعودي، يمتلك مسيرة مهنية تمتد لنحو عقدين في مجال الإعلام، أعقبها ست سنوات من العمل الأكاديمي في قسم الإعلام بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة. بدأ مشواره عام 2006 محررًا في إدارة العلاقات العامة بجامعة طيبة، قبل أن ينضم عام 2007 كمحرر غير متفرغ بصحيفة البلاد، ثم انتقل في العام التالي إلى صحيفة عكاظ – مكتب المدينة المنورة.

في عام 2009 شارك في تأسيس المركز الإعلامي بجامعة طيبة، الذي واصل العمل فيه حتى ابتعاثه عام 2012 لدراسة الماجستير في جامعة سالفورد البريطانية. وخلال فترة إقامته في المملكة المتحدة، عمل مراسلًا لـعكاظ من لندن حتى 2016، وانضم إلى نقابة الصحفيين البريطانيين في مانشستر، كما ترأس نادي الإعلاميين السعوديين في بريطانيا لدورتين متتاليتين (2014-2015).

عقب عودته إلى المملكة، تولى إدارة المركز الإعلامي بجامعة طيبة، إلى جانب مهامه كمتحدث رسمي باسم الجامعة، وإشرافه على مكتب صحيفة عكاظ في منطقة المدينة المنورة كما قدم العديد من الدورات في المجالات الإعلامية المختلفة. وفي عام 2018، التحق كمحاضر بالجامعة الإسلامية، ثم ابتُعث لدراسة اللغة الإسبانية ودرجة الدكتوراه، حيث انضم لنقابة الصحفيين في مدريد، وعمل مراسلًا لـعكاظ من مدريد وروما لاحقًا.

وفي أبريل 2025، نال الدكتوراه ليعود لمواصلة عمله الأكاديمي في الجامعة الإسلامية، مواصلًا مسيرة مهنية تجمع بين الخبرة الميدانية في الصحافة والعمل الأكاديمي المتخصص.

رابط المقال الأول

أخبار السعوديةالدكتور حسن النجرانيصحيفة Atalayar الإسبانيةقد يعجبك أيضاًNo stories found.

مقالات مشابهة

  • إسحق أحمد فضل الله يكتب: (أشجار الجنة التي نعيش فيها)
  • دير البلح.. ذاكرة المدينة الصغيرة بين إرث الحضارة وتهديد الإبادة.. قراءة في كتاب
  • تكريم اسم الفنان لطفي لبيب والإعلامي عمرو الليثي بمهرجان إبداع للشباب- (25 صورة)
  • إضراب مانديلا تونس عن الطعام يتصاعد احتجاجا ضد القمع السياسي
  • شبكة حقوقية: مليشيا الحوثي تختطف أطفال معلم معتقل في ذمار وتواصل حصار أسرته
  • واذكر في كتاب المقاومة
  • إبراهيم شقلاوي يكتب: حكومة الأمل.. كتاب لم يقرأه السودانيون
  • د. النجراني ينضم لقائمة كتاب صحيفة Atalayar الإسبانية
  • أوقاف المغاربة في القدس كتاب يعرض تاريخ المغاربة ودورهم في المدينة المقدسة
  • القضاء الأوغندي يرفض الإفراج عن المعارض كيزا بيسيجي المعتقل بتهمة الخيانة