وأنا أمشي في إحدى مناطق مسقط، سمعت رجلين يتشاجران، وكلٌّ يلقي بالتّهم على الآخر، وعلى بعد أقل من مائة مترٍ منهما، طفلان يلعبان ويضحكان، فوقفتُ أتأمل هذا المشهد الطريف، وقلت: لو اتسع صدر البالغين لبعضهما كما اتسعت صدور الأطفال لبعضهم لانحلّ بينهما الأمر، وبينما كنت كذلك، إذ انشغل الطفلان بالتعارك أيضا، فعلت أصواتهما، وفوقهما وقفت على الإنارة حمامة تهدل، فقلت لو أدرك الأربعة هؤلاء ما بصدر الحمامة ما تشاجروا، حتى أدركت أن الحمامة تقف في الهامش حيث لا يراها كلُّ من هو موجود في المشهد، صوت في الظل غير مسموع كان يُمكن أن يحلّ ذلك كله، لكن ما تفعل الحمامة والحال هذه؟
أستدعي هذا المشهد الآن لأرى كيف يُمكن أن تستقر الدول في علاقتها التعاقدية مع شعوبها، فإنها كلما استمعت لهم -خاصة لأولئك الذين في الظل ولا يسمعهم أحد- كانت أكثر علمًا باحتياجاتهم وكانوا أكثر علما بواجباتهم تجاهها، فالاستقرار حالة وسطية ليست سهلة لكنها تبقى طويلًا إذا بدأت محركاتها بالعمل، أما التجاذب فإنه سهلٌ مناله، حتى إذا ظهرت نتائجه كانت هي التي تبقى طويلًا ثم تستمر الدائرة في الحدوث حتى يأتي من يوقفها ويبدأ من منطقة أخرى.
اللغة هنا هي الوسيط بين الجميع، فباعتبارها أداة الإرسال والاستقبال بين طرفين محددين، فإنها لا بد أن تكون واضحة لا تحتمل التأويلات إذا تعلق الأمر بالسياسة أو المسّ بحياة الآخرين، وتأثير اللغة ينبع من تركيب الجملة ذاتها، فاللفظ المستخدم مؤثر، وموضعه مؤثر، والسياق الذي قيلت فيه الجملة مؤثر، وعلى إذا كان لا بد أن تحضر العوامل اللغوية في الدراسات السياسية والاجتماعية من حيث القدرة على تأثيرها في المتلقي.
وخروجًا من الكلام العام إلى الخاص، فإن كلّ مسؤول في أي منصب يجب عليه أن يستخدم اللغة بحذرٍ شديد وأن يراجع الكلام قبل قوله، حتى لا يكون مناط استياء وغضب، خاصة إذا تعلق الأمر بالقضايا الحساسة أو المؤثرة في المجتمع. وفي الفترة الماضية ظهرت العديد من التصريحات التي تلقاها المجتمع بطريقة سيئة أنتجت غضبًا وانتقادًا واسعا لأصحابها، لا سيما وأنها تتعلق بعدد من المسائل المهمة والآنية التي تؤرقه، ومثال ذلك، قول مسؤول: «التحفيز الأكبر للموظف الحكومي أنه شارك في بناء وطنه وليس لازما أن ينتظر الحوافز»، فإذا أخذت هذا التصريح وشرّحته، وجدت فيه حقّا في جزء، هو أن الموظف أيّا كانت صفته فإنه مشارك في بناء بلده وذلك يبقى معه إلى أن يموت، لكنه في المقابل ليس كافيا، فإن الجانب التعاقدي بين الموظّف والمؤسسة التي وظفته تحتم على الطرفين أن يلتزما بما ورد في الاتفاق بينهما، حتى تلك التي تتعلق بالمكافآت والمحفزات والعلاوات، ولا يكفي التعويل على الشعور العائم الذي إذا تحقق عند واحد فإنه قد لا يتحقق عند البقية، ولذا فإن التحفيز يجب أن يكون بالمعنَيَين، الشعوري المذكور هذا، والمادي الذي التزمت به المؤسسة في العقد الموقع بين الطرفين.
للخطاب الفضفاض خطورة بالغة، فإن الخطاب غير المبني على التفاصيل الدقيقة للحالة المُتحدّث عنها يحتمل تأويلات كبيرة، مما يجعل المقاصد تشرّق وتغرّب دون القدرة على السيطرة عليها، ولهذا أمثلة تاريخية عديدة، فنجد على سبيل المثال الخطابات التي قامت على الشعارات في القرن الماضي سقطت عند أقرب تشريح نقدي لها، وعلى الرغم من أنها حشّدت الجموع في ذلك الوقت، إلا أن هذه التعبئة بقيت لمدة قصيرة جدًا وغير معتبرة، وعندما خرج أصحابها من مناصبهم بطريقة أو بأخرى استلمتهم سكاكين النقد اللاذع لمدة أطول من السابقة، لأن هذه الخطابات كانت تعوّل كثيرًا على الحالة الشعورية التي تحدثها في نفوس المتلقّين، وكانت كثيرًا ما تتردد فيها ألفاظٌ من المعجم اللغوي المتعلق بالوطنية والعظمة والهيبة وغيرها، فعندما خفتت هذه الحالة الشعورية المتحمسة، وعلا صوت العقل، لم يبقَ لها اعتبارٌ ولا جدوى، وفي المقابل فإن الخطابات التي تخاطب العقل في الأساس، وتكون مبنية على القراءات التفصيلية الدقيقة والعلمية، فإنها تحفز الحالة الشعورية بالوطنية والتمسك بالوطن لمدة أطول من السابقة، وهذه مفارقة ليست غريبة، وإنما هي الطبيعة البشرية التي تشهد بها آلاف السنين من التاريخ وتراكم التجربة العلمية والسياسية.
من المشكلات التي تعتري الخطابات الفضفاضة أنها تؤثر في زعزعة الثقة بين القائل والمستمع، لأن هذا الأخير يجد فيها بعض الإهانة إذ لم تخاطب عقله، وإنما عوّلت على إبقاء حالته الشعورية وإن لم يجد من جرّائها ما يخدمه في معيشته اليومية، وزعزعة الثقة هذه خطرٌ محدق على الأمن الوطني إذا ما استمر لفترة طويلة، فإنه ربّما في مرحلة لاحقة يتحول لفعل خارجي بسبب تشكّل الخيال للقدرة على القيام به -أي بالفعل الخارجي- ببطء في نفوس المتلقين، وهكذا تجد أن البناء العقلاني البطيء أسلم وأنجع.
وبالحديث عن الأمن الوطني، فبين الاستماع الفعّال والاستقرار علاقة وطيدة، لأن العقد الاجتماعي يبنى بين الطرفين بناء على معرفة كل واحد منهما باحتياجات الآخر، لذا فمن أجل الوصول إلى حالة من الاستقرار الداخلي، لابدّ للطرفين من الاستماع لبعضهم وعدم احتكار الحديث بطريقة تجعل الطرف الآخر في حالة من الغضب المستنكِر، وفي هذا يُمكن النظر إلى الحالات التي تكوّنت فيها الثورات في التاريخ، سواء العالمي أو العربي، للوصول إلى نتيجة مفادها أن التواصل الفعّال والاستماع الجيد قادر على حلّ كثير من الأزمات واستباقها بخطوة دون الوصول إليها في الأساس، وهذا يساعد في الاستقرار الداخلي وخدمة الأمن الوطني، ففي منطقة مشتعلة مثل الشرق الأوسط، ينبغي الالتفات لكلّ كلمة في الخطابات المرسلة، إذ إن الخيال السياسي متحفّز بشكلٍ مستمر بالنظر إلى النماذج الإقليمية القريبة، وعليه فإن الخطابات العشوائية والفضفاضة يُمكن أن تجرّه للعقل الواعي مما يخلق حالة من الاستعداد للفعل الخارجي الذي يُمكن تجنبه، ولهذا فإن تحصين الداخل وتقويته يبدأ من التواصل الفعّال والاستماع الجيّد وعدم التهميش، وهذا التواصل الفعّال أيضّا يبدأ من الاستخدام الصحيح والمنطقي للغة دون الوصول إلى حالة من التصادم الخفيّ مع المجتمع، وهذا كله يخدم الاستقرار الداخلي والقدرة على تنفيذ الخطط والرؤى المرسومة بدقة وأكثر مرونة.
ما يدعو إليه هذا المقال بسيط لكنه ضروري، وهو الاستماع لمن هم في الظل ومن ينتمون للملفات الحساسة والمهمة، ومن أمثلة هذا الاستماع التي حققت نتائج ملموسة لدينا، ملتقى «معًا نتقدم»، فحالة التواصل الفعّال بين المسؤول والمواطن التي خلقها تُبيّن أنه قادر على إيصال الرسائل بين الطرفين بطريقة سلسة وواضحة، كما أن الحوار المفتوح فيه يخلق حالة نقدية وخطابًا عقلانيّا مهما.
ما يُمكن فعله الآن هو تعميق هذه الحوارات وزيادة أعدادها، بالإضافة إلى التهيئة اللغوية الجيدة قبل التصريح بأي شيء، مع استخدام اللغة العقلانية والمنطقية المدعومة بالأرقام الدقيقة والبيانات التفصيلية بحيث لا تترك مجالًا للتأويلات والتجاذبات، ومما يخدم هذا وجود مراكز البحث الاستراتيجي المستقلة، وتكثيف العمل على قياس الرأي العام سواء في المركز الوطني للإحصاء والمعلومات أو غيره، بما يضيف إلى مدخلات خطابات المسؤولين بُعدًا أكثر دقة وعقلانية.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
ما هي العادات التي تسبب فقدان الذاكرة؟
أكدت الدكتورة ولاء وسام، أستاذ طب المسنين بجامعة عين شمس، أن التأخر في الكشف المبكر وعلاج أمراض الغدة الدرقية يؤدي إلى تدهور الذاكرة بشكل دائم، مشيرة إلى أن علاج هذه الحالات في مراحل متقدمة قد لا يُحسن الذاكرة لأن الدماغ يتأثر بشكل لا يُرجع.
وأوضحت خلال لقائها مع الإعلامية آية شعيب في برنامج «أنا وهو وهي» المذاع على قناة «صدى البلد»، أن نقص إفراز فيتامين ب12 يعتبر أيضًا من العوامل التي تؤدي إلى ضعف الذاكرة وظهور أعراض الديمينشيا لدى كبار السن.
وأشارت إلى أهمية متابعة نزيف المخ، حتى البسيط منه، مثل نزيف سبديورال هيماتوما، لأنه يضغط على أنسجة الدماغ ويسبب مشاكل في الذاكرة، مبينة أن الكشف المبكر وسحب الدم المتجمع يحافظ على وظائف المخ.
وحذرت من الاستخدام المفرط وغير المراقب للأدوية، خاصة مضادات الهيستامين، وأدوية الحساسية، والاكتئاب، والصرع، وأدوية البرد، مؤكدة أن هذه الأدوية تؤثر على مادة الاستيل كولين في الدماغ وتزيد من حالات الديمينشيا.
وأضافت أن بعض المرضى يتناولون أدوية الاكتئاب دون استشارة طبية صحيحة أو لفترات طويلة، مما قد يسبب مشاكل في الذاكرة، محذرة من وصف الأدوية النفسية بدون متابعة طبية دقيقة، خاصة أن بعض الأدوية قد تؤثر سلبًا على ضغط الدم وحالات صحية أخرى.
ونوّهت إلى انتشار ظاهرة تناول أدوية دون استشارة طبية في مصر، حيث يقوم البعض بتجربة أدوية مستخدمة من قبل أقاربهم دون وعي بالمخاطر، مؤكدة أن العلاج السلوكي والنفسي قد يكون بديلاً فعالًا في بعض الحالات بدلاً من الأدوية.
اقرأ أيضاً«غزة من فكّ الارتباط إلى فكّ الذاكرة».. كيف أعادت إسرائيل رسم الجغرافيا والديموغرافيا؟
«نَفَسُ الله».. صراع الذاكرة والنسيان: تشظيات المعنى والهوية
«مصطفى بكري»: ثورة 30 يونيو عظيمة وستبقى خالدة في الذاكرة مدى الدهر