لجريدة عمان:
2025-07-05@13:36:15 GMT

الاستبداد الشبكي وزمن الصمت العربي

تاريخ النشر: 20th, May 2025 GMT

هل جربت أن تستخدم حساباتك على منصات التواصل الاجتماعي لكي تعبر عن رأي معارض لزيارات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الأخيرة إلى ثلاث عواصم خليجية والاستثمارات التريليونية التي حصل عليها من الأموال العربية، أو لكي تدين أو تستنكر استمرار الإبادة الجماعية التي تقوم بها إسرائيل في غزة منذ ما يقارب العامين، دون موقف عربي واضح منها؟

الإجابة المتوقعة لهذا السؤال أن أغلبنا لم يجرب أن يفعل ذلك لسببين، الأول لأننا نعلم أن أي رأي مخالف للمصالح والرؤية الصهيونية العالمية سيتم حظر نشره في منصات التواصل الاجتماعي، وربما تعليق الحساب أو حذفه، والثاني لأننا نعلم أيضا أن أي نقد ولو موضوعي لدولة عربية في هذه الملفات الشائكة قد يمنعك مستقبلا من دخول هذه الدولة، فضلا عن إطلاق جحافل الذباب الإلكتروني عليك.

ونتيجة لذلك لا يكون أمامك، كمستخدم فرد، سوى الاستسلام والانضمام إلى عشرات الملايين الذين يعيشون في «دوامة الصمت» ولا يستطيعون التعبير عن آرائهم بحرية ليس فقط خوفا من العزلة الاجتماعية، كما كانت تقول «اليزابيث نيومان» صاحبة هذه النظرية المهمة في الإعلام والرأي العام، ولكن أيضا خوفا على حياتك ومستقبلك وضمان بقاء واستمرار وسائل اتصالك بالآخرين.

واقع الأمر أنه منذ اندلاع ما سمي وقتها بـ «ثورات الربيع العربي» قبل أكثر من عقد من الزمن، شهدت حرية التعبير في العالم العربي تحولات هيكلية غير مسبوقة بفعل الثورة الرقمية، التي أعادت تشكيل المشهد الإعلامي، وفتحت المجال أمام صحافة المواطن، والتعبئة الشعبية، وحرية التعبير. ومع صعود شبكات التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك وتويتر ويوتيوب، اكتسب المواطن العربي أدوات لم يكن يحلم بها يومًا، ليصبح هو نفسه صانعًا للخبر، وفاعلًا ومشاركا في تشكيل الرأي العام.

المفارقة التي لا تخلو من تناقض تتمثل في أنه كما منحت المنصات الإعلامية والاتصالية الرقمية الجديدة حرية التعبير آفاقا جديدة، فإنها في الوقت ذاته دفعت الأنظمة السياسية إلى تطوير أدوات رقابة جديدة، أقل وضوحا وأقل صخبًا، ولكن أكثر فاعلية وتأثيرا من أساليب الرقابة التقليدية التي حافظت على استخدامها سنوات طويلة ترجع إلى بدايات ظهور وسائل الإعلام فيها. إنها «الرقابة الناعمة»، التي لا تُمارس بالمنع المباشر أو إغلاق الصحف والمحطات الإذاعية والتلفزيونية والمواقع والمنصات الإلكترونية غير المرضي عنها، بل بطرق غير مباشرة وغير ظاهرة للعيان، مثل التلاعب بالخوارزميات، والتحكم في وصول المحتوى إلى الجمهور، والضغط الاقتصادي على منصات الإعلام المستقلة، وممارسة الرقابة الآلية على حسابات الأفراد الشخصية.

في البداية، فوجئت الحكومات العربية بقوة التأثير التي أتاحها الفضاء الرقمي للنشطاء والصحفيين المستقلين، وعدم قدرتها على ملاحقة كل كلمة ينشرها الناس على المنصات الرقمية، ومن هنا اتجهت إلى تبني استراتيجية جديدة تقوم على التحول من أساليب الحظر والمطاردة التقليدية، إلى التركيز على بناء منظومة كاملة لإدارة المشهد الرقمي، تتحول فيها عملية الرقابة من مجرد «حراسة البوابات الرقمية» لمنع نشر ما لا ترضى عنه الحكومة من معلومات وآراء، إلى تأسيس بنية متكاملة توظف التكنولوجيا، والقوانين، والجيوش الإلكترونية، للتأثير في السرديات وتوجيه النقاش العام في الأحداث والقضايا المختلفة.

توظف هذه الرقابة الجديدة أساليب متعددة، أبرزها التلاعب بالخوارزميات لإخفاء المحتوى الحساس أو تقليل انتشاره، وحظر الناشطين المؤثرين، وسحب الإعلانات من المنصات غير المنسجمة مع الخط الرسمي، بالإضافة إلى القوانين السيبرانية التي تجرّم «نشر الأخبار الكاذبة» بعبارات فضفاضة، والجيوش الإلكترونية التي تهاجم الصحفيين وتشوّه المعارضين، وتخلق حالة من الدعم الشعبي الزائف للحكومات.

إنها باختصار رقابة بلا رقابة. فبعيدا عن أدوات المنع التقليدية، تقوم الرقابة الناعمة على مفهوم «التأثير غير المباشر». لا أحد يمنعك صراحة من النشر، لكنك تدرك أن الحديث في موضوعات معينة سيؤدي إلى تقليص مشاهدة ملصقاتك أو تغريداتك، أو خسارة مصدر دخلك، أو ربما استدعائك للتحقيق. وهكذا تُنتج الرقابة الناعمة ما يمكن تسميته بـ «الرقابة الذاتية الطوعية»، حيث يتحول الصحفي أو صانع المحتوى أو حتى المستخدم العادي إلى رقيب على نفسه. وعلى هذا أصبحت «الرقابة الناعمة» الشكل الأكثر انتشارًا وتأثيرا في إدارة الإعلام الرقمي في العالم العربي، وهي الرقابة التي تفسر ظاهرة تجنب أعداد كبيرة من مستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي تناول الموضوعات السياسية أو الحقوقية الوطنية والإقليمية وربما العالمية تجنبًا للعواقب الرقمية أو الواقعية.

على هذا النهج طور المنظرون في مجال الإعلام السياسي نظريات ونماذج جديدة تفسر لنا هذه الظاهرة الجديدة، ظاهرة الرقابة الناعمة» التي يجب أن نركز عليها عندما نتناول بالشرح والتحليل أنماط الرقابة الجديدة على الإعلام الرقمي. من أبرز هذه النماذج «نموذج الدعاية» الذي وضعه المفكران الأمريكيان إدوارد هيرمان ونعوم تشومسكي، والذي يفسر كيف تخدم وسائل الإعلام مصالح النخب، من خلال خمس أدوات: الملكية، والإعلانات، وانتقاء المصادر، والعقوبات، والأيديولوجيات المبررة للقمع (مثل مكافحة الإرهاب). وفي السياق العربي، باتت الحكومات تمتلك أو تتحكم في وسائل الإعلام والمنصات المؤثرة، وتستخدم شعار «مكافحة الإرهاب» كمسوغ دائم لتقييد وصول المحتوى المعارض إلى الجمهور. وحتى الصحافة الرقمية المستقلة، باتت تعتمد على الإعلانات التي تتحكم بها الدولة أو الشركات الكبرى المرتبطة بها، مما يجعل استقلالها هشًّا للغاية.

ولعل من أبرز المفاهيم النظرية المرتبطة بالرقابة الناعمة، مفهوم «الاستبداد الشبكي»، الذي يشرح كيف تستخدم الحكومات في غالبية دول العالم الحرية التي يتيحها الفضاء الرقمي ضد حرية الأفراد في التعبير عن آرائهم. هذا المفهوم الذي طوّرته الباحثة «ريبيكا ماكينون»، يصف بدقة الأنظمة السياسية التي تسمح بهامش من التعبير على المنصات الرقمية، لكنها تسيطر في الوقت نفسه على الفضاء الرقمي بالكامل عبر المراقبة والسياسات الخوارزمية والتحكم بالمحتوى. ومن خلال هذا الاستبداد الجديد لم تعد هناك حاجة لحجب المواقع أو إغلاق الصحف، بل يكفي إحداث تعديل بسيط في خوارزميات المنصات، أو توجيه حملة تشويه رقمية منظمة ضد شخص أو جماعة، أو إصدار قرار من هيئة إعلامية بحظر الوصول إلى منصات محددة، لقتل أي صوت مستقل دون ضجيج. قد يبدو المشهد الإعلامي في العالم العربي أكثر تنوعا من أي وقت مضى، لكن ما يجري خلف الكواليس من رقابة ناعمة يثير القلق. فحرية التعبير لا تُقاس فقط بما يُقال، بل أيضا بما لا يُقال خوفا من العواقب.

وفي زمن تتحكم فيه الخوارزميات بمصير التعبير الحر عن الرأي، وتدير فيه الدول حرب سرديات خفية، تصبح الرقابة الناعمة أخطر من الرقابة الصريحة. الرقابة الناعمة التي تشارك فيها شركات التقنية العالمية العملاقة تقتل الكلمة لا بالسجن والتهديد فقط، بل بالتجاهل أيضا، ومن خلالها يمكن إغلاق المنصة لا بقرار حكومي، بل بتجفيف تفاعل الجمهور عليها. ولعل أكبر تحد أمام الإعلام الحر اليوم، هو أن ينجو من قبضة هذه «الرقابة الخفية»، ويعيد تعريف الحرية في زمن الصمت الرقمي.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: التواصل الاجتماعی

إقرأ أيضاً:

العميد بن عامر يحذر.. ما يحدث في غزة اليوم قد يتكرر في أماكن أخرى إذا استمر الصمت

وشدد بن عامر على أن ما يجري في غزة يُعيد إلى الأذهان فصولًا مظلمة من التاريخ الاستعماري، خاصة في الأمريكيتين وإفريقيا، حيث نُفذت عمليات إبادة ضد السكان الأصليين، تحت غطاء ديني وثقافي، بررت بمفاهيم "التطهير" و"الاختيار الإلهي".

وأضاف أننا اليوم أمام "نسخة محدثة من ذات العقلية تُمارس الإبادة تحت غطاء صهيوني غربي، وبدعم مباشر من القوى الكبرى."

وأشار بن عامر إلى الارتباط الوثيق بين ممارسات الكيان الصهيوني اليوم وممارسات المستعمرين الأوروبيين قبل قرون، حيث جرى تبرير جرائم الإبادة الجماعية ضد الشعوب الأصلية بالعودة إلى نصوص العهد القديم، التي وُظفت دينيًا وثقافيًا لشرعنة الاحتلال والقتل.

وأكد أن "الثقافة اليهودية-المسيحية" التي تمثل أساس العقيدة السياسية الغربية، لا تزال تحكم علاقة الغرب بالكيان الصهيوني.

وبيّن أن الخطاب السياسي الصهيوني يُقدّم الكيان دائمًا ككيان وظيفي يخدم مصالح الغرب في المنطقة، وهو ما يتوافق مع وصف بعض الساسة الأمريكيين له منذ خمسينيات القرن الماضي بأنه "قاعدة عسكرية متقدمة لأمريكا في المنطقة".

كما أوضح أن الدعم الغربي، وتحديدًا الأمريكي، للكيان الصهيوني لا يقتصر على المصالح الاقتصادية أو الجيوسياسية، بل يقوم على اعتبارات دينية وثقافية عميقة.

واستشهد بلقاءات الرئيس الأمريكي الأسبق هاري ترومان مع الجماعات اليهودية قبل إعلان قيام الكيان، والتي أظهرت انحيازًا صريحًا قائمًا على قناعة دينية بأن فلسطين هي "أرض الميعاد" حسب زعمهم.

ولفت إلى أن السجالات داخل الإدارة الأمريكية في تلك الفترة كشفت عن تباين، حيث رأت وزارة الخارجية أن مصلحة واشنطن تكمن في التوازن مع العرب، لكن القرار النهائي كان منحازًا للكيان، بناءً على قناعة بأن "العرب يحتاجون إلى المال ولن يقطعوا النفط، بينما الكيان الصهيوني يخدم مصلحة استراتيجية طويلة المدى."

وتحدث عن البعد الأخلاقي لما يجري، قائلًا إن استمرار الإبادة بحق المدنيين في غزة، في ظل تطور وسائل الإعلام وقدرتها على نقل الوقائع لحظة بلحظة، يفضح نفاق المنظومة الغربية، ويكشف في الوقت نفسه حالة الصمت العربي المخزي.

وشدد العميد بن عامر على أن الكيان الصهيوني ليس مشروعًا قوميًا أو ذاتيًا، بل هو تجلٍ وظيفي لمنظومة استعمارية حديثة، وُجد لخدمة أهداف استعمارية كبرى، تتقاطع فيها المصالح الاستراتيجية الغربية مع النزعة الدينية العنصرية. هذا ما يجعل معركة غزة محطة كاشفة لما هو أعمق من صراع حدود؛ إنها معركة حضارية بين مشروع مقاوم وأدوات استعمار حديثة تلبس عباءة الشرعية الدولية والحرية والديمقراطية.

كما أشار إلى أن صمت الأنظمة العربية والإسلامية تجاه الإبادة الجماعية في غزة، رغم وضوح الصورة وتوفر وسائل الإعلام الحديثة، يكشف حجم الاختراق الثقافي والتبعية السياسية التي تعاني منها هذه الأنظمة. وبيّن أن هذا الصمت يُراهن عليه الكيان الصهيوني، باعتباره خطوة ضمن مخطط "التطبيع الذهني" مع جرائم الاحتلال، بحيث تصبح مشاهد القتل والدمار مشاهد "اعتيادية" لا تستفز الضمير الجمعي للأمة.

وأشاد بموقف قائد الثورة السيد عبد الملك الحوثي_ يحفظه الله _مؤكدًا أن التذكير الأسبوعي بالقضية الفلسطينية يُعيد تموضعها في الوعي الشعبي ويُعيد الاعتبار للمعركة الأخلاقية والحضارية التي تخوضها الشعوب الحرة.

 ودعا بن عامر الشعوب الحرة إلى قراءة الصراع من زاوية استراتيجية حضارية، لا كمجرد نزاع سياسي، محذرًا من أن ما يحدث في غزة اليوم قد يتكرر في أماكن أخرى إذا استمر الصمت وغابت المواجهة الشاملة التي تنهض بها الأمة وتُعيد الاعتبار لخيار المقاومة.

 

* المسيرة

مقالات مشابهة

  • الصمت لا يعني القبول..حنان مطاوع تثير قلق متابعيها برسالة غامضة
  • محمد صلاح ينعي جوتا بكلمات مؤثرة.. عاجزٌ عن التعبير وأخاف من العودة لـ ليفربول
  • سوريا تطلق هوية بصرية جديدة.. الرئيس الشرع يؤكد: عهد الاستبداد انتهى
  • العميد بن عامر يحذر.. ما يحدث في غزة اليوم قد يتكرر في أماكن أخرى إذا استمر الصمت
  • وزير الخارجية: توجت جهودنا برفع العقوبات ورفع علم سوريا في مقر الأمم المتحدة، سوريا التي نراها اليوم تشبه الشعب السوري، والرمزية السورية اليوم أكثر انفتاحاً ترمز إلى الإنسان السوري وثقافته وأرضه
  • الشارع الرقمي بسوريا.. سلطة رقابية جديدة تعيد تشكيل القرار
  • قواعد الاستبداد لإخضاع العباد
  • جاسم الحجي: قوة صناعة المحتوى وأهمية في عصر الإعلام الرقمي
  • في ذكرى ميلاده.. وحيد حامد صوت الحقيقة في زمن الصمت (تقرير)
  • «الإعلام» تستعرض جاهزيتها للتحول الرقمي