ختمنا المقال السابق بسؤال عن حاجة مجتمعنا العماني إلى الحديث عن قضية الهوية من عدمه؟ وللإجابة عن هذا السؤال ننطلق من مقال نشرته جريدة «عمان» في عددها الصادر بتاريخ 9 أكتوبر عام 2024 والمعنون بـ «الهوية الثقافية العمانية وتحديات العولمة»، والذي أكدت فيه على إدراك سلطنة عمان للخطر الذي تمثله العولمة على الهوية الوطنية العمانية، وأن مجتمعنا ليس في معزل عن تلك التأثيرات «بل هي موجودة وتتسلل»، ويختم المقال بالدعوة إلى إيجاد «استراتيجية مدروسة ومستنيرة تحتفي بالماضي وتكرّمه، وتتعاطى مع الحاضر وتسير نحو المستقبل».
إن الوعي بخطورة المرحلة يمثل الخطوة الأولى في طريق النجاح لتجاوزها، والتغلب على تحدياتها، والبداية ينبغي أن تكون من تعريف متفق عليه للهوية الوطنية العمانية، وبحسب اطلاعي لا توجد دراسة أكاديمية منشورة في الدوريات المحكمة باللغة العربية لدراسة الهوية العمانية والتعريف بها، أما بغير العربية فتوجد دراستان باللغة الإنجليزية نشرت الأولى الدكتورة فخرية اليحيائية عام 2017 بعنوان «حضور الهوية العمانية في أعمال الرسامين العمانيين»، والثانية عام 2019 لخالد الحنظلي بعنوان «الهوية الوطنية وأثرها في تشكيل السياسة الخارجية العُمانية المعاصرة»، كما توجد دراسة باللغة الفرنسية للباحثة كورينا لوزوفان نشرت عام 2022 بعنوان «رؤية الحداثة: سرديات التناقضات التاريخية في عُمان» ذهبت فيها إلى أنه «في عهد السلطان قابوس، كان المواطن العماني «موضوعا» للتشكل، في طور التكوين، وتجزم بأن «الهوية العُمانية راسخة في السرد التاريخي، مُرتكزة على القيم الإباضية، لا سيما السلام والتسامح».
وجميع هذه الدراسات لا تقدم تعريفا جامعا مانعا كما يقول أهل المنطق للهوية الوطنية العمانية، كما أنها تفتقر إلى استراتيجية التعامل مع تحدي العولمة، وإلى أن توجد دراسات متخصصة في مكونات الهوية الوطنية العمانية ومحدداتها، يمكن اقتراح التعريف التالي: الانتماء إلى الدولة العمانية التي يمثلها النظام السياسي السلطاني، والبقعة الجغرافية لإقليم عمان بحدودها السياسية المعاصرة، وشعبها العربي ذي المرجعية الإسلامية، وامتدادهم التاريخي المتمثل في الممالك والقبائل والأسر والشخصيات التي أسهمت في بناء المنجز العماني.
هذه هي الهوية العمانية في جوهرها، ويتفرع عن هذا الجوهر مبدآن أساسيان، الأول هو الأخلاق العمانية المتمثلة في السلوك السياسي والاجتماعي المتميز بالهدوء والرزانة والحياد الإيجابي والسماحة وعدم الاعتداء على الآخر وعدم التدخل في شؤونه. الثاني هو احترام رموز هذه الهوية التي يعبر عنها العلم العماني، والزي العماني، واللهجة العمانية، والتراث الفقهي العماني، والأغاني الفلكلورية، والقصص الشعبية، والأكلات الشعبية. بالإضافة إلى الاعتزاز بالرموز التي تمثل الجغرافيا العمانية مثل الخنجر والسيف والبحر والسفينة والجبال والصحراء، وشجرة النخيل واللبان.
ولا ينبغي لهذه الانتماء أن يقيد الفرد العماني، فعمان منذ الأزل بها جماعات دينية ومذهبية وإثنية ولغوية متنوعة، وهذه الجماعات الخاصة هي جزء صميم من النسيج العماني، وقد أسهمت في ثراء الثقافة العمانية وفي صنع التاريخ العماني وفي تشكيل ملامح الهوية العمانية، وأبناء هذه المجموعات العمانية الخاصة يحترمون بلا شك المحددات الأساسية التي تمثل الهوية العمانية، كما أن هويتهم الخاصة محترمة داخل نسيج الهوية العمانية الجامع.
أما التحدي الذي أشارت إليه هيئة تحرير جريدة عمان والمتمثل في العولمة الثقافية والأمركة الهوياتية، التي تتسرب إلى مجتمعنا من خلال منصات التواصل، وتطبيقات بث المحتوى، والألعاب الإلكترونية، وغيرها من وسائل، فإن الواقع يفرض علينا التعامل مع هذه المنصات والتطبيقات باعتبارها الواقع الجديد، وهذا الواقع بقدر ما يفرض من تحديات يوفر أيضا مجموعة من الفرص التي ينبغي الاستفادة منها لحماية الهوية الوطنية وتعزيزها، فتحدي العولمة الثقافية ليس أمرا طارئا على العالم، ولا يختص بعمان وحدها، فجميع دول العالم تعاني منه، بل حتى الدول التي تقود قاطرة العولمة تتسابق هي ذاتها اليوم من أجل تمييز هوياتها الخاصة مقابل الآخر الذي لا ينتمي إليها، وقد أفرز هذا التزاحم الهوياتي عدة استراتيجيات للتعامل مع الثقافات المقتحمة، وحزمة من أساليب التصدي للهويات التي تحاول الهيمنة على غيرها.
حيث اقترح عالم الاجتماع الإنجليزي أنتوني غدنز في كتابه «عواقب الحداثة» ما اسماه بالتحديث العاكس أو «Reflexive Modernization»، من خلال تشجيع المجتمعات المحلية على التفاعل بوعي مع العولمة لتحويلها إلى فرصة بدلًا من كونها تهديدا. بينما اقترح المفكر العربي إدوارد سعيد والمفكر الهندي هومي بابا خلق هوية هجينة «Hybrid Identity» قادرة على التفاوض مع العولمة والتكيف مع حمولاتها دون فقدان جذورها، ويتم ذلك من خلال استخدام لبناء مساحة بينية ثالثة بين الهوية المحلية والهوية العالمية.
أما أمين معلوف فقد طرح فكرة «التبادلية» بين الهويات الفرعية داخل الهوية الوطنية، وبينها وبين الهويات العالمية التي تحاول الهيمنة. إذن هناك إجماع بين المفكرين على ضرورة دعم الهويات المحلية وإبرازها، والانفتاح الواعي على الهويات الأخرى بصورة لا تؤدي إلى الذوبان فيها بل إلى المشاركة في صنع مساحة وسط، وخلق هوية مطورة ترتقي بالهوية المحلية ولا تلغيها، فإذا حاولنا تطبيق هذه المبادئ على ما تواجهه الهوية العمانية من صراع مع الهويات العالمية التي تحاول اختراق الفضاء العماني والهيمنة على الثقافة العمانية، فنحن بحاجة إلى إيجاد استراتيجية وطنية للتعامل مع هذا التحدي، ولعل فيما يلي محاولة أولية لوضع ملامح هذه الاستراتيجية التي تحتاج بلا شك إلى تعزيز وتوجيه ودعم.
وتتمثل هذه الاستراتيجية في تطوير التعليم الذي يرسخ الهوية في ذهن الطالب دون أن يعوقه عن الانفتاح على العالم، وعلى الإعلام المستنير الذي يحتفي بالهوية ويخلق فضاءات لها للتحاور مع الآخر، بالإضافة إلى الاستفادة من التقنية والذكاء الاصطناعي للتعريف بالهوية الوطنية وتعزيزها، ومن خلال تبنّي نماذج تنموية تحفظ الهوية الوطنية، ابتداء من تعزيز سياسة التعمين، مرورا بحماية الرموز الثقافية من الاندثار، ودمج عناصرها في التصميم العمراني للمباني والمدن العمانية، والاحتفاء بالحِرف المحلية مثل صناعة الخناجر والبخور والملابس التقليدية، إضافة إلى الشراكة المحلية في صناعة القرارات المتعلقة بالتنمية مع الأعيان والفاعلين الاجتماعيين، واحترام التعددية الثقافية الوطنية باعتبارها منطلقا لاحترام الثقافات العالمية الأخرى، وانتهاء بالانفتاح الواعي على العالم من خلال التشريعات والقوانين المرنة التي تضبط عملية الانفتاح ولا تعوقها.
إن هذه الاستراتيجية المقترحة تمثل قاعدة يمكن البناء عليها لتأسيس هوية وطنية عمانية قويمة، وبناء آليات تعزيزها محليا، وتمدها بوسائل مقاومة الانصهار في الثقافة العالمية المهيمنة، فتجترح ما يفيد أبناءها، وتتجاوز ما يمكنه أن يضرهم ويهدم ثقافتهم، فنحن بحاجة إلى أن نبدأ من نقطة ما، لأن الصراع الثقافي في أشده، والاختراق الفكري يتمدد يوما بعد آخر، والحاجة إلى المواجهة باتت أمرا مفروغا منه، وعلينا جميعا أن نبادر لتعزيز هويتنا الوطنية، وإمدادها بأدوات الصمود أمام طوفان ثقافة العولمة، وتوفير وسائل تمكنها من التفاعل مع غيرها من الثقافات العالمية والاغتناء مما لديها دون خضوع أو ذوبان.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الوطنیة العمانیة الهویة العمانیة الهویة الوطنیة من خلال
إقرأ أيضاً:
رئيس بعثة الحج: تسهيلات جديدة وتطوير المخيمات العمانية في الأراضي المقدسة
كشفت وزارة الأوقاف والشؤون الدينية اليوم، في مؤتمر صحفي لبعثة الحج العُمانية، جملةً من المؤشرات والإحصاءات والتحسينات المعتمدة استعدادًا لموسم الحج لعام 1446هـ، وآليات توزيع الحصص على المحافظات، وآليات الاستحقاق الإلكتروني المتبعة.
وقال سعادة أحمد بن صالح الراشدي، وكيل وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، ورئيس بعثة الحج العُمانية، خلال المؤتمر: إن الحصة المخصصة لسلطنة عُمان لهذا العام بلغت 14 ألف حاج، منهم 13,530 حاجًا عمانيًا، و470 حاجًا من المقيمين داخل سلطنة عمان، وأوضح سعادته أن عملية توزيع الحصة الإجمالية تمت على مستوى المحافظات، باحتساب الكثافة السكانية وعدد السكان لكل محافظة من الفئة العمرية 18 عامًا فما فوق.
وأشار إلى أن محافظة مسقط تصدرت الحصص المخصصة للمحافظات بنسبة بلغت 24% من إجمالي الحصة، تلتها محافظة شمال الباطنة بنسبة 19%، في حين جاءت محافظة مسندم في أدنى الترتيب، حيث لم تتجاوز نسبتها 1% من إجمالي الحصة المعتمدة.
وأوضح سعادته أن الاستحقاق للحج يتم من خلال النظام الإلكتروني المعتمد لتسجيل الحجاج في سلطنة عُمان، والذي يعتمد على معادلات رياضية تم بناؤها على أسس شرعية وفقهية، تأخذ في الاعتبار مختلف الجوانب والمقاصد، بما في ذلك الجوانب الاجتماعية. وتشمل المعايير المعتمدة في النظام الإلكتروني: العمر، والاستحقاق العائلي، والمحارم، والمرافقين، وعدد مرات التقديم لموسمين فأكثر، ونوع الحج، وأقدمية الوصية، والأقدم وفاة في حالة الإنابة عن متوفى، والأقدم إقامة بالنسبة للمقيمين.
وتضمنت الإحصاءات المقدمة خلال المؤتمر مؤشرات تفصيلية لتوزيع الحجاج حسب نوع الحج، حيث تصدر حجاج الفريضة العدد الأكبر، بإجمالي بلغ نحو 11,780 حاجًا، أي ما يعادل نسبة 84% من إجمالي الحصة، يليهم حجاج التطوع، ثم الإنابة عن عاجز، ثم تنفيذ الوصية، ثم الإنابة عن متوفى، وأخيرًا أصحاب الأمراض المستعصية بنسبة أقل من الفئات الأخرى.
أما بالنسبة للمؤشرات المتعلقة بالفئات العمرية، فقد جاءت الفئة العمرية من 30 إلى 45 عامًا في الصدارة، بنسبة بلغت 39% من إجمالي عدد الحجاج، تلتها الفئة العمرية من 45 إلى 60 عامًا بفارق بسيط لا يتجاوز 0.1%، ثم الفئة الأكبر من 60 عامًا بنسبة تقارب 16%، وأخيرًا الفئة العمرية من 18 إلى 30 عامًا بنسبة 5%.
وفيما يتعلق بوسائل انتقال الحجاج من سلطنة عمان إلى الديار المقدسة، أوضح سعادة رئيس البعثة أن غالبية الحجاج اختاروا السفر جوًا، حيث بلغت نسبتهم أكثر من 63% من إجمالي الحجاج، بينما بلغت نسبة الحجاج الذين اختاروا السفر برًا 37%. وفيما يخص التكاليف، أشار سعادته إلى أن متوسط تكلفة الحج برًا بلغ نحو 1,417 ريالًا عمانيًا، في حين بلغ متوسط تكلفة الحج جوًا حوالي 2,063 ريالًا عمانيًا، وفقًا لمتوسط الأسعار المعتمدة لدى شركات الحج والخدمات اللوجستية.
مبادرات نوعية
وأوضح الراشدي أن البعثة أطلقت حزمة من المبادرات النوعية التي تهدف إلى تحسين جودة الخدمات المقدمة لضيوف الرحمن، وتيسير أداء مناسك الحج، بما يعكس اهتمام سلطنة عُمان برعاية الحجاج وتوفير أفضل السبل لأداء المناسك بيسر وأمان. ومن أبرز هذه المبادرات: مبادرة "أوقاف بيت الرباط"، التي خُصصت لدعم المستحقين من فئات الضمان الاجتماعي، حيث يستفيد منها هذا العام أكثر من 150 حاجًا، بإجمالي تمويل يتجاوز 150 ألف ريال عماني، ما يعكس البعد الاجتماعي والإنساني في تنظيم شؤون الحج.
كما أطلقت البعثة مبادرة "معرض الحج والعمرة الأول"، الذي شارك فيه أكثر من 30 جهة من مختلف القطاعات الحكومية والخاصة، بالإضافة إلى عدد من الجهات الدولية، ما أتاح منصة متكاملة لتبادل الخبرات والتعريف بالخدمات المقدمة للحجاج.
وفي إطار العناية بكبار السن والأشخاص ذوي الإعاقة، تم الإعلان عن مبادرة العربات المتنقلة، التي تهدف إلى توفير عربات مخصصة لأداء مناسك الطواف والسعي، ويتوقع أن يستفيد منها ما يقارب 450 حاجًا من الفئات المستهدفة خلال هذا الموسم.
ولتعزيز الأمان وتقليل حالات الفقدان، تطلق البعثة أيضًا مبادرة الأساور الإلكترونية، حيث سيتم توزيع عدد من الأساور المخصصة لكبار السن والحالات المرضية الخاصة، مما يسهم في تسهيل المتابعة والرعاية الصحية واللوجستية أثناء تأدية المناسك.
وفي مجال التنظيم والرقابة، دشنت البعثة مبادرة "قياس جاهزية شركات الحج"، التي تهدف إلى رفع كفاءة الشركات وتحسين جودة الخدمات التي تقدمها، من خلال مؤشرات أداء دقيقة ومعايير واضحة تتماشى مع متطلبات المرحلة الحالية والمستقبلية لإدارة شؤون الحجاج العمانيين. كما تشمل المبادرات خطة توسيع تفويج الحجاج عبر المنافذ البرية، والتي شهدت نجاحًا ملحوظًا في مرحلتها الأولى، حيث ساهمت في تقليل متوسط مدة الانتظار في المنافذ البرية من أربع ساعات إلى نحو 45 دقيقة فقط، مما عكس مستوى التنسيق العالي بين الجهات المعنية.
وفي سياق متصل، تحدث سعادة رئيس البعثة عن الجهود المبذولة لتطوير المخيمات العُمانية في الأراضي المقدسة، استجابةً للملاحظات والتقييمات الواردة من الحجاج خلال المواسم السابقة، حيث أوضح أن معظم الملاحظات تتركز على البنية الخدمية في المخيمات، وأكد أن البعثة عملت وفق الإمكانات المتاحة والبنية الأساسية القائمة على تنفيذ مجموعة من التحسينات النوعية التي من شأنها الارتقاء بجودة الإقامة والخدمات المقدمة، ففي مخيم منى، تم إضافة 75 دورة مياه جديدة ليصل الإجمالي إلى 267 دورة، فضلًا عن تركيب 250 مغسلة وضوء جديدة، ليبلغ عددها 356 مغسلة، كما تمت إضافة 150 وحدة تكييف منفصلة ليصل العدد الإجمالي إلى 900 وحدة تكييف، بالإضافة إلى تعزيز الطاقة الكهربائية في المخيم.
أما في مخيم عرفات، فقد شهد هو الآخر إضافات كبيرة، تمثلت في بناء 100 دورة مياه جديدة، ليبلغ العدد الكلي 320 دورة، إلى جانب تركيب 250 مغسلة وضوء إضافية ليصبح الإجمالي 312 مغسلة، وتمت أيضًا تعزيز قدرات التكييف بالمخيم من خلال توفير وحدات تكييف دولابية بطاقة 60,000 وحدة لكل 32 مترًا مربعًا، مقارنة بـ 40 مترًا مربعًا في الموسم السابق، مما يساهم في تحسين جودة الإقامة وراحة الحجاج.
وشدد سعادته على أهمية الالتزام بالأنظمة والتعليمات الصادرة من الجهات الرسمية في المملكة العربية السعودية، وعلى رأسها ضرورة الحصول على تصريح رسمي لأداء مناسك الحج، وأشار إلى أن المخالفة تعرض صاحبها لعقوبات مشددة، تشمل الغرامة المالية التي قد تصل إلى 20 ألف ريال سعودي، والسجن، والمنع من دخول المملكة لمدة تصل إلى عشر سنوات، بالإضافة إلى الحرمان من أداء الحج، مؤكدًا أن بعثة الحج العُمانية ستتعامل مع جميع البلاغات والمخالفات وفقًا للائحة تنظيم شؤون الحج، داعيًا كافة الحجاج إلى التعاون والالتزام التام بما يصدر عن الجهات المعنية؛ لضمان موسم حج آمن ومنظم يحقق تطلعات الجميع.