محمد دياب يكتب: «العدالة المهدورة» بين قضاة ومحامى الفيسبوك
تاريخ النشر: 22nd, May 2025 GMT
الحقيقة لم تعد محل اهتمام بعدما فرض هواة الظهور ومروّجو الفوضى سيطرتهم على المشهد العام. تحوّل كل حادث أو قضية رأي عام إلى سيرك مفتوح، يتصارع فيه من لا علاقة لهم بالأمر، ليقدّم كل منهم فقرته السمجاء على مسرح الهراء.
بمجرد ظهور خبر أو نشر صورة، تنفجر المنصات بأشخاص قرروا فجأة أنهم النيابة العامة، وهيئة الدفاع، وخبراء الطب الشرعي، بل والقضاة أنفسهم.
التريند يسبق القانون بخطوات، يصنع الأحكام قبل أن تُفتح ملفات التحقيق. لا يُنتظر بيان رسمي، ولا يُحترم تحقيق قائم، فكل ما يحتاجونه منشور مجهول أو لقطة مجتزأة ليبنوا عليها روايات هشة لا تصمد أمام بساطة الحقيقة.
وراء هذه الجلبة، يقف "محامون بالمراسلة" لا يشغلهم إقناع القاضي بقدر ما تشغلهم كاميرا البرامج، يبيعون الوهم على شاشات التوك شو، يؤلفون دراما لا أصل لها، فقط ليكسبوا متابعين. منهم من يظن أن ارتداء بدلة وترديد عبارات قانونية يعني أنه نابغة، بينما هو لا يعرف الفرق بين الدفع والادعاء.
محامو الشاشات: دراما قانونية بلا مضمونتحول البعض إلى تجار قضايا، يختارون فقط ما يصلح للعناوين الكبرى وما يثير اللغط، ليقفزوا فوقه ويصرخوا بأنهم "محامي الشعب" و"صوت المظلومين".. لكن صوتهم لا يتعدى شهرتهم، ولا مظلوميتهم تتجاوز حساباتهم البنكية
فهل تُحل القضايا بالمزايدات؟ وهل تتحقق العدالة بالمشاهدات؟
نحن أمام مشهد هزلي لا يضحك، بل يُبكي، حيث يُترك الحق للقضاء الإلكتروني وتُشنق البراءة في تعليقات فيس بوك.
النقاش لم يعد قائمًا على المعرفة والتخصص، بل تحوّل إلى ساحة يهيمن عليها المدّعون ويتوارى فيها أهل الخبرة، ممن يحولون الحوادث إلى مواسم لصيد اللايكات، ويتعاملون مع آلام الناس كفرص ذهبية للانتشار.
مرافعات على المسرح لا في المحكمةمنصة المحاكم تراجعت في نظرهم، فأصبح الحضور الأهم أمام الكاميرات، يصخب ليُرَى لا ليقنع، ويخوض المعارك من أجل تريند لا متهم
كأن الشرف المهني لم يعد يعني شيئًا، والمرافعة تحولت إلى أداء مسرحي هابط لا يخضع لأي نقد أو مراجعة.
هذه الفوضى الأخلاقية تنال من هيبة العدالة، تزعزع ثقة الناس في مؤسساتهم، وتجرّ المجتمع إلى صراع مع ضجيج لا يعرف منطقًا ولا حدودًا، حيث يعلو صراخ الجهل على صوت القانون.
فإلى متى تظل هذه المسخرة قائمة؟ وإلى متى نمنح ميكروفوناتنا لمن لا يستحق؟
آن الأوان لأن نغلق هذا المسرح، ونعود للمنصة الحقيقية.. منصة القانون، لا منصات الجهل الإلكتروني.
المصدر: بوابة الفجر
كلمات دلالية: محمد دياب المشاهدات هيئة الدفاع المحاكم القضايا هيبة القضاء منصة المحاكم
إقرأ أيضاً:
محمد صبيح يكتب: من الحقل إلى السيادة.. القمح الرقمي في مواجهة هيمنة الدولار
في زمنٍ أصبحت فيه العملات الأجنبية، وعلى رأسها الدولار الأمريكي، سلاحًا اقتصاديًا تمارَس به الهيمنة وتُفرض به الأزمات على الدول النامية، قررت مصر أن تمتلك سلاحًا خاصًا بها: وهو "القمح المصري".. هذا السلاح ليس مجرد محصول زراعي، بل منظومة سيادية استراتيجية تتطور على أسس رقمية حديثة، تقف في وجه موجات التضخم، وتقلبات أسعار الغذاء، وضغوط الاستيراد، وابتزاز الأسواق العالمية.
القمح المصري.. من سلعة إلى ركيزة أمن قوميموسم توريد القمح 2025 ليس موسمًا عاديًا، بل هو إعلان صريح بأن مصر بدأت تفكر وتدير ملفاتها الزراعية بعقل رقمي، وهدف سيادي، ولأول مرة، نجد أن الدولة المصرية تبني تحصيناتها الاقتصادية من خلال "الحقول الذكية" و"الصوامع الإلكترونية" وغرف التحكم المتصلة بمنظومة مركزية تقيس وتراقب وتخطط بالبيانات الحية.
التحول الرقمي.. ضربة استباقية في معركة الغذاءعندما تتفوق على نفسك وتدير ملفًا معقدًا مثل القمح بهذه الكفاءة، فأنت لا تحارب فقط شبح الجوع، بل توجه ضربة مباشرة لعجز الميزان التجاري، ولفاتورة استيراد تُدفع بالدولار، فكل طن قمح يتم توريده من الفلاح المصري، لا يمثل فقط محصولًا، بل يمثل 400 دولار لم تخرج من احتياطي البنك المركزي، وكل كيلو خبز مدعوم مرتبط بهذا التوريد، هو دعم للطبقة الوسطى والفقراء، من خارج ميزانية الدعم التقليدي.
الدولار يهاجم.. والبيانات تردفي الوقت الذي تستمر فيه الولايات المتحدة برفع أسعار الفائدة وتحريك أسواق العملات لصالح الدولار، ترد مصر باستخدام سلاح البيانات.. منظومة القمح الرقمية لا تترك شيئًا للصدفة، بدءًا من صرف مستحقات المزارعين خلال 48 ساعة، مرورًا بتطبيق "رادار الأسعار" القائم على الذكاء الاصطناعي، وانتهاءً بالتكامل بين التوريد والخبز المدعم، إنها شبكة دفاع إلكترونية ضد عدوان مالي لا يُرى، لكنه يُحسّ في الأسواق والموائد.
من الفلاح المصري إلى السيادة الوطنيةليس جديدًا أن يكون القمح أداة سلطة في الجغرافيا السياسية، لكن الجديد أن مصر، ولأول مرة، تمسك بزمام المبادرة.. المزارع لم يعد مجرد منتج، بل شريك في حماية الاقتصاد الوطني، كل شحنة قمح يتم استلامها ببيانات موثقة، وكل سائق شاحنة يعرف مساره بدقة، وكل رغيف خبز يعرف مصدر دقيقه، إنها دولة تعرف قيمة "المعلومة" وتراهن عليها.
نحو استقلال غذائي حقيقيأكثر من 2.2 مليون طن قمح تم توريدها حتى منتصف مايو 2025، بزيادة تتجاوز 18% عن العام الماضي، والدولة تستهدف 4 ملايين طن، هذا يعني ببساطة توفير ما يقارب 1.6 مليار دولار من الاستيراد، دون ضجيج أو اقتراض.. هذا هو الاستقلال الحقيقي: أن تأكل مما تزرع، وأن تبني قرارك على ما تملك، لا على ما تتسول.
ختامًا.. في مواجهة عدوان الدولار، لم تلجأ مصر إلى رفع أسعار الفائدة، ولا إلى إجراءات تقشف، بل لجأت إلى المزارع، إلى الحقل، إلى الرقمنة، إلى القمح.. سلاح لا يقتل، بل يُشبِع.. سلاح لا يُستورد، بل يُزرع، ومع كل موسم توريد رقمي، تقترب مصر من معادلة مستحيلة في عالم اليوم: أن تكون دولة نامية، لكنها صاحبة قرار غذائي، وصاحبة سيادة اقتصادية.