علماء يبتكرون لاصقا ذكيا يقرأ المشاعر الحقيقية حتى لو تعمدت إخفاءها
تاريخ النشر: 27th, May 2025 GMT
تمكن فريق بحثي من جامعة ولاية بنسلفانيا الأميركية من تطوير لاصق ذكي قابل للتمدد، قادر على رصد المشاعر الإنسانية الحقيقية بدقة، حتى في الحالات التي يتظاهر فيها الأشخاص بعكس ما يشعرون به.
ويظهر في الدراسة الحديثة المنشورة في دورية "نانو ليترز" أن هذا الابتكار لا يتوقف عند حد قراءة تعابير الوجه، بل يتخطاه ليشمل تحليلا متكاملا للإشارات الفسيولوجية المصاحبة للحالة النفسية.
يقول هوانيو تشينغ، أستاذ علوم وهندسة الميكانيكا في جامعة ولاية بنسلفانيا وقائد الفريق البحثي، في تصريحات حصرية للجزيرة نت: "قد تبدو هذه التكنولوجيا بسيطة كلاصق على الجلد، لكنها تحمل قدرة على تغيير طريقة فهمنا لمشاعرنا ومشاعر الآخرين. إننا نقترب من مستقبل لا يستطيع فيه الذكاء الاصطناعي فهم الكلمات فحسب، بل والإحساس بما نشعر به حقا".
يتكون الجهاز من رقائق معدنية مرنة قابلة للتمدد مصنوعة من الذهب والبلاتين، بالإضافة إلى طبقات من البوليمرات الذكية. وقد صُممت هذه المواد بطريقة تمنع التداخل بين الحساسات المختلفة، مما يسمح بقياس كل إشارة بدقة واستقلالية.
يفسر تشينج: "الاستقلالية هنا تعني أننا تمكّنّا من تقليل التداخل بين الإشارات الفسيولوجية المختلفة إلى حد كبير من خلال التصميم الهيكلي الأمثل واختيار المواد بعناية، مثل وضع طبقات من البوليمرات الذكية تحت الحساسات لعزلها عن تأثيرات الشد. ولا يتعرض أي مستشعر للبيئة الخارجية عدا مستشعر الرطوبة فقط، حيث تمنع طبقة أخرى من البوليمرات أي نفاذ لجزيئات الماء بواسطة مستشعرات الضغط ودرجة الحرارة".
ويعتمد الجهاز اللاصق الجديد على كلٍ من مبدأ الفصل بين الإشارات المتعددة، والبنية مزدوجة الطبقات التي تقلل من حجمه وتعزز راحة المستخدم، مُعززا بنموذج دقيق يعتمد على الذكاء الاصطناعي للتعرف على المشاعر.
إعلانالجهاز يشبه اللاصقة الطبية التي تُلصق على الجلد، بالتالي يمكن وضعه على الوجه أو الذراع أو الجبهة. ويتكامل مع تطبيقات الهاتف المحمول ومنصات الحوسبة السحابية، ما يجعله أداة مثالية للرصد عن بُعد في إطار خدمات الطب عن بُعد.
خلافا لأجهزة مراقبة الحالة التقليدية، لا يعتمد اللاصق الذكي الجديد على تحليل تعابير الوجه فقط، بل يدمجها مع إشارات بيولوجية أخرى. فمثلا يمثل ارتفاع حرارة الجلد الشعور بالغضب أو الدهشة، أما انخفاض حرارة الجلد فتصاحب الشعور بالحزن أو الخوف، وارتفاع رطوبة الجلد عادة ما تظهر أثناء الخوف نتيجة التعرق، أما التغيرات في معدل نبضات القلب فهي تصاحب أنواعا مختلفة من المشاعر.
يضيف تشينغ: "التعبير الظاهري يمكن أن يكون خادعا لنماذج الذكاء الاصطناعي، أما البيانات البيولوجية المُدمجة فلا تكذب وتزيد من دقة النموذج في التعرف على المشاعر البشرية". بالتالي، فإن جمع هذه البيانات بشكل متزامن يوفر صورة أوضح عن المشاعر الحقيقية، مما يتيح إمكانيات مذهلة في دعم الصحة النفسية وتقديم التدخل المبكر.
تلك البيانات المختلفة التي يجمعها الجهاز، تحولت إلى بيانات تدريب تغذى عليها نموذج ذكاء اصطناعي صممه الباحثون خصيصا لتمييز المشاعر، من خلال استخدام بيانات حقيقية من 8 متطوعين قاموا بمحاكاة 6 تعابير وجهية شائعة وهي السعادة، والدهشة، والخوف، والحزن، والغضب، والاشمئزاز 100 مرة لكل منها.
وبعد تدريب النموذج، أتى الفريق بمتطوعين جدد، وعرّضوهم لمقاطع فيديو تثير تلك المشاعر ولكن بشكل حقيقي، مثل مشاهد صادمة أو مخيفة أو مواقف تدعو للاشمئزاز. وقد نجح الجهاز في الاختبار وتمكّن من التمييز بين ادعاء المشاعر والمشاعر الحقيقية، وبدقة كبيرة، إذ تمكن من التعرف على 96% من المشاعر المزيفة مقارنة بقرابة الـ89% من المشاعر الحقيقية.
إعلانيقول "تشينغ": "لطالما مثّل تعقيد المشاعر البشرية تحديا كبيرا في تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي، لتمييز المشاعر الحقيقية من المزيفة، ورغم قلة حجم العينة، لكن نجحت إضافة بيانات مثل درجة حرارة الجلد والرطوبة ومعدل نبض القلب في التحسين من دقة النموذج".
من الرعاية النفسية إلى مراقبة المرضىيأمل الباحثون أن تفتح هذه التقنية، مع تأكد استخدامها عبر اختبارات مستقبلية أبوابا واسعة لتطبيقات طبية ونفسية في المستقبل، حيث يمكن استخدامها، في الرعاية النفسية عن بعد، للكشف عن حالات الاكتئاب أو القلق مبكرا. بالإضافة إلى مراقبة الحالة النفسية لمرضى الخرف أو التوحد، خاصة غير القادرين على التعبير عن أنفسهم.
كما يمكن استخدام هذه التقنية في العيادات البيطرية لرصد مشاعر الحيوانات بعد تعديل التقنية وفقا لفيسيولوجيتها. وقد تُستخدم في مراقبة الجروح المزمنة ومتابعة حالات مرضية لم يكن من الممكن متابعتها سابقا بتلك الدقة، مثل اضطرابات الجهاز العصبي.
يضيف تشينغ: "يتطلب الانتقال من الكشف عن المشاعر إلى التطبيقات الأخرى (مثل الكشف على المرضى) دمج إشارات بيولوجية جديدة ذات صلة مثل المؤشرات الحيوية في السوائل البيولوجية مثل العرق أو سوائل الخلوية" ويضيف: "وهذا من بين الاتجاهات البحثية التي نعمل عليها حاليا باستخدام مواد نانوية جديدة ونماذج ذكاء اصطناعي متقدمة بهدف تعزيز الاستقرار والتوافق الحيوي لتحقيق أفضل دقة تشخيصية وتقييم علاجي".
ورغم الإمكانيات الواعدة، فإن استخدام هذه التقنية يطرح عددا من التحديات الأخلاقية، خاصة فيما يتعلق بخصوصية البيانات. إذ قد يؤدي أي وصول غير مصرح به، أو خروقات البيانات، أو إساءة استخدام من قبل مقدمي التأمين، أو أصحاب العمل، أو أطراف ثالثة أخرى، إلى التمييز أو الوصم.
وفي هذا السياق، يوضح تشينغ: "تُعد الإشارات التي نرصدها بيانات شخصية حساسة. لذا فإننا نعتمد على تقنيات تشفير وإخفاء للهوية، بالإضافة إلى الحصول على موافقة المستخدم قبل جمع أو مشاركة أي بيانات".
إعلانويختتم مطمئنا، أن التقنية لا يجب استخدامها بشكل منفصل للتشخيص، بل كأداة داعمة ضمن منظومة متكاملة من أدوات التشخيص الطبي.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات الذکاء الاصطناعی
إقرأ أيضاً:
في ذكرى ميلاده.. «نجيب محفوظ» رجل صاغ القاهرة من طين الحكايات وصنع للروح العربية مرآتها الحقيقية
في كل ذكرى لميلاد نجيب محفوظ، تُفتح نافذة سرّية على وجدان الأمة؛ كأننا نتذكّر فجأة أن هذا الرجل لم يكن مجرد روائي، بل كان «ذاكرة جماعية» تمشي على قدمين، كان يمسك بالقلم كما يمسك العازف بوترٍ حساس، يضربه برفقٍ مرة، وينفجر منه اللحن مرة أخرى، ليرسم من خلاله ملامح الإنسان في ضعفه وقوته، خضوعه وتمرده، خطيئته وخلاصه.
لم يكن محفوظ يكتب روايات بقدر ما كان يكتب خريطة الروح، يقتفي أثر الإنسان في شوارع القاهرة، يلتقط تنهيدتها، يلاحق صمتها، ويعيد تشكيلها في نصوصٍ تشبه المدن القديمة: صلبة، معقدة، لكنها مسكونة بالدفء والدهشة، في يوم ميلاده، يعود السؤال الأبدي: كيف تحوّل ابن الجمالية الهادئ إلى الأب المؤسس للرواية العربية الحديثة، وإلى الاسم الذي هزّ المؤسسة الأدبية العالمية حتى فتحت له أبواب نوبل؟
من الجمالية إلى العالم.. رحلة طفل مفتون بالأسئلة
وُلد نجيب محفوظ عام 1911 في قلب القاهرة الفاطمية، بين الأزقة التي ستصبح لاحقًا وطنًا كاملاً لأبطال رواياته. لم يكن طفلاً صاخبًا؛ كان مراقبًا، ينصت أكثر مما يتكلم، يجمع التفاصيل الصغيرة مثل مقتنيات أثرية، ليعيد صياغتها في ذاكرته بحسّ فلسفي مبكر.
طموحه الأول كان الفلسفة، وقرأ بشغف لابن خلدون وتوفيق الحكيم واليونانيين، لكنه اكتشف سريعًا أن المقال لا يسعه، وأن الرواية هي الوسيط الأقدر على حمل أسئلته الوجودية، هكذا وُلد الروائي من رحم الفيلسوف.
بدأ محفوظ بكتابة الرواية التاريخية عن مصر القديمة، قبل أن يقفز إلى الحاضر بقوة، ليُطلق أكبر مشروع روائي عرفه الأدب العربي: الثلاثية. لم تكن الثلاثية مجرد حكاية عائلة، بل كانت وثيقة حية لبنية المجتمع المصري بين الحربين، وصورة عميقة لتحولات الطبقة والسلطة والوعي.
كاتب يكتب بالانضباط قبل الإلهام.. وسر الساعة الواحدة
كان نجيب محفوظ نموذجًا نادرًا في الانضباط: يكتب ساعة واحدة فقط في الصباح، في الموعد نفسه، وبالهدوء نفسه، وكأنه موظف في محراب الكتابة.
لم يؤمن بالكتابة المزاجية، وكان يرى أن “الإبداع الحقيقي يحتاج نظامًا صارمًا، وإلا ضاع العمر في محاولات لا تكتمل”.
الغريب أن هذا الانضباط لم يُنتج نصوصًا جامدة، بل أعمالًا مليئة بالروح، مشتعلة بالحياة، وكأن تلك الساعة الواحدة كانت نافذته الوحيدة على الخلود، ورغم شهرته الطاغية، كان يتجنب الأضواء، وينفر من الكاميرات، ويعيش حياة شديدة البساطة. حتى جائزة نوبل لم يذهب لاستلامها، وبقي وفيًّا لمقهاه وأصدقائه وطقوسه الصباحية.
«أولاد حارتنا».. الجرح الذي لم يندمل
من بين كل أعماله، تبقى رواية “أولاد حارتنا” هي الأكثر إثارة للجدل، والأقرب إلى قدره الشخصي، عندما نُشرت في الأهرام عام 1959 انفجرت معركة ثقافية كبرى، ووُجهت إليها اتهامات قاسية دون أن يقرأها معظم من هاجموها.
حُوصرت الرواية لسنوات ومنعت من النشر في مصر، وأصبح محفوظ هدفًا للغضب وسوء التأويل، حتى جاءت محاولة اغتياله عام 1994 على يد شاب لم يرَ الرواية في حياته.
ومع ذلك، بقي محفوظ ثابتًا: «أنا أكتب عن الإنسان.. وليس عن العقائد»، كان يؤمن أن الأدب لا يعادي أحدًا، بل يكشف الظلم أينما كان، ويبحث عن العدالة داخل النفس البشرية قبل أن يبحث عنها في العالم.
حكيم الحارة المصرية.. الذي عرف سرّ الإنسان
يقول مقربوه إنه كان قادرًا على سبر النفوس بنظرة واحدة.
لم يكن يرفع صوته، ولم يكن ساخرًا بطبعه، لكنه كان يرى ما لا يراه الآخرون: يقرأ القلق على الوجوه، ويتتبع الشهوات الصغيرة، ويُمسك بين السطور بما يختبئ خلف الأقنعة.
ولهذا أحب الناس أعماله.. لأنهم وجدوا أنفسهم فيها، كان محفوظ يكتب عن البسطاء، لكنه في الحقيقة كان يكتب عن البشرية كلها.
ما بعد نوبل.. العالم يكتشف القاهرة من جديد
عندما مُنح محفوظ جائزة نوبل للآداب عام 1988، تغيّر مكان الأدب العربي في العالم، أصبح اسم القاهرة مرتبطًا بالرواية، وأصبحت الحارة المصرية رمزًا عالميًا للدهشة الإنسانية، ترجمت أعماله إلى لغات العالم، وتحوّلت إلى أفلام ومسلسلات قاربت الوعي الجماهيري العربي لعقود.
وبعد محاولة اغتياله، ومع ضعف يده، لم يتوقف عن الكتابة. كان يملي “أحلام فترة النقاهة” بصوت خافت، كأنها رسائل أخيرة يبعثها من على حافة الألم، وتحوّلت تلك الأحلام القصيرة إلى واحدة من أهم وأغرب تجارب السرد العربي الحديث.
في ميلاده.. نعود إلى الرجل الذي كتب ليحيا
في ذكرى ميلاد نجيب محفوظ، نعود إلى الرجل الذي لم يكتب ليشتهر، بل كتب ليعيش، الذي حوّل الحياة العادية إلى ملحمة، والمقهى إلى صالون فلسفي، والحارة إلى كونٍ كامل.
نجيب محفوظ لم يكن صوت جيل، بل صوت الإنسان في رحلته القلقة نحو الحقيقة، وبين ميلاده ورحيله، بقي شيء واحد ثابتًا: «أن الأدب يمكنه أن يغيّر العالم… حين يكتبه رجل يعرف سرّ الروح».