في كل ذكرى لميلاد نجيب محفوظ، تُفتح نافذة سرّية على وجدان الأمة؛ كأننا نتذكّر فجأة أن هذا الرجل لم يكن مجرد روائي، بل كان «ذاكرة جماعية» تمشي على قدمين، كان يمسك بالقلم كما يمسك العازف بوترٍ حساس، يضربه برفقٍ مرة، وينفجر منه اللحن مرة أخرى، ليرسم من خلاله ملامح الإنسان في ضعفه وقوته، خضوعه وتمرده، خطيئته وخلاصه.

لم يكن محفوظ يكتب روايات بقدر ما كان يكتب خريطة الروح، يقتفي أثر الإنسان في شوارع القاهرة، يلتقط تنهيدتها، يلاحق صمتها، ويعيد تشكيلها في نصوصٍ تشبه المدن القديمة: صلبة، معقدة، لكنها مسكونة بالدفء والدهشة، في يوم ميلاده، يعود السؤال الأبدي: كيف تحوّل ابن الجمالية الهادئ إلى الأب المؤسس للرواية العربية الحديثة، وإلى الاسم الذي هزّ المؤسسة الأدبية العالمية حتى فتحت له أبواب نوبل؟

من الجمالية إلى العالم.. رحلة طفل مفتون بالأسئلة

وُلد نجيب محفوظ عام 1911 في قلب القاهرة الفاطمية، بين الأزقة التي ستصبح لاحقًا وطنًا كاملاً لأبطال رواياته. لم يكن طفلاً صاخبًا؛ كان مراقبًا، ينصت أكثر مما يتكلم، يجمع التفاصيل الصغيرة مثل مقتنيات أثرية، ليعيد صياغتها في ذاكرته بحسّ فلسفي مبكر.

طموحه الأول كان الفلسفة، وقرأ بشغف لابن خلدون وتوفيق الحكيم واليونانيين، لكنه اكتشف سريعًا أن المقال لا يسعه، وأن الرواية هي الوسيط الأقدر على حمل أسئلته الوجودية، هكذا وُلد الروائي من رحم الفيلسوف.

بدأ محفوظ بكتابة الرواية التاريخية عن مصر القديمة، قبل أن يقفز إلى الحاضر بقوة، ليُطلق أكبر مشروع روائي عرفه الأدب العربي: الثلاثية. لم تكن الثلاثية مجرد حكاية عائلة، بل كانت وثيقة حية لبنية المجتمع المصري بين الحربين، وصورة عميقة لتحولات الطبقة والسلطة والوعي.


كاتب يكتب بالانضباط قبل الإلهام.. وسر الساعة الواحدة

كان نجيب محفوظ نموذجًا نادرًا في الانضباط: يكتب ساعة واحدة فقط في الصباح، في الموعد نفسه، وبالهدوء نفسه، وكأنه موظف في محراب الكتابة.
لم يؤمن بالكتابة المزاجية، وكان يرى أن “الإبداع الحقيقي يحتاج نظامًا صارمًا، وإلا ضاع العمر في محاولات لا تكتمل”.

الغريب أن هذا الانضباط لم يُنتج نصوصًا جامدة، بل أعمالًا مليئة بالروح، مشتعلة بالحياة، وكأن تلك الساعة الواحدة كانت نافذته الوحيدة على الخلود، ورغم شهرته الطاغية، كان يتجنب الأضواء، وينفر من الكاميرات، ويعيش حياة شديدة البساطة. حتى جائزة نوبل لم يذهب لاستلامها، وبقي وفيًّا لمقهاه وأصدقائه وطقوسه الصباحية.

«أولاد حارتنا».. الجرح الذي لم يندمل

من بين كل أعماله، تبقى رواية “أولاد حارتنا” هي الأكثر إثارة للجدل، والأقرب إلى قدره الشخصي، عندما نُشرت في الأهرام عام 1959 انفجرت معركة ثقافية كبرى، ووُجهت إليها اتهامات قاسية دون أن يقرأها معظم من هاجموها.

حُوصرت الرواية لسنوات ومنعت من النشر في مصر، وأصبح محفوظ هدفًا للغضب وسوء التأويل، حتى جاءت محاولة اغتياله عام 1994 على يد شاب لم يرَ الرواية في حياته.

ومع ذلك، بقي محفوظ ثابتًا: «أنا أكتب عن الإنسان.. وليس عن العقائد»، كان يؤمن أن الأدب لا يعادي أحدًا، بل يكشف الظلم أينما كان، ويبحث عن العدالة داخل النفس البشرية قبل أن يبحث عنها في العالم.

حكيم الحارة المصرية.. الذي عرف سرّ الإنسان

يقول مقربوه إنه كان قادرًا على سبر النفوس بنظرة واحدة.
لم يكن يرفع صوته، ولم يكن ساخرًا بطبعه، لكنه كان يرى ما لا يراه الآخرون: يقرأ القلق على الوجوه، ويتتبع الشهوات الصغيرة، ويُمسك بين السطور بما يختبئ خلف الأقنعة.

ولهذا أحب الناس أعماله.. لأنهم وجدوا أنفسهم فيها، كان محفوظ يكتب عن البسطاء، لكنه في الحقيقة كان يكتب عن البشرية كلها.


ما بعد نوبل.. العالم يكتشف القاهرة من جديد

عندما مُنح محفوظ جائزة نوبل للآداب عام 1988، تغيّر مكان الأدب العربي في العالم، أصبح اسم القاهرة مرتبطًا بالرواية، وأصبحت الحارة المصرية رمزًا عالميًا للدهشة الإنسانية، ترجمت أعماله إلى لغات العالم، وتحوّلت إلى أفلام ومسلسلات قاربت الوعي الجماهيري العربي لعقود.

وبعد محاولة اغتياله، ومع ضعف يده، لم يتوقف عن الكتابة. كان يملي “أحلام فترة النقاهة” بصوت خافت، كأنها رسائل أخيرة يبعثها من على حافة الألم، وتحوّلت تلك الأحلام القصيرة إلى واحدة من أهم وأغرب تجارب السرد العربي الحديث.

في ميلاده.. نعود إلى الرجل الذي كتب ليحيا

في ذكرى ميلاد نجيب محفوظ، نعود إلى الرجل الذي لم يكتب ليشتهر، بل كتب ليعيش، الذي حوّل الحياة العادية إلى ملحمة، والمقهى إلى صالون فلسفي، والحارة إلى كونٍ كامل.

نجيب محفوظ لم يكن صوت جيل، بل صوت الإنسان في رحلته القلقة نحو الحقيقة، وبين ميلاده ورحيله، بقي شيء واحد ثابتًا: «أن الأدب يمكنه أن يغيّر العالم… حين يكتبه رجل يعرف سرّ الروح».

طباعة شارك نجيب محفوظ ذاكرة جماعية خريطة الروح شوارع القاهرة الجمالية

المصدر: صدى البلد

كلمات دلالية: نجيب محفوظ ذاكرة جماعية شوارع القاهرة الجمالية نجیب محفوظ لم یکن

إقرأ أيضاً:

إبراهيم النجار يكتب: وعود ترامب.. وماذا بعد؟!

يعيش عالمنا المعاصر، العديد من الصراعات الإقليمية والدولية الواسعة. والتي خلفت آلاف القتلي والجرحي والنازحين. فقد شهد العالم في عام 2023، أكثر من 183 نزاعا مسلحا. وهو الرقم الأعلي منذ عقود. حسب تقرير المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، في لندن. حيث لا يبدي التقرير، تفاؤلا كبيرا تجاه حالة السلم والأمن الدوليين. بل إنه يرسم صورة قاتمة للعنف المتصاعد في الكثير من بقاع العالم. فمنذ وصوله إلي البيت الأبيض، وعد الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، بالعمل علي وقف الحروب، وإنهاء الأزمات، واحلال السلام. وعد ترامب، بعالم أفضل. ولكنه هدد بشن حروب في مناطق أخري. فما الذي اسفرت عنه وعود وتعهدات ترامب؟. 


يظل اتفاق وقف إطلاق النار، بين إسرائيل وحماس، أكثر الملفات أهمية. وقد اتخذت الإدارة الأمريكية، آليات لمراقبة تنفيذ الاتفاق. علي الرغم من الخروقات الإسرائيلية المتكررة. تقارير أمريكية، تفيد بأن ترامب، يضغط بشدة سعيا للانتقال إلي المرحلة الثانية من الاتفاق. وتشمل إدارة غزة، عبر حكومة انتقالية، ورسم خطة اقتصادية لإعادة اعمار القطاع. بيد أن هذا المسعي، سيظل معلقا بإنتظار الاجتماع المرتقب بين ترامب ونتانياهو، في التاسع والعشرين من الشهر الجاري. في لبنان، لا يزال الوضع يسوده قلق يومي، جراء استمرار الخروقات الإسرائيلية، برا وجوا. ففي السابع والعشرين من نوفمبر الماضي، وبرعاية أمريكية، جري التوصل إلي اتفاق هدنة بين إسرائيل وحزب الله. إلا أن الاتفاق ظل أبعد ما يكون عن التنفيذ.


أوروبيا، يتذكر العالم، كيف وعد ترامب، بإنهاء الحرب بين أوكرانيا وروسيا، في ظرف 48 ساعة. ولحد الآن تواجه خطته لإنهاء الحرب، التي يري مراقبون أنها راعت المصالح الروسية. وقد واجهت معارضة من الأوروبيين، بالنظر إلي أنها لم تحقق تطلعاتهم وتطلعات الأوكرانيين. إلي آسيا، وفي ظل الاشتباكات المتقطعة بين باكستان وأفغانستان، لا تزال الهدنة الهشة علي الحدود. بانتظار ما وعد به ترامب. فقبل شهرين صرح الرئيس الأمريكي، بأنه سيعمل علي إنهاء التوتر بين البلدين سريعا. لكن تطورات الساعات الأخيرة، تشي بمزيد من التصعيد. بعد الاعلان عن مقتل جندي وأربعة مدنيين في أفغانستان. أما النزاع بين تايلاند وكمبوديا، حيث وقع البلدان في أكتوبر الماضي، اتفاق سلام في كوالالمبور، بحضور ترامب. تظهر الأحداث الأخيرة، إنتهاكا للاتفاق، إثر إعلان الجيش التايلاندي مقتل أثنين من جنوده، في مواجهات حدودية مع كمبوديا. وتعهد بالانتقام. كذلك القارة الأفريقية، وبعد تعهد الرئيس الأمريكي، بإنهاء الصراع بين الكونغو الديمقراطية ورواندا. وقع البلدان بحضوره أيضا، اتفاق سلام مطلع الشهر الجاري، وصفه ترامب، بالتارخي. لكن الاتفاق بات في مهب الريح، بعد إعلان تقدم حركة "أم 23"، المدعومة من رواندا، في شرق الكونغو. فهل الوعود الأمريكية، وصلت إلي خواتيمها؟ وما الذي تحقق من وعود وتعهدات ترامب، حتي اللحظة؟

طباعة شارك الصراعات الإقليمية لندن دونالد ترامب

مقالات مشابهة

  • دروب مصر.. مبادرة جديدة لإعادة قراءة الجمالية في ذكرى ميلاد نجيب محفوظ
  • غدًا.. ورشة «دروب مصر» بمتحف نجيب محفوظ بمناسبة الذكرى الـ 114 لميلاده
  • من شوارع القاهرة إلى جائزة نوبل.. كيف صنع نجيب محفوظ مجده؟
  • بمناسبة ذكرى ميلاد محفوظ.. انطلاق ورشة "دروب مصر"
  • يوسف القعيد: نجيب محفوظ كان منظمًا بشكل صارم وصاحب رسالة وتفانٍ في إيصالها
  • في ذكرى ميلاده.. أبرز المعلومات والمحطات في حياة ممدوح الليثي
  • إبراهيم النجار يكتب: وعود ترامب.. وماذا بعد؟!
  • مدير معرض الكتاب يكشف تفاصيل الاستعداد لدورة نجيب محفوظ
  • أحمد مجاهد: الدورة الجديدة لمعرض القاهرة الدولي للكتاب تحت شعار نجيب محفوظ