تكشف الحرب الوحشية المستمرة على غزة ما لا يحصى من نتائج التطرف العميق في هيكل إسرائيل، وكيف يمكن أن تبيد السياسات الإسرائيلية المتطرفة أدنى وأبسط شروط السلم والتعايش المشترك، وما المسيرة اليهودية بقيادة وزير الأمن الداخلي التي استهدفت تخريب الأحياء العربية في القدس الأسبوع الماضي، إضافة لإعلان وزير المالية مشروع بناء مستوطنات جديدة في الضفة، إلا تأكيدات على شرعنة إسرائيل لتطرفها، وهذا التطرف الرسمي ليس بجديد، ولعل الجديد نسبيًا هو ارتفاع أصوات رؤساء إسرائيليين سابقين وزعامات داخلية بدأت تنتقد هذا التطرف، فبدأنا نسمع منهم هم اتهامات الإبادة في غزة، والجيش الإسرائيلي الذي هوايته قتل الرضّع، والشبه بين إسرائيل وبين حكومة جنوب أفريقيا العنصرية السابقة؛ فكما يبدو أن التطرف الإسرائيلي أصبح يترسخ كصفة لازمة للدولة يضيق به حتى أهلها.
أما في الغرب فمن الواضح أن غالبية الدوائر الغربية لراسمي السياسات اليوم تتبنى الحل الغربي الذي ورثته من الحقبة الاستعمارية، وهو الحل بالقوة والنفوذ، ذلك الحل الذي عمل على تهجير اليهود الغربيين إلى فلسطين، والذي أقام دولة إسرائيل عبر جهود جماعات إرهابية يهودية، وكما يبدو أن الغرب ما يزال مؤمنًا بهذا الحل القسري للمسألة اليهودية الغربية عبر خلق مشكلة شرقية إقليمية أكبر، وعبر إشعال فتيل العداوة بين اليهود والعرب، وهذا ما تمثله وتفعله إسرائيل.
في الواقع الشرقي للقرن العشرين فإنه حين قامت دولة إسرائيل عام ١٩٤٨م كان عدد من الجاليات اليهودية العربية تعيش في البلاد العربية بطبيعة الحال، وتلك الجاليات اليهودية العربية لا تربطها علاقة بالمسألة اليهودية الغربية وكوارثها ومآسيها، وكان اليهود العرب متوزعين في عدة دول عربية، من العراق للجزيرة العربية إلى مصر، ولعل آخر جالية يهودية عربية في المشرق العربي كانت الجالية اليمنية، والتي خرجت مع حرب غزة الأخيرة حسب الأخبار المتداولة، وفي حد علمنا فإنه لم يبق اليوم من اليهود العرب غير ما تبقى من يهود المغرب العربي؛ أما يهود المشرق العربي فقد أجبروا على الهجرة بسبب قيام دولة إسرائيل وتفجيراتها، على أننا لا نخلي مسؤولية الحكومات العربية آنذاك التي فرطت بمواطنيها اليهود، مدفوعة بالحمية المفترضة، وهجرة اليهود العرب القسرية لإسرائيل تلك أجبرتهم على الانخراط رغمًا عنهم في دولة قومية عنصرية، تصنيفها لليهود يتبع معايير غريبة مختلة، فأصبح اليهود العرب في أسفل سلمها التصنيفي الشاذ.
لو أن تلك الجاليات العربية من اليهود بقت في البلدان العربية الشرقية إلى يومنا، كما يفترض بطبيعة الأمور دون التدخلات السياسية، لكان لتلك الجاليات اليهودية أن تشكل وضعًا طبيعيًا بدل وضع مختلق بالقوة في إسرائيل، وفي خضم هذا العداء العربي الإسرائيلي في عقده الثامن كان يمكن لذلك الوجود الفعلي أن يؤسس خطابًا بديلًا للخطاب الصهيوني المتطرف، وكان لوجودهم العربي أن يمثل دليلا حيا واقعيا على نجاعة أشكال التعايش الطبيعية، التي عرفها الشرق طوال قرون، دون الحلول الغربية القسرية، قبل قيام إسرائيل. واليوم بينما تعلن إسرائيل عدائها السافر لإيران فإن الواقع هو أن تهجير اليهود لم يحدث في إيران حيث ما تزال تعيش فيها جالية يهودية فارسية.
كان الكاتب المسرحي الراحل سعدالله ونوس يقول إننا لن نتغلب على الصهيونية قبل أن نتخلص من صهيونيتنا نحن، وهو يعني بطبيعة الحال تطرفنا المضاد، كما وكتبت الأسبوع الماضي المسرحية العمانية آمنة الربيع في مقالها بهذه الجريدة طارحة التساؤل عن غياب العرب والنخب المثقفة معنا عن التظاهر من أجل وقف الحرب على غزة وإدانة إسرائيل، وما كتبته يبعث على التفكير فعلًا في الوضع العربي المخنوق التعبير، والذي أصبح وضعًا مشبوهًا حيث كل خيار أمام الأفراد هو عبارة عن تحزّب لفئة، حتى بات المرء يخشى أن يناصر العدالة التي يؤمن بها كي لا يسجل موقفًا يحسب لصالح هذه الحركة أو تلك، والواقع أن حرب غزة تثير الكثير من المسائل التي يجب علينا التفكير فيها بجدية.
اليوم تتشكى إسرائيل من حركة المقاومة الإسلامية حماس، بينما يعلم الجميع ما عملت عليه إسرائيل وأجهزتها الاستخباراتية والأمنية من تخريب واغتيال وخنق كل أشكال النضال والمقاومة الفلسطينية، التي كانت جزءًا من المقاومة العالمية وشارك فيها أفراد من مختلف دول العالم، اليسارية منها خاصة، لخطابها المتقدم والمعاصر المختلف، لكن إسرائيل حرصت على تدمير كل ذلك واغتياله وخنقه، بما في ذلك منظمة التحرير الفلسطينية التي حبستها وأوثقتها بمواثيق عملية سلام مزيفة، ووعود جوفاء، جعلت السلطة الفلسطينية مسلوبة المعنى والرمزية، مجردة من السلطات خارج مناطق الحكم الذاتي. منذ عودة ياسر عرفات، الذي قضى نحبه عام ٢٠٠٤م في حصار دام عامين، عبر اتفاقيات أوسلو للسلام، تلك العملية التي يتعرض لها بدقة وتتبع المفكر الفلسطيني الأمريكي إدوارد سعيد في كتابه اتفاق أوسلو، وهو القائل مرة: «لا معنى للتضامن مع القضية الفلسطينية قبل أن يسبقه النقد ويرافقه».
نحن بحاجة إلى النقد، لا نقد الآخر فحسب بل نقد أنفسنا قبل ذلك، لذلك علينا إدراك ووعي حدود وعمق التطرف الذي تجسده الحكومة الإسرائيلية الآن، بما هو تطرف القومية المتعصبة لنقاء العرق، والدين والثقافة، وبينما احترق يهود الغرب بنار هذه الفكرة المتطرفة نفسها في معسكرات النازية، وتحاول ألمانيا اليوم التكفير عن ماضيها بحمل شعلة محاربة معاداة السامية، فإن إسرائيل لا تفعل بالمقابل شيئًا آخر غير إعادة إنتاج المحرقة النازية لليهود، عبر تبديل الأدوار، واستبدال النازية بالإسرائيلية واليهود الغربيين بالعرب الفلسطينيين؛ والواقع أن دول القومية والنقاء العرقي المزعوم هي تجارب بائسة لا تستطيع أن تخرج بنتائج أفضل من إبادة البشر، ولذلك شواهد معاصرة لا تخفى من سكان أمريكا اللاتينية إلى الزنجباريين العرب إلى الأرمن والأكراد والبوسنيين والتوتسي إلى بورما.
إن الخطاب الذي يستدعي التفوق الذاتي، والذي يبحث في الآخر عن عدو، أو ظل عدو، يقوم بشيطنته، ليحكم عليه سلفًا بالجحيم، ويهدر حقه بالحياة، ولا يرى في الآخر غير ذلك العدو الشيطاني الذي يستحق الحرق والتدمير، فيما يحتكر «الجنة» والحقوق المدنية والقانونية له ولخاصته، إنما هو خطاب ظلامي متطرف، لا يستطيع أن يعيش دون ذلك العدو، وسيخترعه اختراعًا إن لزم الأمر، وهذا ما يغذيه التطرف، ويريد أن يستغرق حياة أتباعه فيه، بل ويعرضهم لكل المخاطر والمآسي المترتبة على ذلك، كما ويصنف حتى مجموعته الذاتية التي تكونه إلى مع وضد، وبذلك يعيد شطر ذاته إلى ما لا نهاية، وهذا هو الجحيم بعينه إذا استعدنا بيت عمر الخيام: إن الجحيم لصحبة الجهّال.
إذا سلمنا جدلا بأن التطرف غير موجود معنا فإن الجرائم الإسرائيلية تدفعنا دفعًا للتطرف المضاد بالمقابل، وهو ما يجب أن نخشى ونحذر الوقوع فيه، لأن التطرف المضاد ربما يكون أسوأ من التطرف نفسه، بما هو مجرد ردة فعل، والواقع أن لا شيء يحمي المجتمعات من ذلك مثل الوعي المستنير، بأن ما حدث ويحدث في غزة هو جريمة مرفوضة سواء في غزة أو في أي مكان آخر من العالم بلا استثناء، وكوننا وقعنا كعرب ضحية مثل هذه السياسات والقوى العسكرية الغاشمة فإن ذلك يشعرنا حجم الظلم وحجم المسؤولية الإنسانية كي نقف مع كل ضحايا التطرف والنزعات العرقية في أي مكان من العالم، وأن لا نسقط في الدائرة التاريخية المظلمة التي يسجن التطرف فيها نفسه ويريد بالقوة أن يسجن العالم بأسره داخلها.
إبراهيم سعيد شاعر وكاتب عُماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الیهود العرب
إقرأ أيضاً:
ما الذي يُمكن تعلّمه من أحداث السويداء؟
الأحداث التي وقعت مؤخرًا في السويداء بسوريا لم تكن استثناء من العالم العربي، بل مرآة له. وعلى الرغم من أن جذور هذه الأزمة الطائفية لم تبدأ في الأحداث الأخيرة؛ إلا أن صدامات يمكن وصفها بالطائفية وقعت في شهر أبريل في جرمانا، وأشرفية صحنايا، ثم امتدت للسويداء، وتصاعدت الأحداث بعد ذلك إلى ما شاهده الجميع على الشاشات، ولا يعنينا هنا تسلسل الأحداث ذاتها بقدر ما يعنينا أن الحالة والخطاب الطائفي الذي وقع في السويداء ليس نشازًا في المنطقة العربية -كما هو معلوم-، بل نمط مأزوم من التسلسل التاريخي ليس حتميًّا بالطبع، لكنه متكرر بشكل كبير جدًّا، لا سيما مع سقوط دولة أو استبدالها بأخرى، ومثال عليه ما حدث عقب الإطاحة بنظام صدام حسين من حروب وقتالات طائفية، ما يصفه ستيفن سيدمان أنه «إرث استعماري بريطاني».
يتضح لنا أن المجتمعات العربية -أو كثير منها على الأقل- لا تزال حتى اليوم عاجزة عن تجاوز الطائفية، وكثير منها يعيش في الماضي على الرغم من تفاقم المشكلات التي نعانيها في هذه المنطقة، وتزايدها يوما بعد يوم، إلا أن كثيرًا من مجتمعاتنا لا تزال تستدعي الطائفة بل وتعيش في تاريخها محاولة أن تدافع عنها في كثير من الأحيان على أنها الحق الأوحد، «وكلٌّ يدّعي وصلًا بليلى/ وليلى لا تقرّ لهم بذاكا»؛ إذ الجميع يحاول باسم الحق والعدل والتوحيد والغيرة والتدين وغيرها أن يدافع عن الطائفة التي ينتمي إليها ناسيًا بذلك أن يعيش في عصره، ويطرح تساؤلات حول الوضع الذي يعيش فيه، أو عملية الإبادة الجماعية والتجويع التي يتعرض لها إخوته.
تبدأ الطائفية من الذات؛ لأن الحالة الجماعية للعيش داخل «الحظيرة» لا تتم إلا بإقناع الذات أولا بالتماهي مع الجماعة وإلا فلا قيمة لها؛ ولذلك تكثر عند الطائفيين الخطابات والشعارات التي تستدعي الماضي ورموزه دون باقي السياقات وتعقيداتها. لذلك فالذات هي المركز الأول للطائفية، وكلما كان الأمر منطلقا من الداخل أصبح أكثر استدامة؛ فالإرهابي الذي ينطلق إرهابه من الداخل لاعتقاده أنه بذلك يخدم فكرته أو دينه أو وطنه وغيره يكون أكثر تحمُّسًا وإقداما من الآخر الانتهازي؛ ولذلك يستغل هذا الصنف الأول لينفذ العمليات الانغماسية والانتحارية مقتنعين بذلك سيرهم إلى الجنة، أو خطوة في تحقيق الجنة على الأرض من خلال قتل المدنيين والأبرياء. والطائفيون كذلك؛ فكلما كان هذا الذي ينطلق في طائفيته مقتنعا من الداخل بالصحة المطلقة لفكرته والخطأ المطلق لأفكار الآخرين -وليتها بقيت عند الاعتقاد الداخلي فقط!-؛ فإن خطابه يتسم بالتشدد أكثر.
وهكذا يصنع منطق الانغلاق المذهبي دون محاولة النظر إلى الصورة الأكبر التي يُمكن للجميع العيش فيها في وطن واحد يكفيهم جميعًا. هذه الخطابات تصنع هويات طائفية لا هويات وطنية أو إنسانية -بعد أكثر من ربع قرن على كتاب أمين معلوف-، وهي المسيطرة على العقل، وليس أدل على ذلك من الأحداث المتكررة والمستمرة التي نراها؛ فالمشكلة أعمق من الخطاب الطائفي وحده، أو من عدم القدرة على الـ «عيش مع الآخر، لكنها تتعدى ذلك لتكون مشكلة عدم القدرة على بناء دولة، وعدم القدرة على بناء مجتمع من الأساس، ثم تصدير هذه الخطابات للأجيال التالية، وهكذا في دوامة مستمرة منذ ما قبل الحرب الأهلية اللبنانية حتى ما بعد أحداث السويداء.
تعاني كثير من الدول العربية من غياب واضح للعقد الاجتماعي بين السلطة السياسية والمجتمع، وبالتالي؛ فإن الأمر يتطور من عدم الاستقرار السياسي والقانوني حتى يصبح الوطن وما يتعلق به من مفاهيم أو ألفاظ لا يشكّل ملاذًا آمنًا للأفراد، فيضطرون حينها للبحث عن ملاجئ مختلفة، وهنا تظهر الطائفة باعتبارها الملجأ والملاذ لأفرادها؛ لأنها تشكلهم في مجتمعات مغلقة -غيتوهات- الكلمة العليا فيها للقيادات الدينية أو العرقية، حتى يتماهى الفرد مع الجماعة في حماية المفهوم الوهمي أو الذهني المسمى بالطائفة. ولذلك؛ فغياب هذا العقد الاجتماعي الواضح الذي يُمكّن الدولة والمجتمع من معرفة حقوق كل طرف وواجباته يقود لمثل هذا، وفي كثير من الأحيان يقود إلى الطغيان الذي يحاول أن يفرض عقدًا بالإجبار لا بالتشارك والرضى.
إن عدم تجاوز الطائفية حتى اليوم في المجتمعات العربية يشكّل فشلًا ذريعًا للنخب، سواء النخب السياسية أو الثقافية أو غيرها؛ لأنها لم تستطع حتى اليوم إيجاد مشروع حقيقي ينهي هذه الماضوية والسكن في التاريخ، بل ربما زاد بعضهم من حدتها والقطبية التي تحدث من خلالها. ويجب أن تتحمل هذه النخب مسؤوليتها في الوصول بالوعي الذاتي إلى الواقع -إذ سؤال المستقبل حتى اليوم مبكر للأسف-؛ لأن الوعي يجب أن يكون حاضرًا في الواقع اليومي، لا في مشكلات من مضى، فـ«تلك أمة قد خلت» وما على أهل هذا العصر من مشكلات أولئك أو صراعاتهم أو غيرها، وفي أحسن الأحوال يمكن فقط أخذ العبرة منهم، ودراستهم لإصلاح الواقع المعاصر، لا العيش معهم حتى يصبح الفرد أو المجتمع في زمنين لا يصلح لأي منهما، فلا هو القادر على العودة بالزمن للماضي، ولا هو قادر على العيش مع أهل هذا العصر.
والمتتبع لجميع حالات الانقسام الطائفي في المنطقة يجد أنها استغلت من قِبل طرف خارجي لتنفيذ أجندته السياسية أو العسكرية. فالطائفية فرصة المتربص الخارجي الذي يستغلها ليطبق المقولة القديمة «فرّق تسد»، وكثيرًا ما استغلت الصراعات الطائفية وضخمت الخلافات التفصيلية العلمية التي كان ينبغي أن تناقش في أروقة العلم، ثم يغلق عليها الباب ولا تخرج للشارع، فجُعلت قضايا ذات أهمية كبرى ينهدم بها الدين أو المذهب أو الطائفة.
وقد استعملت هذه الطريقة القوى الاستعمارية لقرون، بل حاولت صنع خلافات جديدة لم تكن موجودة سواء طبقية أو فكرية أو غيرها، وبقيت جميع هذه الخلافات حتى اليوم، فانظر إلى مقولة سيدمان التي جاءت في بداية المقال «إرث استعماري بريطاني» تشَكّل وظهر واضحًا في ما بعد 2003، فقد كان يتراكم تحت التجربة التاريخية والسياسية، ولما تسنّت له الفرصة ظهر على شكل صراعات أهلية. وهكذا اليوم تستغل إسرائيل هذه الصراعات الطائفية لتتغلغل في الداخل العربي، ليس سرّا كما كان في السابق، بل أمام شاشات الإعلام والهواتف التي تُصوّر. فقد استغلت الصراع في السويداء لتضرب القصر الرئاسي في دمشق؛ إذ أعطت الصراعات الطائفية الدافع لإسرائيل من أجل الدخول، ولا أود أن أقول «الشرعية» بالطبع؛ فوجود إسرائيل بأكمله ليس شرعيًّا، لكن ما الشرعية في عالم الغابات الذي نعيش فيه اليوم؟
لا بد أن يبدأ الإصلاح المجتمعي في الوطن العربي من الذات الفردية أولًا أن ينشأ الفرد متصالحًا مع ذاته ومتقبّلا للآخر، فلا يشعر منه بالخوف، بل بالألفة، وأن ينظر إلى ما هو أبعد من طائفته أو مذهبه، وأن تكون هويته الأولى هي الهوية الوطنية أو المدنية التي يتشاركها مع غيره في إطار الدولة، لا هوية الطائفة والمذهب؛ لأن الهوية كلما ضاقت وأصبحت أكثر حدية أبرزت السمات المتطرفة والسلوكيات العنيفة في الإنسان على عكس إذا ما اتسعت؛ فإنها تتقبل الآخر المختلف ليس بالضرورة أن تؤمن بما يؤمن به، لكنها تؤمن بأن له الحق في الحياة بحرية أيضًا دون اعتداء عليه أو الإضرار به لمجرد مذهبه أو طائفته. ولذا فالتغيير يبدأ من مراجعة الذات والخطاب الموجّه إليها سواء من الداخل أو من الخارج، خطاب الأسرة والمدرسة والمجتمع، وأن تحاول الذات طرح أسئلة متعلقة بمدى تعددية الخطاب الموجه إليها في المقام الأول.
إذا بقينا على هذا الحال دون تجاوز الطائفية وخطاباتها المقيتة فإن كل حديث حول النهضة أو الديمقراطية أو الحرية هو ترف؛ فالمجتمع يقتل بعضه بعضا، لكن -ولأن الكتابة وسيلة مقاومة وإصلاح- أقول: إن علينا أن نعي أن عدونا واحد، وسبله في قتلنا واحدة، وأننا في مقتلة واحدة، ومصير واحد، فإن بقينا نقتل بعضنا بعضا لم نخدم إلا هذا العدو بأن أرحناه من عمله، فإن لم نستطع الآن في هذه اللحظة التي ربما لم ولن نمر بحالة أكثر انحطاطا منها أن نفكر في مصيرنا المشترك بدل التفكير في الانقسامات الصغيرة فمتى نقدر على ذلك؟