القرارات المتعثرة.. إرباك للمواطن وإعاقة للتنمية
تاريخ النشر: 3rd, June 2025 GMT
سعيد بن محمد الجحفلي
القرار هو عملية ذهنية يقوم بها الفرد لاختيار مسار معين من بين عدة مسارات ممكنة، وتنحصر هذه العملية بين صنع القرار، الذي يمثل تحديد المشكلة وتحليلها وطرح البدائل لحلها، وبين اتخاذ القرار عبر اختيار أحد البدائل المناسبة والمتاحة لحل المشكلة.
والقرارات الإدارية التي تصدرها الوحدات الخدمية في الدولة ذات أهمية بالغة، كونها تلامس مصالح المواطنين اليومية وتنظم آلية سوق العمل، لذا فمن الأهمية بمكان أن تخضع هذه القرارات للمزيد من المراجعات والنقاشات، والاطلاع على أكبر قدر ممكن من المعلومات الدقيقة والحديثة والشاملة وفق برامج زيارات ميدانية جادة للوقوف على التفاصيل في إجراءات العمل التي تُنفذ على أرض الواقع، قبل أن تصدر ويُعمل بها، لأن المواطن هو من سيتحمل تبعات تلك الأخطاء ويدفع الثمن باهظًا، سواء عبر الغرامات والرسوم أو التأثيرات السلبية على سوق العمل بشكل عام.
والقادة الإداريون هم المعنيون باتخاذ القرارات الإدارية التي تخدم أكبر شريحة في أي مجتمع، لذلك فهم مؤتمنون أمام ولي الأمر على مصالح الشعب قبل إصدار أي قرار ينظم منافع الناس. فبقدر فشل قراراتهم في تقديم الخدمة للجمهور وتحقيق توقعاتهم، بقدر ما سوف يعاني متلقي الخدمة من معاناة وزيادة التكلفة إذا كانت القرارات غير مرضية.
وهنا نستعرض بعض القرارات القيادية الحاسمة التي اتخذها قادة عظام وغيرت مجرى التاريخ...
كانت أولى تلك القرارات ما اتخذه نبي هذه الأمة وقائد البشرية سيدنا محمد ﷺ، حين فاوضته قريش على ترك الدعوة! فكان قرارًا حاسمًا تجلت فيه كل معاني الثقة والتحدي والديمومة، حيث قال: "والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك دونه ما تركته". عندها تجلت الرؤية وحُسم الأمر على الأرض، وانتصر وحي الله الذي لا غالب له.
وفي عهد الخليفة الراشد الأول أبو بكر الصديق رضي الله عنه، ارتدت الكثير من القبائل العربية، ورفض البعض الآخر دفع الزكاة، فاتخذ الخليفة الراشد قرارًا حازمًا أذهل كبار الصحابة، فكان قرارًا مُلهِمًا لتصويب المرحلة ومسار الدعوة، وليؤكد أن تعاليم الدين لا يمكن تجزئتها أو التنازل عن أي ركن مهما بلغت التكاليف، حيث قال: "والله لو منعوني عِناقًا أو عِقالًا كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم على منعهما".
أما في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فكان معروفًا بقراراته الجريئة للنهوض بالدولة الإسلامية في مختلف المجالات، مثل إنشاء الدواوين وإقامة الحدود والتركيز على العدالة، وكان أبرز قراراته تعيين أهل الشورى لاختيار خليفة المسلمين من بعده، وهو قرار ثوري في نظام الحكم الإسلامي لضمان انتقال السلطة بطريقة سلمية ومنظمة واختيار الخليفة الأكفأ.
وفي عهد الدولة الأموية، ظهر أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، الذي يعتبر أعدل أمير بعد الخلفاء الراشدين؛ حيث أصدر قرار النزاهة وبدأ بنفسه، فرد المظالم واستعاد الأموال المأخوذة ظلمًا، ووزع الثروة بشكل عادل على المجتمع، كما أنشأ نظامًا دقيقًا لجمع أموال الزكاة والصدقات والتأكد من وصولها إلى مستحقيها. وخلال عامين ونصف من حكمه، حقق دولة الرفاه التي لطالما بشر بها كبار خبراء الاقتصاد في العصر الحديث، ولكنهم لم يروها!
في عام 1965، قال ذو الفقار علي بوتو رئيس وزراء باكستان آنذاك: "سنأكل العشب من أجل الحصول على القنبلة النووية". كان قرارًا مصيريًا مدفوعًا بتصاعد التوتر مع الهند، العدو اللدود لدولة باكستان، التي كانت تسعى للحصول على السلاح النووي، وفعلاً امتلكت باكستان القنبلة النووية، محققة التوازن العسكري مع جارتها النووية.
وعلى المستوى المحلي، جاء السلطان قابوس طيب الله ثراه بعزيمة متقدة وإصرار القائد الملهم لينتشل البلاد من الأزمات والتفرقة، فاتخذ قرارًا وطنيًا حازمًا كان له ما بعده: "عفا الله عما سلف". قرار كتب بماء الذهب، حيث أحيا الإنسان والأرض، وأرسى وحدة البلاد، وحقق دولة التسامح.
وفي لحظة تاريخية مهيبة، فُتحت الوصية السلطانية، وسُلمت الأمانة في جلسة أبهرت العالم، حيث تقلد حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم - حفظه الله ورعاه - مقاليد الحكم، وباشر بتجديد النهضة المباركة بمراسيم نافذة وضعت الأولوية لمعالجة الوضع المالي للدولة عبر خطة التوازن المالي، وهي خطة طموحة تهدف إلى خفض الدين العام ورفع كفاءة الإنفاق، مع إعادة هيكلة الجهاز الإداري للدولة. وقد انعكس ذلك إيجابيًا على التصنيف الائتماني للسلطنة، إذ ارتفع إلى BBB- مع نظرة مستقبلية مستقرة، وانخفض مستوى الدين العام إلى مستوى آمن، ومن المتوقع أن يصل إلى 29% من الناتج المحلي بحلول عام 2027.
اليوم، يبقى الشاغل الأكبر للمواطن العماني الباحث عن عمل هو إيجاد وظيفة مستدامة في القطاع العام أو الخاص، تؤمّن له مستقبلًا كريمًا. لذا، من الأهمية بمكان اعتماد آلية واضحة ومستدامة لمعالجة هذه المعضلة بعيدًا عن الحلول الآنية قصيرة الأمد، عبر إنشاء صندوق توظيف الأجيال، كما أشرتُ في مقالي السابق، بحيث يتم تمويله وفق آليات مدروسة لضمان استدامته.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
نقمة عصر البلاستيك والمفاوضات المتعثرة لإنهاء مخاطره
يركز يوم البيئة العالمي 2025 الذي يصادف 5 يونيو/حزيران، على إنهاء التلوث البلاستيكي على مستوى العالم، حيث يُعدّ تلوث البلاستيك من أكثر القضايا البيئية إلحاحا في حياتنا. ومع استمرار تزايد إنتاج البلاستيك المستخدَم لمرة واحدة، تزداد صعوبة إدارته والتخلص من تأثيراته.
تدخل سنويا ملايين الأطنان من النفايات البلاستيكية إلى البيئة، وتمتد آثارها عبر المحيطات والمجاري المائية واليابسة، وأصبحت أنهار العالم ومحيطاته وبحاره طرقا للنقل ومكباتٍ للبلاستيك الناتج عن الأنشطة البشرية.
اقرأ أيضا list of 4 itemslist 1 of 4"إعادة التدوير المتقدمة" حل بيئي أم حيلة تسويقية بارعةlist 2 of 4ما يمكنك أن تعرفه عن البلاستيك الدقيق ومخاطرهlist 3 of 4دراسة: اللافقاريات باتت ملوثة بجزيئات البلاستيكlist 4 of 4عالم جزر غالاباغوس الفريد تحت وطأة التغير المناخيend of listوكان يمكن لمعاهدة عالمية بشأن البلاستيك أن توفر إطارا دوليا منسقا لمعالجة إنتاج البلاستيك واستخدامه والتخلص منه بما يعزز الممارسات المستدامة ويقلل النفايات من مصدرها، لكن إقرار هذه المعاهدة يبدو أنها في مسار متعثر.
ويرى أنصار البيئة أنه من خلال توحيد جهود الحكومات يمكن لهذه المعاهدة أن تحفز الابتكار في المواد البديلة، وتعزز جهود إعادة التدوير، وتضع التزامات قانونية صارمة للحد من التلوث البلاستيكي.
تشير التقديرات إلى أن أكثر من 8 ملايين طن من النفايات البلاستيكية تنتهي في المحيطات سنويا. ولأن معظم البلاستيك لا يتحلل، فإنه يتراكم تدريجيا في محيطاتنا، حيث قد يستغرق تحلله قرونا دون أن يختفي تماما. ويُشكل ذلك تهديدات جسيمة للحياة المائية، وصحة الإنسان، والنظام البيئي البحري.
كما تشير الدراسات إلى أنه بحلول عام 2050، قد يفوق حجم البلاستيك في المحيطات عدد الأسماك. وقد أصبحت قضية التلوث البلاستيكي واسعة الانتشار لدرجة أنها دفعت الأمم المتحدة إلى إطلاق حملة من أجل معاهدة عالمية بشأن البلاستيك.
بدأت قصة البلاستيك في أوائل القرن الـ19 باختراع الإنجليزي ألكسندر باركس أول بلاستيك صناعي، وحصل على براءة اختراعه عام 1862. وقد مثّل هذا بداية حقبة جديدة في علم المواد، حيث فتحت مرونة البلاستيك ومتانته الباب أمام استخدامات لا حصر لها.
إعلانشهد القرن الـ20 ثورة في إنتاج البلاستيك، تمثلت في ظهور البلاستيك الصناعي بالكامل في عام 1907، كان الكيميائي والمسوق البلجيكي ليو بايكلاند رائدا في إنتاج أول بلاستيك صناعي بالكامل (الباكليت)، مما عزز مكانة البلاستيك في قطاع التصنيع الحديث.
وجاءت نقطة التحول الحقيقية بعد الحرب العالمية الثانية عندما ازدهر إنتاج البلاستيك بشكل كبير. وقد سرّعت الحرب من وتيرة التقدم في كيمياء البوليمرات، مما أدى إلى الإنتاج الضخم لمواد بلاستيكية مثل "بولي إيثيلين" و"بولي بروبيلين".
وبحلول ستينيات القرن الماضي، بدأ البلاستيك يهيمن على السلع الاستهلاكية، من التغليف إلى الأدوات المنزلية. وقد عزز هذا التبني السريع من قبل الشركات والمستهلكين انخفاض تكلفة هذه المادة وتعدد استخداماتها.
آنذاك، لم تتضح الآثار البيئية لطفرة البلاستيك، فعلى مدى عقود حظيت هذه المادة الثورية بالثناء لسهولتها وفائدتها، في حين تم تجاهل العواقب الطويلة المدى لإنتاجه والتخلص منه إلى حد كبير.
رغم الجهود العالمية المتزايدة، لا يُعاد تدوير إلا 9% من البلاستيك. ويُعزى هذا المعدل المنخفض إلى تعقيدات إعادة تدوير المنتجات المصنوعة من أنواع مختلفة من البوليمرات، بالإضافة إلى ضعف البنية التحتية لإدارة النفايات.
يُسهم البلاستيك، المنتَج من الوقود الأحفوري، بنسبة 3.4% من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري العالمية، أي ما يُضاهي انبعاثات قطاع الطيران بأكمله. ويُنتج البشر الآن حوالي 400 مليون طن من النفايات البلاستيكية سنويا، وينتهي 60% منها في بيئتنا الطبيعية.
وفقًا للتقديرات، هناك ما يقرب من 82 إلى 358 تريليون جزيء بلاستيكي عائم في محيطات العالم، مع متوسط تقدير يبلغ 171 تريليون جزيء بلاستيكي مسجل في عام 2019، بمتوسط وزن يبلغ 2.3 مليون طن.
إعلانتتجاوز عواقب التلوث البلاستيكي البيئات البحرية؛ إذ تُهدد النظم البيئية والحياة البرية وصحة الإنسان. وقد عُثر على جزيئات بلاستيكية دقيقة ناتجة عن تحلل البلاستيك الأكبر حجما في مياه الشرب والمأكولات البحرية، وحتى في الهواء الذي نتنفسه.
وبينما لا تزال هذه الجزيئات قيد البحث، تشير بعض الأبحاث إلى أنها قد تُسبب مشاكل صحية مختلفة، مثل اضطرابات الغدد الصماء، وربما السرطان، حيث وصلت جسيمات البلاستيك النانوية إلى الأعضاء الحيوية للبشر والحيوانات.
ووفقًا للأمم المتحدة، فقد تناثر أكثر من 51 تريليون جزيء بلاستيكي دقيق في بحار العالم، ومن المتوقع أن تستهلك 99% من الكائنات البحرية هذه الجزيئات البلاستيكية الدقيقة بحلول عام 2050 إذا لم تُتخذ أي إجراءات لإبطاء التلوث البلاستيكي.
بادرت الأمم المتحدة إلى وضع معاهدة عالمية بشأن البلاستيك. تهدف هذه المعاهدة إلى إرساء التزامات مُلزمة قانونا بين الدول للحد من إنتاج البلاستيك، وتعزيز جهود إعادة التدوير، وتشجيع البدائل المستدامة.
وفي يونيو/حزيران 2023 دعا الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش "إلى الوقوف صفا واحدا الحكومات والشركات والمستهلكون لكي نتخلص من إدماننا البلاستيك وتحقيق هدف النفايات الصفرية".
ففي أوائل عام 2022، اعتمدت جمعية الأمم المتحدة للبيئة القرار 5/14، الذي وافق على اعتماد معاهدة عالمية ملزمة قانونا بشأن البلاستيك بحلول نهاية عام 2024.
منذ ذلك الحين، عُقدت أربع دورات للجنة التفاوض الحكومية الدولية، وانتهت أحدثها -الدورة الرابعة للجنة التفاوض الحكومية الدولية- يوم 29 أبريل/نيسان 2024. ورغم إحراز بعض التقدم في تحديد المنتجات والمواد الكيميائية الحرجة المثيرة للقلق، فإن المحادثات لم تعالج بشكل كافٍ الحاجة إلى تقليل إنتاج البلاستيك الأولي.
إعلانويتواجه معسكران على الأقل في الجولة الخامسة من المحادثات الرامية للتوصل إلى معاهدة دولية للحد من التلوث الناجم عن البلاستيك، والتي بدأت في نوفمبر/تشرين الثاني 2024، بإشراف برنامج الأمم المتحدة للبيئة.
ويجمع المعسكر الأول العديد من الدول الأفريقية والأوروبية والآسيوية في "تحالف الطموح العالي"، الذي يريد معاهدة تغطي "دورة الحياة" الكاملة للمواد البلاستيكية من الإنتاج إلى النفايات.
أما المعسكر الثاني فيضم دولا أخرى خصوصا المنتجة للنفط، ويرغب في أن تكون المعاهدة متعلقة فقط بإدارة النفايات. ويرى هذا المعسكر أن خفض الإنتاج ليس من أهداف المفاوضات.
ويشكّل نفوذ جماعات الضغط في قطاع الصناعة عقبة كبيرة في المفاوضات. لا تزال هناك شكوك حول جدوى التوصل إلى معاهدة قابلة للتوقيع بحلول نهاية عام 2024 نظرًا لتعقيدات المفاوضات.
من الجوانب المهمة الأخرى التي يبدو أنها غائبة في مناقشات معاهدة البلاستيك العالمية هي مساءلة الشركات الملوثة عن النفايات التي تنتجها. فقد أظهرت دراسات تلوث البلاستيك ذي العلامات التجارية أن حوالي 60 شركة مسؤولة عن أكثر من نصف تلوث البلاستيك في العالم.
وللسنة السادسة على التوالي (2024) تم الاعتراف بشركة كوكاكولا كأكبر ملوث في مبادرة تدقيق العلامة التجارية العالمية، محققة رقما قياسيا جديدا بإجمالي 33 ألفا و820 قطعة من النفايات البلاستيكية.
وإلى جانب إلزام الشركات بخفض إنتاج البلاستيك، يطالب أنصار البيئة أيضا بضمان مسؤولية الشركات الملوثة عن تمويل تنظيف النفايات التي تسببت فيها.
وفي ظل هذه التحديات باتت الحاجة إلى معاهدة عالمية بشأن البلاستيك أكثر إلحاحا من أي وقت مضى. وسترث الأجيال القادمة مسؤولية مواجهة تفاقم التلوث البلاستيكي من أجل كوكب أكثر صحة وخاليا من أعباء التلوث البلاستيكي.
إعلان