يد الغدر الصهيونية.. وليل الردّ الإيراني
تاريخ النشر: 15th, June 2025 GMT
محمد بن علي البادي
في سُكُون فجرٍ لم يكن عاديًا، امتدت يد الغدر مجددًا، وهذه المرّة صوب قلب الجمهورية الإسلامية الإيرانية، في محاولة آثمة لإرباك الداخل وبعثرة أوراق الإقليم. كان الهدف واضحًا: ضرب محور الصمود، وإيصال رسالة بأن اليد الطويلة قادرة على تجاوز الجغرافيا والسيادة، متوهمةً أن الفجر وقت مناسب للضرب، لا للانبعاث.
إسرائيل، بعد أن عاثت فسادًا في فلسطين (وخاصة غزة)، وجنوب لبنان، وسوريا، واليمن، صدّقت نفسها أنها قادرة على الجميع، وأنها المسيطرة بلا منازع. لكن الجهة التي صوبت سلاحها نحوها هذه المرة كانت إيران، التي وقفت صامدة كالسد المنيع، حائط صلب لا تهزه الرياح، ودرع يحمي محور المقاومة من كل اعتداء.
لكن الفجر، في ثقافة الشعوب التي اعتادت أن تُولد من تحت الرماد، ليس لحظة ضعف، بل ساعة يقظة. وما إن ارتدت الأرض صمت الانفجارات، حتى دوّى في ليل الأمس صوت الردّ الإيراني، صارخًا في وجه المعتدي: "لسنا ساحة مستباحة، ولسنا دولة تُختبر إرادتها بالصواريخ".
لم يكن الردّ مجرد عمل عسكري، بل بيانًا استراتيجيًا كُتب بلغة النيران: أن زمن الغارات المجانية قد ولى، وأن قواعد الاشتباك لن تُرسم في عواصم بعيدة، بل من قلب طهران؛ حيث القيادة تُدير المعركة بتأنٍ وثبات.
وبين لحظة العدوان ولحظة الرد، ارتفعت أصوات مأجورة، وأقلام مأزومة، وألسنة شامتة، هنا وهناك، تبارك الغدر، وتصفّق للقصف، وتبشّر بانهيار الجمهورية الإسلامية. تسابق بعضهم- من مشككين عرب وعجم- في رسم سيناريوهات الانهيار: "كيف لدولة تزعم دعم المقاومة في فلسطين ولبنان واليمن، أن تعجز عن الدفاع عن نفسها؟" ونسوا، أو تناسوا، أن من يزرع العزّ في ساحات الآخرين، لا بُد أن يزرع في ساحته الصبر والثبات أيضًا.
ولن ننسى شهداءنا الأبرار الذين اغتالتهم يد الغدر الإسرائيلية؛ فهُم اليوم في جنة الخلد، أبطالا خالدين تزينوا بحلل الشهادة والكرامة. وما تركوا فراغًا إلّا وملأه رجالٌ أشدّ صلابة وإيمانًا، رجالٌ صاغتهم الدماء والتضحيات ليكونوا خير خلف لخير سلف. أما النساء بين صفوف العدو وأذنابهم، فأجبن من أن يلدن رجالًا مثل أبطالنا، لأنَّ البطولة لا تولد إلا من رحم الإيمان والعزة، وهؤلاء القادة الأقوياء قادرون على إنجاب أجيال تُواصل الطريق، لا مجرد أناس يخافون مواجهة الحقيقة.
نقول لهؤلاء: إن الضربة التي وجّهتها إيران في ليلة الرد، لم تكن لحسابها وحدها، بل كانت صفعة ردّت بها كرامة العرب والمسلمين مجتمعين، بعد عقود من الصمت والانكسار. كانت ضربة قصمت ظهر الغطرسة، وأعادت ضبط البوصلة نحو من يجب أن يُخشى، لا من يُجامل.
ومن باب الإنصاف، لا التهويل، نقول: إن إيران ليست دولة سهلة كما يزعم البعض أو يروّج المرجفون، بل هي دولة قوية بشعبها، وبإيمانها العميق بخيار المقاومة، وبعقيدة لا تعرف الانكسار. دولة عملت على نفسها بصمتٍ ومثابرة، فجهّزت جيشها، وطوّرت سلاحها، واستثمرت ثرواتها لا في القصور، بل في منظومات ردع متقدمة، برًّا وجوًّا وبحرًا، استعدادًا ليومٍ كهذا كانت تعرف أنه قادم، فتهيأت له لا بالشعارات، بل بالقدرات.
ظنّ العدو- ومن شايعه من المُتصهْيِنين العرب- أن انشغال إيران بجبهات متعدّدة، وضغوطها الاقتصادية، سيجعلها تركع أو ترد بتصريحات لا تتعدى الحبر الذي كتبت به، لكنه فوجئ أن من تربّى على عقيدة الإسلام الحق لا يساوم على الكرامة، وأن الجمهورية التي رفعت راية القدس منذ قيامها، لن تُسقطها تحت وقع الغارات.
ما حدث كان حلقة من حلقات التآمر، لكن ما جرى ليلًا كان بداية لفصل جديد: عنوانه أن زمن "الضرب والفرار" قد انتهى.
والأهم من ذلك، أن الرد لم يكن ارتجاليًا، بل كان محسوبًا، ذكيًا، موجّهًا بدقة، حاملاً في طياته رسائل عدّة: للأعداء تحذير، وللأصدقاء طمأنينة، وللشعوب المقهورة بارقة أمل.
هكذا كتبت إيران ليلتها، بطريقتها الخاصة: بمدادٍ من الصواريخ، وعزم لا يلين.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
الهيمنة على المسجد الإبراهيمي: الاحتلال يكافئ الصهيونية الدينية بالسيطرة على المقدسات
غزة- «عُمان»- بهاء طباسي:
في خطوة اعتبرها الفلسطينيون انقلابًا على الوضع القائم وانتهاكًا صارخًا للاتفاقيات الدولية، أعلنت سلطات الاحتلال الإسرائيلي مؤخرًا سحب صلاحيات وزارة الأوقاف الفلسطينية وبلدية الخليل في إدارة المسجد الإبراهيمي الشريف، ونقلها إلى ما يُعرف بـ«المجلس الديني اليهودي» في مستوطنة كريات أربع.
هذه الخطوة غير المسبوقة قوبلت برفض شعبي ورسمي واسع، وسط مخاوف متصاعدة من أن تكون تمهيدًا لفرض السيادة الإسرائيلية الكاملة على الحرم الإبراهيمي، بل وامتدادًا لسيناريو تهويد المسجد الأقصى لاحقًا.
أن القرار الذي صدر دون أي تنسيق مع الجهات الفلسطينية، يضرب بعرض الحائط كل التفاهمات الدولية حول المدينة القديمة في الخليل، ويضع المسجد الإبراهيمي، ثاني أقدس مسجد في فلسطين، على رأس أولويات مشروع التهويد الاستيطاني الذي تقوده حكومة يمينية متطرفة بقيادة بنيامين نتنياهو وبدفع مباشر من وزير المالية اليميني المتطرف بتسلئيل سموتريتش.
الخطورة لا تكمن فقط في نقل الصلاحيات الإدارية، بل في التداعيات الرمزية والسياسية لهذه الخطوة؛ إذ تمثل إعلانًا ضمنيًا بأن إسرائيل قررت تجاوز سلطة الأوقاف الإسلامية وبلدية الخليل، ومباشرة أعمالها التهويدية من خلال جهة دينية استيطانية لا تعترف أصلًا بهوية المكان وتاريخه الإسلامي.
التطور الجديد يأتي بعد أكثر من ثلاثة عقود على صدور قرار لجنة «شمغار» الإسرائيلية، التي قسمت المسجد الإبراهيمي عقب المجزرة التي نفذها المستوطن باروخ جولدشتاين عام 1994، لتصبح 60% من المساحة خاضعة لليهود، فيما تبقى للمسلمين مساحة محدودة يتحكم بها الاحتلال إداريًا وأمنيًا.
ومع قرار نقل الصلاحيات الجديد، تفتح إسرائيل الباب أمام تغييرات بنيوية في طبيعة الحرم، مثل تركيب نظام إطفاء متطور وكاميرات مراقبة وبناء سقف في ساحة يعقوب، وكلها أعمال تهدف إلى تعزيز الوجود اليهودي في المسجد، تحت ذريعة السلامة أو التنظيم، لكنها في الحقيقة تجسيد فعلي لسياسة فرض الأمر الواقع.
وتزامنًا مع هذا القرار، حذّرت جهات فلسطينية رسمية ودينية من أن يكون هذا التحول مجرد مقدمة لفرض سيطرة مماثلة على المسجد الأقصى المبارك، ضمن سياسة «التهويد أو الأسرلة المتدرج» التي بدأت بهدوء في الحرم الإبراهيمي، لكنها لا تنوي التوقف عنده.
رفض شعبي
في الأسواق القديمة للخليل، وتحت ظلال مآذن المسجد الإبراهيمي، يغلي الغضب الشعبي من القرار، الذي قد يحرم الفلسطينيين من الصلاة في حرم إبراهيم تدريجيًا.
يقول المواطن الخمسيني سعيد الجعبري: «لم نعد نثق بأي وعود دولية. كل يوم نخسر جزءًا من الحرم، واليوم الاحتلال يعلن صراحة أنه لم يعد يعترف بأي صلاحية فلسطينية. هذا احتلال ديني بلباس إداري».
يستذكر الجعبري لحظات الطفولة حين كانت ساحة المسجد مفتوحة للمصلين والزائرين دون حواجز، ويقول: إن الاحتلال منذ مجزرة 1994 يعمل على تقطيع الحرم وتمزيق حضوره الإسلامي، والقرار الأخير جاء ليُكمل هذا المشروع القديم الجديد.
ويضيف بغضب خلال حديثه لـ«عُمان»: «نحن نعيش في الخليل لكننا محرومون من الصلاة بحرية في مسجدنا. كل زاوية فيه مراقبة، وكل خطوة تحتاج لتصريح. والآن، يريدون أن يديروه من كريات أربع، هذه وقاحة ما بعدها وقاحة».
أما ناهد سويطي، وهي معلمة تسكن قرب المسجد، فتقول: «كأن الاحتلال يريد أن يقول لنا: إن صوتنا لم يعد له قيمة، وإن المسجد لم يعد لنا. هذا القرار يدوس على مشاعرنا الدينية والوطنية، ويفتح الباب لمزيد من الاقتحامات والتغييرات».
وتضيف خلال حديثها لـ«عُمان»: إن سكان الخليل اعتادوا العيش في حصار دائم، لكن ما يجري في المسجد الإبراهيمي تجاوز الحصار إلى الاستئصال: «الآن يدير شؤوننا مستوطنون، لا يعترفون بنا أصلًا.. كيف نقبل ذلك؟».
صلاحيات مغتصبة
من جهة رسمية، اعتبر رئيس بلدية الخليل، تيسير أبو سنينة، أن القرار الإسرائيلي «يمثل اعتداءً صارخًا على حقوق المواطنين الفلسطينيين، وعلى الصلاحيات التاريخية لبلدية الخليل ووزارة الأوقاف، التي تمثل الوصاية الدينية على المسجد الإبراهيمي منذ قرون».
وأضاف : إن «نقل الإدارة إلى مجلس مستوطنة كريات أربع هو عدوان على الإرث الإنساني المسجل في قائمة اليونسكو للتراث العالمي، ويشكّل انتهاكًا واضحًا للقانون الدولي والمواثيق التي تحفظ للمدنيين حقوقهم في الأماكن المقدسة».
وأشار أبو سنينة إلى أن البلدية كانت على الدوام المسؤولة عن تقديم الخدمات العامة للمنطقة، والإشراف على محيط الحرم، وأن قرار الاحتلال يعني عمليًا تقويض هذا الدور وإفراغه من مضمونه.
وشدّد على أن ما يجري «لا يهدف إلى التنظيم أو الصيانة كما يروّج الاحتلال، بل إلى تثبيت سيطرة استيطانية على مكان إسلامي خالص، وتحويله تدريجيًا إلى كنيس يهودي مغلق أمام المسلمين».
موقف الأوقاف
أما وزير الأوقاف والشؤون الدينية الفلسطيني الدكتور محمد نجم، فقد اعتبر أن الخطوة الإسرائيلية «تندرج ضمن سلسلة من الإجراءات التعسفية التي لا يمكن أن تمنح الاحتلال أي شرعية في الحرم الإبراهيمي».
وقال نجم، في تصريح لـ«عُمان»: إن «الاحتلال يسعى جاهدًا لإلغاء الوجود الإسلامي في الحرم، من خلال التحكم في أوقات الصلاة، ومنع رفع الأذان، وفرض قيود على الحركة، والآن يريد استكمال السيطرة عبر إدارة تابعة للمستوطنين».
وأضاف: إن وزارة الأوقاف لن تتعامل مع هذا القرار، وستواصل أداء دورها التاريخي والديني، وستلجأ إلى كل المحافل الدولية من أجل وقفه.
وأكد نجم أن «تهويد الحرم الإبراهيمي لن يمر، وأنه كما سقطت قرارات أخرى ظالمة بحق مقدساتنا، فإن هذا القرار سيُفشل بإرادة أبناء الخليل وكل أحرار العالم».
شكوى اليونسكو في ظل هذه التهديدات المتزايدة للمسجد الإبراهيمي، أعلنت السلطة الفلسطينية أنها قدّمت شكوى رسمية إلى منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو)، باعتبار أن المسجد مدرج ضمن قائمة التراث العالمي كممتلك حضاري إنساني.
وأشارت الشكوى إلى أن التغييرات التي تعتزم إسرائيل إجراءها، مثل بناء السقف جديد وتركيب الكاميرات، تُعد تعدّيًا مباشرًا على الطابع المعماري والديني للمكان، ومحاولة لإيجاد واقع جديد لا يعكس الحقيقة التاريخية.
وأكدت السلطة في شكواها أن هذه التدخلات لن تنجح في طمس هوية المسجد، ولن تمنح إسرائيل أحقية في إدارة مكان ليس لها فيه أي جذور شرعية أو دينية.
استهداف مقدسات
من جهته ، يرى الدكتور عبد الله معروف، الباحث المتخصص في شؤون القدس والمسجد الأقصى أن القرار الإسرائيلي بنقل إدارة الحرم الإبراهيمي ليس سوى محطة في مسلسل طويل من السياسات التهويدية التي تستهدف الهوية الدينية الإسلامية في فلسطين.
ويقول معروف : إن «ما يحدث في الخليل هو بالضبط ما تحاول إسرائيل تنفيذه في القدس: فرض السيادة الدينية بالقوة، وتحويل الأماكن الإسلامية إلى رموز يهودية رغمًا عن أصحابها».
ويُذكّر بأن لجنة «شمغار» الإسرائيلية التي قسّمت الحرم بعد مجزرة 1994، كانت أول خطوة لشرعنة الاقتحامات، وأن القرار الجديد يُكمل هذه الخطة، ويمهّد لتجارب مماثلة في المسجد الأقصى.
ويؤكد أن الخطر الحقيقي يتمثل في تمرير هذه القرارات تحت غطاء «الصيانة» أو «الإدارة»، بينما الهدف الحقيقي هو فرض السيطرة الكاملة على أحد أبرز المعالم الإسلامية في فلسطين.
ويختم معروف بأن «الصمت الدولي والعربي، أو الاكتفاء بالشجب، يشجّع الاحتلال على مواصلة خطواته، وأنه إذا لم يتحرك المجتمع الدولي اليوم لحماية الحرم الإبراهيمي، فإن الدور سيأتي على المسجد الأقصى».
مشروع الضم
من جهته، يربط الباحث الفلسطيني في شؤون الاستيطان أحمد حنيطي هذا القرار بما يُعرف بمشروع الضم التدريجي للضفة الغربية، الذي يروّج له وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش.
ويقول حنيطي، في تصريح لجريدة لـ«عُمان»: إن «إسرائيل تحاول اليوم إدارة المناطق الفلسطينية من خلال المستوطنين، وقرار نقل صلاحيات المسجد الإبراهيمي يؤكد هذا التوجه».
ويضيف: إن الهدف ليس فقط السيطرة الدينية، بل أيضًا فرض وقائع سياسية جديدة، بحيث تصبح البلديات الفلسطينية بلا سلطة فعلية، ويتم استبدالها بهياكل استيطانية تُدار من داخل المستوطنات.
ويحذر من أن هذا النمط من الإدارة قد يتم تعميمه لاحقًا على مناطق أخرى مصنفة (ج)، خاصة في شمال الضفة الغربية، ما يعني تقويض كامل لاتفاق أوسلو.
ويختم حنيطي بأن «الرد يجب أن يكون شعبيًا ودوليًا، عبر التحرك القانوني والإعلامي، والضغط لوقف هذا المخطط قبل أن يتحول إلى نموذج يُطبّق في كل مكان».