ترى هل نعاني من فزعٍ خفي تجاه صناعة الرموز؟ هل نعاني من رهبة غامضة وقديمة إزاء نمو الشخصيات في الوعي العام، ضمن حقول شتى من مثل: الأدب والفن والرياضة والبحث العلمي بمختلف أشكاله؟ إذ من المُحير حقا أننا في بلد واسع الامتداد، ثريّ التجارب، أثرت في بنيته السياسية والاجتماعية والاقتصادية شخصيات لا حصر لها، إلا أنّ المفارقة المخيبة للآمال أنّ هذه الأسماء، على أهميتها، بقيت قليلة الحيلة والحظ!
راودتني هذه الأفكار خلال أحد محاور برنامج الأكاديمية السلطانية للإدارة مؤخرا، حين استدعى المحاضر الدكتور عبدالفتاح محمد الهاشمي، أستاذ الشؤون الدولية بجامعة حمد بن خليفة، شخصية الملاح العُماني أحمد بن ماجد، كمثال مُلهم في القيادة.
فبينما تسعى دولٌ عديدة باستماتة لاستثمار رموزها الثقافية والعلمية، جوار «تحويل ذاكرتها الجمعية إلى قوة ناعمة، بل إلى رأسمال سياحي ومعرفي وثقافي»، نستهينُ نحن بأصلب ما نملك في عالم هشّ وسريع التغيّر!
في تلك اللحظة انبثق السؤال: هل عُمان من الدول التي تستثمر فعلًا في رموزها؟ في شخصياتها التي صنعت التاريخ في الماضي أو تلك التي تشكّله الآن؟ هل يُدركُ أبناؤنا الآن عمق جذورنا وامتدادها، أم أننا نكتفي بذكرهم على استحياء ثم نطوي الصفحة ؟
الأمم العظيمة على حد تعبير الشاعر الإنجليزي ويليام بليك تبني نفسها على ذاكرة عظيمة، ولهذا تنهضُ الدول التي تُدرك متانة إرثها باعتباره جوهر هويتها.
صورة العُماني المتواضع، المتصالح، صورة بالغة الوداعة لكنها تخفي نوعًا من العجز في باطنها، وهذه مسألة شديدة الحساسية، فهل هذه فعلًا الصورة التي نريدها الآن؟ أليست هنالك إمكانيات هائلة لاستدعاء شيء من وهج الاعتداد الذي يليق بنا !
لا تقف المسألة عند الرموز التاريخية البعيدة نسبيًا، بل تمتد إلى العُمانيين المعاصرين ممن يحققون إنجازات لافتة ثمّ لا يجدون إلا حيّزًا ضئيلًا من الاحتفاء، بينما ثمّة حاجة شديدة إلى الرعاية والتبني المؤسسي.
سبع شخصيات عُمانية في قائمة الشخصيات العالمية المؤثرة لدى منظمة اليونسكو تقديرًا لإسهاماتها، شخصيات تحظى بتقدير عالمي، لكن لا يُقابله حضورٌ محلي موازٍ في منتجاتنا الثقافية، فهي لا تزال غائبة عن المحتوى العصري الجاذب. ولا أدري إن كُنا نفكر بما يُسمى بالاقتصاد الثقافي -خارج إطار التنظير الفضفاض- ليغدو أحمد بن ماجد، وأمثاله من العلماء والأدباء، منتجات بصرية، فبذور المعرفة الأولى تُزرع في المدرسة والجامعة، هنالك حيث تُبنى السرديات المُبسطة حول الشخصيات التي تركت أثرًا لا يُمحى، ثم تأتي الأدوار الأشد عمقا للوثائقيات الاحترافية الرقمية، والقوة البصرية للأفلام ومجلات الكومكس والمتاحف التفاعلية، شريطة أن تقدم بلغة سهلة تُحرضُ المعرفة جوار المخيلة، بدلًا من بقائنا أسرى مسلسلات محلية ثقيلة غالبا لا تصلح لأبعد من التندر!
هكذا نحبسُ شخصياتنا المؤثرة بعيدًا عن الوعي العام، ثمّ نتشكى عندما يطفو الزبد على السطح، فتتخبط الأجيال بلا مرجعية حقيقية أو رموز مُلهمة !
عندما تؤمن المؤسسة التعليمية والإعلامية والاستثمار الثقافي بقيمة هذه الشخصيات، وعندما تتحوّل الرموز إلى أدوات إلهام لا مجرد ذكرى، آنذاك فقط سيتمكن أحمد بن ماجد وأمثاله من أن يقودوا أبناءنا من جديد، لا إلى تجارب العالم المجهولة وحسب، بل إلى القبض على بوصلة ذواتهم في زمن الخوارزميات؛ الزمن الذي إن لم نكن فاعلين فيه، سنظل نبكي على الفرص التي لم نغتنمها !
الخوف كل الخوف من النسيان المتعمد للذاكرة الجمعية والذي وصفه المفكر الألماني يورغن هابرماس بأنّه «أشد أنواع الإلغاء خطورة»، فمع الوقت سيغدو جزءًا لا يتجزأ من خسارتنا لأنفسنا.
هدى حمد كاتبة عُمانية ومديرة تحرير «نزوى»
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: التی ت
إقرأ أيضاً:
فويتشيك تشيزني.. عندما تساعد منافسك على النجاح
ربما تتعجب من اسم حارس المرمى البولندي المخضرم فويتشيك تشيزني، أو بالأحرى فويتشيخ شتنسني إذا نطقناها بلغة بلاده، لكنك ستشعر حتما بالعجب والإعجاب إزاء مسيرة هذا اللاعب خصوصا ذلك الجزء الذي بدأ بعدما بدا أن المسيرة أشرفت على الانتهاء، بل إنها كانت قد انتهت فعلا.
في أغسطس/آب 2024 أعلن تشيزني اعتزال كرة القدم بشكل نهائي بعدما شارك مع منتخب بلاده في كأس أوروبا، وبعد أسابيع من إعلان فسخ تعاقده بالتراضي مع نادي يوفنتوس الإيطالي الذي أكمل معه 252 مباراة خرج في 100 منها بشباك نظيفة.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2رفضوها موظفة فنجحت كرائدة أعمال.. كيف حولت إثيوبية الفشل لمشروع مزدهر؟list 2 of 2أثمن ما تملك.. الانتباه هو السر الذي سيغير حياتكend of listكان تشيزني قد وصل في ذلك الوقت إلى عامه الرابع والثلاثين، بعد مسيرة حافلة لعب خلالها أيضا مع روما الإيطالي ومع أرسنال وبرنتفورد الإنجليزيين، فضلا عن 15 عاما مع منتخب بولندا شارك خلالها في 84 مباراة دولية.
لكن بعد عدة أسابيع حدث تطور لم يكن في الحسبان، فقد تعرض الحارس الألماني مارك أندري تير شتيغن لإصابة كبيرة، ما دفع فريقه برشلونة الإسباني للبحث عن بديل متميز، ولأن فترة الانتقالات كانت قد أغلقت فلم يكن متاحا إلا التعاقد مع لاعب معتزل.
وجد برشلونة ضالته في تشيزني، فهو غير مرتبط بأي تعاقد، كما أنه معتزل حديثا وبالتالي لم يبتعد طويلا عن الملاعب ولن يكون من الصعب أن يعود مجددا خصوصا أنه ظل لسنوات طويلة بين حراس النخبة على مستوى العالم.
تفكير وعودة ونجاحبعد تفكير ليس بالطويل، قبل تشيزني التحدي وعاد إلى الملاعب لا ليشارك في المباريات فقط، بل ويساهم مع برشلونة بفاعلية في جمع كل الألقاب المحلية وهي بطولتي الدوري وكأس الملك إضافة إلى السوبر الإسباني.
نجاح تشيزني مع برشلونة لم يكن فقط فيما يخص الأداء الجيد والحصول على الألقاب الثمينة، ولكن كان أيضا في تكيفه مع طريقة أداء لم يعتدها وتتطلب أن يجيد الحارس اللعب بقدمه كي تبدأ الهجمات من عنده، وكذلك مشاركته في فريق يغلب عليه عنصر الشباب لدرجة أن نجم الفريق لامين جمال يكاد يكون في نصف عمر تشيزني.
إعلانكان المتوقع أن يكتفي تشيزني بذلك الموسم الاضطراري، لكن برشلونة تمسك به وجدد تعاقده مؤخرا رغم أنه تمكن من ضم حارس متميز هو جوان غارسيا كحارس أساسي للحاضر والمستقبل.
هنا نصل إلى ما نعتبره زاوية نجاح نادرة، فالصورة واضحة في برشلونة وهي أن الشاب غارسيا القادم من فريق إسبانيول الصغير سيكون الحارس الأساسي للفريق الكاتالوني، والمعتاد في مثل هذه الحالات أن يثير ذلك حفيظة الحارس المخضرم أو يدفعه إلى الابتعاد والاعتزال.
ما فعله تشيزني كان نادرا، حيث أكد علنا أنه مدّد تعاقده مع برشلونة ليكون داعما للحارس الجديد معربا عن سعادته بهذا الدور ومبديا الكثير من علامات التواضع والروح الطيبة وإنكار الذات.
في حوار مطول مع تشيزني نشر أمس الخميس في صحيفة موندو ديبورتيفو الإسبانية، أظهر الحارس البولندي مجددا الكثير من التواضع والدعم لزملائه خصوصا من يفترض أنه منافسه المباشر، وهو ما يلقي الضوء على أحد أهم عواجل نجاحه كنجم كروي صاحب مسيرة متميزة.
"أعلم ما هو دوري هذا الموسم، وبالنسبة لي فإن أعظم نجاح سأحققه هو أن يخوض غارسيا موسم نجاح مع الفريق الكتالوني"، هذا بالضبط ما قاله الحارس المخضرم الذي ظل لسنوات طويلة بين حراس النخبة في العالم، عن زميله الجديد الذي لم يلعب حتى الآن مباراة دولية واحدة على مستوى الفريق الأول.
أضاف تشيزني عن زميله الذي يغيب حاليا لإصابة تبعده نحو الشهر عن الملاعب: "لا توجد بيننا منافسة أو عداوة، فقط أحاول دعمه ومساندته بأفضل طريقة ممكنة، أستطيع اللعب، لكن أتمنى أن يعود في أسرع وقت ممكن، وهذا لا يعني أنني كسول أو لا أرغب في اللعب، ولكن أمنيتي هي أن يتعافى في أقرب وقت".
وصفة نجاحولم يفت تشيزني وهو يشير إلى ذلك، أن يذكر أنه سبق أن تعلم وتلقى دعما من حراس كبار حيث قال: "أحاول الآن أن أكون لغارسيا كما كان الحارس الإيطالى الكبير جيانلويغي بوفون لي، بعد تلك التجربة أشعر أن عليّ ردّ الجميل، ربما لن يتعلم مني كما تعلمت أنا من بوفون، لكن الفكرة واحدة".
تشيزني لم يتوقف عن تقديم دروس للنجاح خلال حواره مع موندو ديبورتيفو، حيث أوضح أنه يحرس على الاستمتاع بتجربته الجديدة مع برشلونة سواء كان أساسيا أو احتياطيا، قائلا إن اللعب مع فريق شاب جدا يمنحه طاقة جديدة، ولذلك قام بتمديد تعاقده.
وعندما سألته الصحيفة عن وصفة النجاح التي يقدمها للنجوم الشبان وفي مقدمتهم لامين جمال قال: "مع موهبته، إذا لم يفقد شغفه وبقي محترفًا، فسيحقق نجاحًا كبيرًا، فقط عليه الحفاظ على التركيز والهدوء والشغف باللعب، ولا بأس إن ارتكب أخطاء في هذا السن فكلنا كنا في الثامنة عشرة وارتكبنا أخطاء وتعلمنا منها".
تشيزني قدم درسا آخر عندما سألته الصحيفة عما إذا كان يفضل اللعب خلف بعض زملائه في خط الدفاع، فاختار ألا يفضل أحدا على الآخر وقال إنه يحاول كحارس مرمى التواصل مع كل المدافعين أيا كانوا مضيفا أنه يعتقد أن وجود مدافعين بخصائص مختلفة هو ميزة للفريق، "ففي بعض المباريات تحتاج لاعبين أكثر مهارةً بالكرة، وأحيانًا تحتاج لاعبين أكثر قوة بدنية أو أسرع".
إعلانوعندما سئل عن تعثر برشلونة البطل في بعض المباريات الأخيرة، قال إن الفوز بثلاثة ألقاب في الموسم الماضي لا يعني أن هذا الموسم سيكون سهلا، "سيكون أصعب بكثير، لا يكفي أن تقدم موسما رائعا ثم تسترخي، الغرور لا قيمة له، يجب أن تبقى متواضعًا وتعمل بجد، فهذه هي الطريقة الوحيدة للتحسن وتحقيق النتائج، فالتحدي سيكون أكبر وعلينا إثبات أنفسنا مرة بعد مرة. فهكذا يفعل الأبطال الكبار".
في الحوار أظهر تشيزني أيضا جانبا للنجاح يتمثل في الشخصية المرحة التي تخفف الضغوط عن كاهلها، فعندما تحدث عن الفيلم الوثائقي الذي يروي مسيرته الكروية قال إنه يظهر الجانب الإنساني الذي لا يراه الناس، "نحن بشر قبل أن نكون لاعبين أثرياء. الفيلم يُظهر أيضًا جانبي السيئ، فأنا لست مثاليًا، وأعترف بذلك بصراحة".
ويضيف تشيزني عن خططه للمستقبل: "الآن لا أخطط لشيء، لأني حتى إن خططت أن أعتزل فقد أعود بعد ثلاثة أشهر، فلا تصدقوا خططي".
المثير أن الحارس البولندي كشف عن أنه جدد تعاقده الأخير وهو يدرك أنه سيلعب دور الحارس البديل ولم يجد في ذلك بأسا، مؤكدا أنه لا يشعر بأي إحباط بل يشعر فقط بمشاعر إيجابية، "أريد أن أعرف كيف سأكون كحارس بديل، فلم أجرب ذلك في حياتي".
من دروس النجاح التي قدمها تشيزني في حواره، هو الاستفادة من الخبرات المحيطة، حيث أكد أنه تعلم من حراس كبار مثل بوفون والتشيكي بيتر تشيك، قبل أن يضيف قائلا: "إذا كنت ذكيًا وتدربت مع الأفضل فستتعلم تفاصيل صغيرة من كل واحد. ربما تحب شيئًا في أسلوب أحدهم فتنقله، وترى شيئًا آخر لا يناسبك فتتركه. يجب أن تجد توازنك وأسلوبك الخاص، لا يمكنك أن تكون نسخة من بوفون أو تشيك، لكن يمكنك أن تتعلم شيئًا من كل واحد وتبني طريقك".