تنشر "عربي21" هذا المقال بالتزامن مع نشره على الصفحة الرسمية للدكتور عبد المجيد النجار، الكاتب والباحث في شؤون الفكر الإسلامي، الذي يتناول فيه موضوع الحرية الدينية في الشريعة الإسلامية.

في هذا المقال، يعالج الدكتور النجار مفهوم الحرية بوجه عام، ويتفرع منه إلى الحرية الدينية، موضحًا موقعها في بنية الشريعة الإسلامية، ومحددًا الأبعاد التي تشملها والضوابط التي تنظمها.



ويستعرض الكاتب أهم الإشكالات التي تحيط بالحرية الدينية في الخطاب المعاصر، سواء من داخل الدائرة الإسلامية أو من خارجها، بين من يضيّق مفهومها حتى يكاد ينفي وجودها، ومن يوسّعها حتى يتجاوز بها الإطار الشرعي. ويؤكد أن الموقف المتزن لا يُستمد إلا من النصوص الإسلامية ومقاصدها، بعيدًا عن ردود الأفعال أو التأثر بالمفاهيم المستوردة.

قيمة الحرية

من أكثر القيم التي تستأثر بالاهتمام اليوم قيمة الحرية، ومن ضمنها الحرية الدينية، فيكاد لا يخلو محفل عالمي أو محلي من حديث عن الحرية في أبعادها المختلفة وخاصة منها البعد الديني، ومن أجلها أقيمت المؤسسات، وأُنشئت المنظمات، وانتظمت المؤتمرات، والمحور دائما هو المطالبة بالحرية، والنضال من أجل الحصول عليها، ومقاومة الاعتداء عليها. والعالم الإسلامي يتوفّر على حجم كبير من هذه المناشط؛ وذلك لأن الحرية فيه تعيش حالة مخاض عسير بين مفاهيم غير واضحة المعالم ولا محددة الأطراف، وانتهاكات واقعية لما هو متفق عليه من حدودها على أصعدة مختلفة سياسية وفكرية ودينية.

وفي هذا الخضمّ النظري والعملي المتلاطم تتأرجح الحرية الدينية بين من يذهب بها إلى تضييق يكاد يلغي حقيقتها، ومن يذهب بها إلى توسيع يكاد ينقلب بها إلى الفوضى، وبما أنّ الشريعة الإسلامية قد جاءت مبينة لهذه الحرية من حيث حقيقتها وحدودها وضوابطها، فإن المتكلم في الحرية الدينية ينبغي أن يلتزم فيها بتلك الحدود والضوابط حتى يكون رأيه صادرا عن المفهوم الشرعي، فلا يميل إلى هذا التوسيع أو إلى ذلك التضييق فيحيد عن رأي الدين من حيث يحسب أنه عنه يصدر.

إذا كانت الحريات الشخصية قد حظيت في كلّ من الإسلام والفكر الغربي بقسط من الاهتمام باعتبار أنها هي المنطلق الأساسي لمفهوم الحرية إذ ينطلق هذا المفهوم من رفع القيود عن ذات الفرد، فإنّ الحريات العامّة حظيت هي أيضا في كلّ منهما بذات القدر من الأهمية،ومما يزيد من تأكّد الضبط  للحرية الدينية وفق الرؤية الشرعية ما نراه يتوجّه إليها في هذه الرؤية من شُبه ترد أحيانا من الخارج وتأتي أحيانا من الداخل. فالبعض من خارج الدائرة الإسلامية يزعم أن الحرية الدينية في الإسلام هي قيمة مهدرة، إذ الإكراه الديني هو المعنى الذي تتضمنه نصوصه، وهو الذي جرى به التاريخ، وربما مالأه في هذا الرأي بعض من الداخل ممن هم متأثرون بنفس الوجهة. والبعض من داخل الدائرة الإسلامية تعدّى بالحرية الدينية ضوابطها فانتهى بها إلى تمييع لا تبقى معه لهذه الحرية حقيقة ثابتة.

وكل من هذا وذاك يدعو إلى تحقيق علمي في شأن هذه الحرية الدينية في الشريعة الإسلامية، من حيث حقيقتها، ومركزها في الدين، ومن حيث أبعادها وضوابطها، ومن حيث ضماناتها وتطبيقاتها، مقارنة في ذلك بالحرية الدينية في الأديان والمذاهب والقوانين، وردا على الشُبه التي توجّه إليها في مختلف هذه العناصر.

1 ـ الحرية والحرية الدينية

ربما اختلفت تعاريف الحرية اختلافا كبيرا بحسب الناظر فيها بين مضيق وموسّع في مدلولها، وربما انعكس ذلك الاختلاف أيضا على الحرية الدينية بذات الأسباب، ولكن قدرا معينا من المعنى في كل منهما قد يكون مشتركا بين المختلفين في التعريف، ويبقى ما بعده محل اختلاف لا يعود على الأصل المشترك بالنقض، وهو ما يمكن أن يعتمد في التحليل والتأصيل، مع مراعاة مناطق الاختلاف لخصوصيات المعرفين والمحللين.

أ ـ الحرية

تعني الحرية في أقرب معانيها أن يكون الإنسان متمكّنا من الاختيار بين وجوه ممكنة من القناعات الذهنية والتعبيرات القولية والتصرفات السلوكية، سواء على مستوى الفرد في خاصّة نفسه أو على مستوى انتمائه الجماعي. إلا أنّ هذه الحرية في الاختيار يبقى معناها قائما ما لم تعد على أصلها بالنقض، كأن يكون الاختيار شاملا لما فيه إلحاق الضرر بالآخرين من الناس، وهو الحدّ الذي ينتهي إلى هدم الحياة الجماعية، بل قد يؤول إلى هدم الحياة الإنسانية؛ ولذلك فإنه لا يُتصوّر معنى حقيقي للحرية إلا في نطاق بعض الضوابط التي تضبطها فلا تنقلب إلى فوضى مدمّرة تأتي عليها هي ذاتها بالإبطال؛ ولذلك قال أبو زهرة عن حقيقة الحرية: إنها" تتكون من حقيقتين: إحداهما السيطرة على النفس والخضوع لحكم العقل لا الخضوع لحكم الهوى، والثانية، الإحساس الدقيق بحق الناس عليه وإلا كانت الأنانية، والحرية والأنانية نقيضان لا يجتمعان".

ويشمل معنى الحرية أول ما يشمل حرية التفكير وهي أن يكون العقل في حركته إلى معرفة المجهول ينطلق في تفكير لا تحكمه إلاّ المقتضيات المنطقية التي تفرضها طبيعة العقل في تركيبه الفطري، ولا يتعامل إلاّ مع المعطيات الموضوعيّة للقضيّة المبحوث فيها كما هي في الواقع، سالما في ذلك من أيّ توجيه من خارجه إلى نتيجة مسبقة يُراد له أن يصل إليها، ومن أيّ قيد لا تقتضيه طبيعته المنطقية أو الطبيعة الواقعية لموضوع بحثه، فحينئذ يوصف التفكير الذي هو حركة العقل  بأنّه تفكير حرّ.

ومن عناصر الحرية حرية الأقوال، أو ما يعبّر عنه أحيانا بحرية التعبير، وهو في حقيقته تابع لحرية المعتقد إلا أنه يتضمّن معنى زائدا عليه، إذ هو يحمل بعدا اجتماعيا، فالأقوال أو التعابير إنما هي متجهة بالخطاب إلى الآخرين وليست متّجهة إلى ذات القائل.

فمن وجوه الحرية المعتبرة أن يصدع الإنسان بالتعبير عما يراه حقا من الرؤى والأفكار والمعتقدات، ليقنع بها الآخرين على أنها هي الحق، أو ليكتّلهم عليها في منتظم جماعي، أو ليوجّه سير الحياة بحسب مقتضياتها، فهذا الوجه من الحرية هو من جهة مكمّل للحرية الفردية في المعتقد إذ الأقوال هي ترجمان المعتقدات، وهو من جهة أخرى معدود من الحريات الجماعية باعتبار توجّه الخطاب للمجتمع.

كما يشمل معنى الحرية أيضا حرية التصرّف السلوكي، وذلك على معنى أن يكون الإنسان مختارا في خاصّة أعماله، التي تشمل أنواع مآكله وملابسه ومساكنه وأعماله التي يرتزق منها ومحالّ إقامته وأماكن تنقّله وسياحته وما هو في حكم ذلك من التصرّفات المتعلّقة بخاصّة النفس أو ذات العلاقة بالآخرين من الناس، فالاختيار في هذه التصرّفات يُعتبر من أهمّ عناوين الحرية، والقيود عليها تُعدّ من مظاهر الاستبداد، وكلّ ذلك في نطاق الحدود والضوابط التي ألمحنا إليها آنفا، والتي تعصم الحرية من أن تؤول إلى أن تنقض نفسها بنفسها إذا تجاوزت تلك الحدود.

وقد انتهى تحديد الحرية في العصر الحديث إلى تصنيفها إلى نوعين اثنين: الحريات الفردية أو الشخصية، وهي التي تتعلّق بالفرد في ذات نفسه أو التي يكون البعد الجماعي فيها ضعيفا كالحرية في اختيار الأفكار إذا بقيت في مستوى القناعة الذاتية، واختيار الملبس والمأكل والمسكن ومحلّ الإقامة وما هو في حكمها. والحريات العامّة، وهي التي تتعلّق بالحياة الجماعية العامّة، مثل حرية التعبير ونشر الأفكار، وحرية التنظّم الحزبي والتوالي الجماعي، وحرية الاختيار لأنظمة الحكم وللقيّمين عليه، ولعلّ الحرية الدينين تجمع بين هذين النوعين من الحرية.

وقد جاءت التعاليم الإسلامية كما سنبيّن لاحقا تؤسّس لهذين النوعين من الحرية في أصل مبادئها التي أقرّها الوحي قرآنا وسنّة، ثم شرحها الفقه الإسلامي في أبوابه الخاصّة بهذا الشأن، كما انتهى الفكر الغربي إلى إقرار هذه الحريات عبر مراحل من التفاعلات الاجتماعية والثقافية تراوحت الحلقات فيها بين الصراع العنيف والوئام السلمي، وتوّجت أخيرا بجملة من المعاهدات والمواثيق والإعلانات التي تشرحها وتضبط أبعادها وتحدّد ضماناتها، والتي من أشهرها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

وإذا كانت الحريات الشخصية قد حظيت في كلّ من الإسلام والفكر الغربي بقسط من الاهتمام باعتبار أنها هي المنطلق الأساسي لمفهوم الحرية إذ ينطلق هذا المفهوم من رفع القيود عن ذات الفرد، فإنّ  الحريات العامّة حظيت هي أيضا في كلّ منهما بذات القدر من الأهمية، بل قد يكون قدرها من الاهتمام أوفى من الاهتمام بالحريات الشخصية؛ وذلك بالنظر إلى آثارها في انتظام المجتمع على الهيئة التي يكون بها أقدر على النهوض بالأداء الحضاري، وبالنظر إلى أنّ انعدامها يؤدّي بالمجتمع إلى أبواب من الفتن إذا ما فشا فيه الاستبداد الذي هو أحد المفاسد الكبرى التي تعوق المجتمعات عن التحضّر، وتدفع بها إلى الفتنة المذهبة للريح.

وكلّما تطوّرت المجتمعات وتعقّد بناؤها وتشابك تركيبها كانت إلى الحريات العامّة أحوج، وإليها أشدّ طلبا؛ وذلك لكثرة ما يعتاص من مشاكلها فلا يُحلّ إلا بالمشورة الواسعة والمشاركة الأوسع بالرأي والتنفيذ، ولكثرة ما تتعارض من مصالح وأهواء وأفكار أفرادها، فلا تنتظم في سياق اجتماعي موحّد إلا بإجراء المفاوضات بينهم على أوسع نطاق ممكن لينتهي بينهم بالتراضي على سنن موحّد، والتوافق على صعيد مشترك تتراجع إليه الأهواء المتضادّة، والأفكار المتناقضة، والمصالح المتنافرة، جرّاء المطارحات الحرّة التي تُتاح للجميع فيلتقي الناس بها على سواء.

المحور الأساسي في كل دين هو الإيمان بجملة من الغيبيات تترتب عليه لوازم سلوكية قد تتسع أو تضيق من دين إلى آخر ولكن لا يخلو منها دين على الإطلاق؛ ولذلك فإن الحرية الدينية تبتدئ بحرية المعتقد وتمتدّ إلى سائر لوازمه السلوكية، وهي من أهمّ ما ينضوي تحت الحرية من العناصر باعتبار أنّ المعتقد هو أسمى ما يتشوّف إليه الإنسان من القيم، حتى إنه ليبلغ به الأمر في ذلك إلى أن يضحي بحياته وهي أغلى ما يملك في سبيل معتقده.وفي هذا العصر تطورت المجتمعات الإنسانية وتعقّدت بما لم يسبق له مثيل في التاريخ الإنساني، فقد أصبح الفرد في المجتمع يحتاج في كلّ شؤونه إلى جميع الآخرين من الأفراد، وأصبح إنجاز أيّ شأن من شؤون الحياة لا يمكن أن يتمّ إلا باشتراك بين العدد الكبير من أفراده؛ ولذلك فإنّ الحريات العامّة أصبحت في العصر الحديث المطلب الأعلى من مطالب الحرية، وربما كان على رأسها الحريات السياسية التي من أجلها قامت الثورات الكبرى كالثورة الفرنسية وغيرها، وما زلنا نشهد إلى اليوم كيف أنّ التاريخ يكاد يتمحّض في حركته بالتدافع من أجل الحريات السياسية بفروعها المختلفة، وهو الأمر الذي لا تخطئه العين في العدد الأكبر من الأقطار على تفاوت بينها في المقدار الذي أُنجز من إرساء هذه الحرّيات وثبات جذورها في الثقافة الاجتماعية وفي الإجراءات العملية التي ينتظم بها المجتمع.

ب ـ الحرية الدينية

المحور الأساسي في كل دين هو الإيمان بجملة من الغيبيات تترتب عليه لوازم سلوكية قد تتسع أو تضيق من دين إلى آخر ولكن لا يخلو منها دين على الإطلاق؛ ولذلك فإن الحرية الدينية تبتدئ بحرية المعتقد وتمتدّ إلى سائر لوازمه السلوكية، وهي من أهمّ ما ينضوي تحت الحرية من العناصر باعتبار أنّ المعتقد هو أسمى ما يتشوّف إليه الإنسان من القيم، حتى إنه ليبلغ به الأمر في ذلك إلى أن يضحي بحياته وهي أغلى ما يملك في سبيل معتقده.

 والمقصود بالاعتقاد هو الإيمان بجملة من المفاهيم والأفكار على أنّها حقّ أو هي الحقّ، وبخاصّة منها تلك التي تفسّر الوجود والكون والحياة، ويتشعّب منها كلّ ما يتعلّق بشؤون الإنسان الفردية والجماعية. وقد ينطبق هذا المعنى بدلالة أعمق على ما يتعلّق من هذه المفاهيم والأفكار بما هو مصبوغ بصبغة دينية غيبية، إذ الإيمان بها يكون في الغالب أحكم في النفوس وأقوى تأثيرا عليها، وقد يلحق به ما هو مصبوغ بصبغة فلسفية، إذ هو يكون أيضا على قدر من اليقينية والرسوخ.

وحرّية الاعتقاد تعني حرّية الاختيار في أن يتبنّى الإنسان من المفاهيم والأفكار ما ينتهي إليه بالتفكير أو ما يصل إليه بأيّ وسيلة أخرى من وسائل البلاغ، فتصبح معتقدات له، يؤمن بها على أنّها هي الحقّ، ويكيّف حياتها النظرية والسلوكية وفقها، دون أن يتعرّض بسبب ذلك للاضطهاد أو التمييز أو التحقير، ودون أن يُكره بأيّ طريقة من طرق الإكراه على ترك معتقداته، أو تبنّي معتقدات أخرى مخالفة لها.

ومعلوم أنّ الإيمان بالأفكار ومنها المعتقدات هو من حيث ذاته لا يمكن أن يرد عليه قيد، فالحرية فيه حاصلة على وجه البداهة، إلا أنّ الطريق التي يحصل منها الإيمان بالأفكار هي التي يمكن أن يطالها القهر بالحجر على بعض المسالك والتوجيه إلى أخرى بطرق مختلفة من الحجر والتوجيه بعضها مباشر وبعضها غير مباشر، مثل ما كان يفعل فرعون بأتباعه حينما كان يقول لهم ﴿ يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِن جَاءَنَا ۚ قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ﴾ ( غافر/29)، فتكون حرية المعتقد إذن مبتدئة من أن يُخلّى بين عقل الإنسان وبين المعطيات الموضوعية للموضوع المفكَّر فيه في غير إلجاء إلى بعضها دون بعض بأيّ وجه من وجوه الإلجاء.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير الحرية الدينية رأيه حرية رأي دين مكانة أفكار سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الشریعة الإسلامیة الحریة الدینیة فی الحریات العام ة من الاهتمام هذه الحریة ولذلک فإن الحریة من الحریة فی بجملة من بها إلى أن یکون یمکن أن فی ذلک إلى أن من حیث فی هذا ة التی

إقرأ أيضاً:

رأي.. إردام أوزان يكتب: الشرق الأوسط في عصر الصراع المفتوح.. من سيرسم الخطوط؟

هذا المقال بقلم الدبلوماسي التركي إردام أوزان *، سفير أنقرة السابق لدى الأردن، والآراء الواردة أدناه تعبر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة CNN.

لم تنشب الحرب بين إسرائيل وإيران بين عشية وضحاها. إنها تُشير إلى زوال تدريجي وعلني لقواعد الاشتباك الإقليمية. الوهمٌ بأن الصراع في الشرق الأوسط يُمكن إدارته أو احتواؤه بالغموض. لم تعد الخطوط الحمراء تحكم هذه المنطقة؛ بل انهيارها هو الذي يحكمها.

ما شهدناه خلال الأيام الماضية ليس تصعيدًا، بل كشفًا.

حرب إقليمية كانت تُدار بالوكالة وبإنكار مُقنع، تتكشف الآن على الملأ. في هذه الأثناء، يجد العالم العربي، الذي كان في السابق مركز الدبلوماسية الإقليمية، نفسه يراقب من بعيد.

من الحرب بالوكالة إلى المواجهة المباشرة

لأكثر من عقد، سارت التوترات بين إيران وإسرائيل على نهج مختلف. إسرائيل تشن هجماتها من الخفاء، بينما ترد إيران عبر وكلائها. لقد انتهى الآن ما يُسمى "الحرب بين الحروب".

تخلت إسرائيل عن سياسة الغموض، وشنت هجمات في عمق الأراضي الإيرانية. طهران، من جانبها، ترد بضربات صاروخية علنية. ما كان في السابق ردعًا سريًا تحول إلى حرب مفتوحة.

والآن انضمت الولايات المتحدة إلى المعركة.

في الساعات الأولى من صباح 22 يونيو/حزيران، شنّت قاذفات بي-2 الأمريكية ووحدات بحرية ضربات منسقة على المواقع النووية الإيرانية الرئيسية الثلاثة (فوردو، ونطنز، وأصفهان) مستخدمةً ذخائر خارقة للتحصينات وصواريخ كروز. وأعلن الرئيس ترامب أن العملية حققت "نجاحًا عسكريًا باهرًا"، مدعيًا تدمير البنية التحتية لتخصيب اليورانيوم في إيران.

لم تعد هذه مجرد مواجهة إقليمية، بل إن خطر اندلاع حرب متعددة الجنسيات أصبح مرتفعا للغاية.

سقوط جدار الحماية

لقد اعتمد النفوذ الإقليمي لإيران في الماضي على جهات مسلحة غير حكومية (حزب الله في لبنان، وحماس في غزة، والميليشيات العراقية، والحوثيين في اليمن). وقد وسعت هذه الجماعات نطاق طهران في حين حمتها من الانتقام المباشر.

لقد انهار جدار الحماية هذا. منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، تحوّل الوكلاء إلى مقاتلين مباشرين في حرب مُعلنة.

والآن، مع الضربات الأمريكية في إيران، اختفت فكرة الحماية من الحرب بلا حدود.

الدول العربية.. حاضرة لكنها مكشوفة سياسيًا

إن صمت العالم العربي ليس حيادًا، بل يبدو وكأنه ثغرة استراتيجية مُقنّعة تحت ستار ضبط النفس.

أصدرت الحكومات بياناتٍ مألوفة: دعواتٍ لتهدئة التصعيد، وقلقٍ على المدنيين، وإدانةٍ لإسرائيل. لكن جامعة الدول العربية لا تزال راكدة. عواصم الخليج، التي كانت تشجعت سابقًا بالتطبيع مع إسرائيل، تتردد الآن، عالقةً بين الانحياز والقلق.

لم يعد هذا القلق نظريًا. فمع انخراط القوات الأمريكية مباشرةً، أصبحت كل قاعدة أمريكية في المنطقة، من قطر إلى البحرين، هدفًا محتملًا. فالدول العربية ليست على هامش الجغرافيا، بل هي جزء لا يتجزأ من ساحة المعركة.

لكن التردد أعمق من ذلك. فقد قللت القيادة المجزأة، والضغوط الاقتصادية، واختلاف الأولويات من احتمالية تنسيق الدبلوماسية الإقليمية.

التطبيع، الذي كان يُسوّق سابقًا على أنه واقع، أصبح الآن أقرب إلى الانفصال. لا يوجد مقترح لوقف إطلاق النار، ولا مبادرة إقليمية، ولا رؤية جماعية.

إن المنطقة ليست محايدة، بل إنها تقترب بسرعة من حالة الغياب.

الارتجال ليس استراتيجية

تتسع هذه الحرب في ظل فراغ عالمي في القوة. اختارت الولايات المتحدة الآن القوة بدلًا من الدبلوماسية. ولا تزال روسيا تُركز على أوكرانيا. أما الصين، فتُلقي خطابًا عن التعددية القطبية، لكنها تفتقر إلى أي وزن سياسي.

في هذا الفراغ، يحل الارتجال محل الاستراتيجية.

تُقدّم تركيا نفسها كوسيط، بينما تُعزّز في الوقت نفسه وجودها العسكري وتأكيدها القومي في العراق وسوريا وغيرهما. في غضون ذلك، تلجأ مصر، التي تُصارع أزماتها الاقتصادية الداخلية، إلى عبارات مبتذلة حذرة. تُعيد المملكة العربية السعودية تقييم استراتيجيتها للتطبيع، مُقيّمةً التوازن بين الانخراط والتصعيد.

ولكن في غياب رد عربي موحد، فإن القرارات تُتخذ في أماكن أخرى.

الجبهة السورية الهشة

ولا يوجد مكان تكون فيه الهشاشة الإقليمية أكثر حدة من سوريا.

لقد أفرغ عقد من الحرب فعالية الدولة. ومع تجدد الصراع حولها، تُخاطر سوريا بأن تصبح أكثر من مجرد ضرر جانبي. بل قد تصبح ممرًا لانتشار عدم الاستقرار.

القوات الأمريكية قد تواجه هجمات متجددة في الشمال الشرقي. وتكثفت الضربات الإسرائيلية حول دمشق. وتترسخ الميليشيات في المناطق غير الخاضعة للحكم. وبدون دولة سورية فاعلة، لن يكون هناك منطقة عازلة، بل فراغ يملؤه السلاح والمقاتلون والفوضى.

الأوضاع السورية ليست مجرد قصة تحذيرية، بل هي نذير شؤم. فعندما تنهار الدولة ولا تتدخل أي بنية إقليمية حقيقية لإعادة بنائها، لا يبقى الفراغ ساكنًا، بل ينتشر.

وهم الاحتواء

لقد تحطمت كل الافتراضات التي حددت في وقت ما الصراع بين إيران وإسرائيل:

•       أن إسرائيل قادرة على إضعاف القدرات الإيرانية دون عقاب.

•       أن إيران ستستوعب الضربات لتجنب التصعيد.

•       أن الوكلاء قد يتمكنون من عزل رعاتهم عن المواجهة المباشرة.

•       أن الولايات المتحدة يمكن أن تظل ضامنًا بعيدًا، وليس مشاركًا مباشرًا.

لم تكن هذه استراتيجيات، بل كانت خرافات مُريحة.

الآن، المواقع النووية الإيرانية وسط الدمار. المدن الإسرائيلية تحت القصف. لقد تجاوز الصراع الحدود جغرافيًا ونفسيًا.

لقد فشل الاحتواء، وما تبقى هو التصعيد دون إطار.

من سيرسم الخطوط؟

لم يعد السؤال هو ما إذا كانت هذه الحرب سوف تنتشر، بل من سيشكل حدودها.

في الوقت الحاضر، إسرائيل وإيران هما من يحددان الشروط، وقد انضمت إليهما الولايات المتحدة.

إذا كانت الدول العربية تنوي وقف هذا السقوط الحر للسيادة، والأهمية المؤسسية، والوكالة الإقليمية، فيتعين عليها أن تتطور من مجرد متفرجين سلبيين إلى جهات فاعلة رئيسية.

هذا يتطلب أكثر من مجرد بيانات دبلوماسية، فهو يتطلب:

• عقد منتديات إقليمية مستقلة عن الوساطة الغربية.

• تحديد الخطوط الحمراء الإقليمية، ليس فقط ضد التدخل الأجنبي، بل أيضاً ضد تحويل الأراضي العربية إلى ساحات معارك بالوكالة.

• استعادة الوكالة الاستراتيجية، ليس كوسطاء، بل كمؤلفين للنظام الإقليمي.

نار بلا حدود

لقد زالت جدران الحماية، وانكشفت الأوهام. المنطقة لا تحترق من أطرافها، بل من داخلها.

إن الحقيقة الوحيدة الواضحة الآن هي أنه إذا ظلت الدول العربية صامتة، فإن دولاً أخرى سوف تشكل مستقبل المنطقة، نيابة عنها، وبدونها.

في الشرق الأوسط الذي لا توجد فيه خطوط حمراء، لم يعد من الممكن احتواء النار حيث بدأت.

* نبذة عن الكاتب: 

إردام أوزان دبلوماسي تركي متمرس يتمتع بخبرة 27 عامًا في الخدمة الدبلوماسية. وقد شغل العديد من المناصب البارزة، بما في ذلك منصبه الأخير كسفير لدى الأردن، بالإضافة إلى مناصب في الإمارات العربية المتحدة والنمسا وفرنسا ونيجيريا.

ولد في إزمير عام 1975، وتخرج بمرتبة الشرف من كلية العلوم السياسية بجامعة أنقرة. واكتسب معرفة واسعة بالمشهد السياسي والاجتماعي والاقتصادي في الشرق الأوسط، حيث قام بتحليل تعقيدات الصراعين السوري والفلسطيني، بما في ذلك جوانبهما الإنسانية وتداعياتهما الجيوسياسية.

كما شارك في العمليات الدبلوماسية المتعددة الأطراف، وتخصص في مجال حقوق الإنسان والتطورات السياسية الإقليمية. وتشمل مساهماته توصيات لتعزيز السلام والاستقرار من خلال الحوار والتفاوض بالتعاون مع المنظمات غير الحكومية والمنظمات الدولية. ويواصل حاليا دراساته عن الشرق الأوسط بينما يعمل مستشارا.

إردام أوزاندبلوماسي تركي وسفير أنقرة السابق لدى الأردنأمريكاإسرائيلإيرانالإماراتالسعوديةالعراقالكويتسورياقطرلبنانمصرنشر الاثنين، 23 يونيو / حزيران 2025تابعونا عبرسياسة الخصوصيةشروط الخدمةملفات تعريف الارتباطخيارات الإعلاناتCNN الاقتصاديةمن نحنالأرشيف© 2025 Cable News Network. A Warner Bros. Discovery Company. All Rights Reserved.

مقالات مشابهة

  • وزير الاقتصاد يلتقي المواطنين خلال اليوم المفتوح
  • ضبط 56 ألف مخالفة متنوعة في حملات مرورية خلال 24 ساعة
  • كنيسة الدويلعة والخوف المسيحي من الإسلام المشوّه
  • وزير العدل يترأس اجتماعين لمجلسي المركز الوطني للطب الشرعي والمعهد العالي للقضاء
  • رأي.. إردام أوزان يكتب: الشرق الأوسط في عصر الصراع المفتوح.. من سيرسم الخطوط؟
  • معتز محمود: الحرية المصرى يخوض الانتخابات البرلمانية بخطة طموحة
  • 84 عامًا من العناد النبيل.. تسنيم الغنوشي: أبي علّمني أن الحرية تُنتزع ولا تُهدى
  • وزيرا التربية والأوقاف السوريان يتفقدان امتحانات التعليم الأساسي الشرعي في دمشق
  • وزير الخارجية العراقي يحذر من استهداف القيادات الدينية أو المنشآت النووية