في العقد الأخير، تحوّل شرق البحر المتوسط إلى واحدة من أكثر الساحات توترًا في العالم، ليس بفعل الحروب فقط، بل بسبب صراع الغاز والنفوذ. اكتشافات الحقول البحرية أشعلت سباقًا محمومًا بين قوى إقليمية وأخرى أوروبية، أبرزها فرنسا وإيطاليا، حيث تسعى باريس لتعزيز نفوذها في المناطق الاقتصادية قبالة السواحل الليبية واللبنانية، بينما تحاول روما تثبيت موطئ قدم في ملفات الطاقة الليبية والقبرصية.

. .،

--في الوقت ذاته، يتفاقم التوتر بين تركيا واليونان حول مناطق النفوذ البحري والمياه الاقتصادية الخالصة، في ظل ادعاءات متضاربة بشأن حقول الغاز قبالة سواحل قبرص. وتكمن جذور هذا الخلاف في تباين تفسير القانون الدولي للبحار بين الطرفين. فبينما تعتمد اليونان وقبرص (بدعم أوروبي) على مبدأ "الجزر تولّد مناطق اقتصادية خالصة كاملة"، فإن تركيا ترفض هذا التفسير، وتتبنى وجهة نظر تقول إن الجزر الصغيرة المنتشرة قبالة سواحلها لا يجب أن تتمتع بنفس الحقوق الاقتصادية كاليابسة القارية.. .، ،

وترتكز أنقرة في موقفها على أن الجزر اليونانية مثل "كاستيلوريزو" الواقعة على بعد كيلومترين فقط من السواحل التركية، لا يمكنها أن تحرم الساحل التركي الطويل من حقه في الجرف القاري والمياه الاقتصادية. وبهذا الطرح، تسعى تركيا إلى إعادة تقسيم الحدود البحرية بناءً على الجغرافيا الفعلية وطبيعة التكوين الجيولوجي للمنطقة، وليس فقط على الخرائط السياسية التاريخية.. .، ،

هذا التفسير التركي ينعكس بوضوح في اتفاقية ترسيم الحدود البحرية المثيرة للجدل التي وقعتها مع حكومة طرابلس في ليبيا عام 2019، والتي تعارضها كل من مصر واليونان والاتحاد الأوروبي، وترى فيها تجاوزًا للحدود القانونية للمياه الاقتصادية المعترف بها دوليًا.. .، ،

كل هذه النزاعات لا تُقرأ فقط كخلافات حدودية، بل كجزء من لعبة أكبر ترتبط بتأمين احتياجات أوروبا من الطاقة بعيدًا عن الغاز الروسي. وهنا، تبرز مصر كلاعب إقليمي مؤثر، بفضل موقعها الجغرافي، وشبكة بنيتها التحتية الخاصة بإسالة الغاز، وأيضًا من خلال تحالفاتها في منتدى غاز شرق المتوسط، واتفاقيات ترسيم الحدود مع اليونان وقبرص.. .، ،

وتجد القاهرة نفسها أمام اختبار جديد في معادلة الغاز، ولكن هذه المرة في مواجهة سعي إسرائيلي لفرض تسعيرة مرتفعة على صادراتها الغازية إلى مصر.

فعليًا، لا تواجه مصر ضرورة اقتصادية أو فنية تدفعها إلى استيراد الغاز الإسرائيلي. فهي تمتلك بنية تحتية راسخة في مجال إسالة الغاز الطبيعي، تتمثل في منشآت إدكو ودمياط، والتي تُعد من الأكبر في المنطقة، وتوفر قدرة على المعالجة والتصدير للدول الأوروبية.

أما إسرائيل، فتعاني من معضلة جيو-اقتصادية حقيقية، إذ لا تملك مصانع إسالة تمكنها من تصدير الغاز مباشرة إلى أوروبا، وهو ما يجعلها تعتمد على مصر كممر استراتيجي إجباري. وبناء هذه المنشآت داخل إسرائيل يُعد مشروعًا مكلفًا للغاية، تتجاوز كلفته 10 مليارات دولار، وهو رقم ضخم لا يمكن تبريره بسهولة في ظل حجم الإنتاج المحدود نسبيًا.

لذلك، تسعى إسرائيل إلى تصدير غازها عبر خط الأنابيب القديم الذي كان يُستخدم في السابق لنقل الغاز المصري إليها بأسعار منخفضة للغاية، لتُعاد اليوم هندسة هذا المسار في الاتجاه المعاكس، ولكن هذه المرة بسعر يتجاوز 8 دولارات لكل مليون وحدة حرارية بريطانية. وهذا الرقم يتجاوز الأسعار العالمية المعروفة للغاز عبر الأنابيب، والتي تدور حول 3 إلى 4 دولارات، في حين أن السعر في الولايات المتحدة لا يتعدى 2.5 دولار.. .،

--ويزداد هذا الطرح غرابة عندما نعلم أن دولاً مثل قطر والسعودية تعرضان على مصر شحنات غاز بأسعار تنافسية، وبشروط سداد ميسّرة، مما يجعل الرضوخ لهذا السعر الإسرائيلي نوعًا من القبول الضمني بابتزاز اقتصادي غير مبرر.

السؤال الذي يطرح نفسه هنا: ما الذي يدفع مصر، وهي في موقع قوة، لقبول هذا العرض؟! خاصة أن الدور المصري في سوق الغاز بات يرتكز على فكرة التحوّل إلى مركز إقليمي للطاقة، لا مجرد مستهلك في معادلة مختلة.

الواقع أن إسرائيل، في هذه الحالة، هي الطرف المُضطر لا المُتحكّم. وكل طرق تصدير غازها تمر عبر الأراضي المصرية، بينما الخيارات الأخرى مكلفة ومعقدة سياسيًا. أما مصر، فهي تمتلك أوراقًا تفاوضية حقيقية، تبدأ من بنيتها التحتية، ولا تنتهي بدورها الجيوسياسي الإقليمي، إذا ما أحسنت استخدام تلك الأوراق في اللحظة المناسبة.

لقد بات واضحًا أن معركة الغاز ليست فقط معركة اقتصادية، بل هي وجه آخر لصراعات النفوذ الإقليمي في شرق المتوسط. مصر، بما تملكه من موقع وقدرات وشبكات علاقات، تملك فرصة حقيقية لتعزيز مكانتها إذا قررت أن تفاوض من موقع الشريك لا التابع.--!!

محمد سعد عبد اللطيف

كاتب وباحث في الجيوسياسية والصراعات الدولية ---

[email protected]

المصدر: الأسبوع

إقرأ أيضاً:

وضع يصعب على تل أبيب تحمّله.. نتنياهو يخشى المواجهة مع ترامب بشأن بيع “إف-35” للسعودية وتركيا

إسرائيل – كشف بن كاسبيت كبير المحللين في صحيفة “معاريف” العبرية أن رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو يخشى المواجهة مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بشأن بيع طائرات “إف-35” للسعودية وتركيا.

وأفاد بن كاسبيت أن نتنياهو يفضل الضغط الهادئ خشية الإضرار بالتفوق العسكري الإسرائيلي وعلاقاته بالبيت الأبيض.

وذكر أنه لو كان أي رئيس آخر غير دونالد ترامب في البيت الأبيض، لكانت إسرائيل ستبذل قصارى جهدها لدرجة المخاطرة بالتحالف مع الولايات المتحدة، لإحباط عملية بيع طائرات إف-35 المقاتلة المخطط لها إلى المملكة العربية السعودية وأي عملية بيع محتملة إلى تركيا.

ومع ذلك، لا يرغب رئيس الوزراء في المخاطرة بإثارة غضب الرئيس ترامب، ويبدو أن تصريحات الأخير الحادة تُخيف نتنياهو أكثر من بيع أسلحة متطورة لتركيا، التي وجه رئيسها رجب طيب أردوغان، تهديدات صريحة ضد إسرائيل في السنوات الأخيرة.

في هذا التقرير، ذكر مصدر دبلوماسي إسرائيلي رفيع المستوى أنه من المشكوك فيه أن يدرك ترامب مدى نفوذه على نتنياهو، وأن رئيس الوزراء اتخذ قرارا استراتيجيا لتجنب أي مواجهة مع الرئيس الأمريكي.

وفي مساء الأول من ديسمبر 2025، عقد نتنياهو اجتماعا سريا في مكتبه بالقدس مع فرانك سانت جون الرئيس التنفيذي للعمليات في شركة “لوكهيد مارتن” المقاول الرئيسي لإنتاج طائرات “إف-35”.

وكان الإشكال الرئيسي هو كيفية الحفاظ على التفوق العسكري النوعي لإسرائيل في الشرق الأوسط في حال حصول دول أخرى في المنطقة على هذه المقاتلات المتطورة.

ووصفت مصادر مطلعة على تفاصيل الاجتماع بأنه كان “مطولا ومحبطا” للجانب الإسرائيلي.

وأزالت الولايات المتحدة تركيا من برنامج “إف-35” خلال ولاية ترامب الأولى، بعد أن اشترت أنقرة منظومة الدفاع الجوي “S-400” من روسيا، ولكن في ضوء التقارب الأخير بين ترامب وأردوغان، قد يعمل الرئيس على رفع الحظر بشأن المقاتلات “إف-35” تحديدا.

وفي الوقت نفسه، أكد ترامب أن الولايات المتحدة ستعرض بيع الطائرات للرياض.

وفي الثالث من نوفمبر، قاد سانت جون وفدا كبيرا من شركة لوكهيد مارتن لزيارة المملكة العربية السعودية.

ووفق “معاريف”، يبقى مصدر القلق الأكبر لنتنياهو هو استعداد ترامب لتزويد تركيا بالسلاح الحاسم، حيث يعد تحكم أردوغان في جيش قوي معزز بمقاتلات “إف-35″، مصدر قلق حقيقي لسلاح الجو الإسرائيلي.

وتشير مصادر عبرية إلى خطاب ألقاه أردوغان في يوليو 2024 قال فيه إن على تركيا أن تكون قوية حتى “لا تستطيع إسرائيل القيام بهذه الأعمال العبثية بحق فلسطين”، مضيفا: “كما دخلنا قره باغ، وكما دخلنا ليبيا، قد نفعل شيئا مماثلا معهم”(الإسرائيليين).

وأوضح مصدر عسكري إسرائيلي رفيع أن القلق الرئيسي ينبع من قدرة التخفي المدمجة في طائرة إف-35 وأنظمة التحكم المستقلة الخاصة بها.

وهذه القدرة التي مكنت إسرائيل من مباغتة الإيرانيين، يمكن أن تستغل ضد إسرائيل التي تحتاج إلى إنذار مسبق طويل الأمد بدخول عناصر معادية إلى مجالها الجوي.

وبين التقرير أن قدرة الطائرات على الإقلاع من أي مكان في الشرق الأوسط والظهور فجأة في سماء إسرائيل وضع يصعب على تل أبيب تحمّله أو قبوله.

وكتب معلق بارز بصحيفة “معاريف” في موقع “المونيتور”، أنه قبل اجتماعه المتوقع مع ترامب في 29 ديسمبر في مارالاغو، من المتوقع أن يحاول نتنياهو التأثير على قرار الرئيس وشرح المخاوف الإسرائيلية بشأن التغيير في السياسة الأمريكية طويلة الأمد.

وبحسب التقرير، يمارس نتنياهو ضغوطا خفية على مساعدي ترامب المؤيدين ضمنيا لإسرائيل، بمن فيهم جاريد كوشنر، وستيف ويتكوف، وسفير الأمم المتحدة المعين مايك والز، والمتبرعين الجمهوريين مثل ميريام أديلسون.

ومع ذلك، أشار مصدر إسرائيلي رفيع إلى أنه على عكس الإدارات الديمقراطية التي مارس نتنياهو ضغوطا مكثفة ضدها في الكونغرس وبمساعدة لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية (أيباك)، فإن هذه الخيارات غير متاحة الآن في مواجهة ترامب، إذ يُعدّ الحفاظ على إسرائيل إلى جانبه أمرا بالغ الأهمية.

إلى جانب قضية الطائرات، من المتوقع أن تُثار قضايا أخرى في الاجتماع مع ترامب، بما في ذلك مساعي الرئيس لتنفيذ المرحلة الثانية من خطة السلام في غزة، والجهود المبذولة للتوصل إلى اتفاق لخفض التصعيد بين إسرائيل وسوريا، وجهود نزع سلاح حزب الله في لبنان. يُولي ترامب اهتمامًا بالغًا لهذه القضايا، ولا يرغب نتنياهو في أن يكون عائقًا أمامها، إلا أن تضييق الفجوات يُمثل تحديًا كبيرًا أمام رئيس الوزراء الإسرائيلي.

المصدر: “معاريف”

مقالات مشابهة

  • وضع يصعب على تل أبيب تحمّله.. نتنياهو يخشى المواجهة مع ترامب بشأن بيع “إف-35” للسعودية وتركيا
  • موقع إسرائيلي: السيسي يرفض لقاء نتنياهو وتفاقم الخلافات مع تل أبيب
  • رجل أعمال يتلاعب في وزن أنابيب الغاز بالجيزة
  • تحسُّن طفيف في طقس كفر الشيخ مع استمرار فرص الأمطار وانتظام الصيد
  • أوبك: انخفاض أسعار نفط البصرة المتوسط خلال شهر
  • الأمم المتحدة تطالب إسرائيل بالتعاون مع الأونروا..وتل أبيب ترد بحدة
  • 13 نزالاً تختتم بطولة العالم للملاكمة في دبي
  • نائب وزير خارجية تايوان يزور تل أبيب سرا لتعزيز التعاون العسكري
  • فائز في مسابقة يوروفيجن يعيد جائزته احتجاجا على مشاركة تل أبيب
  • صحيفة إسرائيلية: تل أبيب قد تقبل بدخول قوات تركية إلى غزة