يسرف كثيرون مساحات شاسعة من أوقاتهم في محاولات واهية لإقناع عشّاق كرة القدم بأنها ملهاة للشعوب ومضيعة للوقت، وأنها في أفضل أحوالها تستحيل قوة كاسحة لحرف المسار عن القضايا المهمة لصالح فرجة ومتعة ومنافسة لا طائل منها سوى تبديد الزمن.

لكن في حقيقة الأمر، لا يدرك هؤلاء الجاهلون حقاً في فلسفة كرة القدم وجوهرها الناصع البليغ، أنها كانت عبر تاريخها المشغول على سنّارة اللهفة بمثابة فسحة مترفة بصوغ الإلهام العالي، عند كثير من الفنانين والأدباء العرب والعالميين.

ليس ذاك إنجازها الوحيد، فقد تخطّته على أرض الواقع بأشواط، لتسبك فرح الجماهير وتحقق ما عجزت عنه السياسة وأهلها!

المسألة قد تحتاج إلى اللعب بعقارب ساعة الزمن للعودة نحو الوراء، وتحديداً إلى عام 1986 عندما انتهت بطولة كأس العالم الخالدة آنذاك. انزوى الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش إلى طاولته بعدما غلبه الملل وسَيَّج يومياته الحزن، وكتب مقالاً طويلاً يصف فيه نجم تلك البطولة اللاعب الأسطوري دييغو مارادونا.

استهله: "لمن سنرفع صراخ الحماسة والمتعة ودبابيس الدم، بعدما وجدنا فيه بطلنا المنشود، وأجج فينا عطش الحاجة إلى: بطل.. بطل نصفق له، ندعو له بالنصر، نعلّق له تميمة، ونخاف عليه وعلى أملنا فيه من الانكسار؟ الفرد، الفرد ليس بدعة في التاريخ. يا مارادونا، يا مارادونا، ماذا فعلت بالساعة.. ماذا صنعت بالمواعيد؟".

بتلك الهيئة المسبوكة ببراعة أدبية لا تحتاج شهادة أحد، صاغ درويش حالة أدبية رفيعة مستمدة من كرة القدم، كونها منبعاً حقيقياً للدراما، باعتبارها صراعاً حراً ونزيهاً وعفوياً على مسرح تتلقفه ملايين الأبصار.

الشاعر الراحل محمود درويش تغنى بإبداعات الأسطورة الأرجنتيني مارادونا خلال كأس العالم 1986 (مواقع التواصل)

فكيف إذا كان يتسيّده لاعب استثنائي، مثل النجم الأرجنتيني الشهير الذي أنجزت عنه السينما العالمية فيلمين وثائقيين عظيمين: الأول صوّر سنة 2009 للصربي أمير كوستريتسا بعنوان "مارادونا"، والثاني "دييغو مارادونا" أنجز سنة 2019 لآصف كاباديا، الذي يفتح فيه أرشيف مارادونا في الفترة التي لعب لصالح نادي نابولي الإيطالي، ويعرض فيه لقطات عرضت لأوّل مرة في تاريخ ساحر الكرة الأرجنتينية.

إعلان

المخرج البريطاني ذو الأصل الهندي سبق أن أتحف جمهوره بعملين وثائقيين عن شخصيتين مميزتين: الأولى، سائق الفورمولا وان البرازيلي إيرتون سينا، الذي قضى في حادث في الرابعة والثلاثين من عمره، والثانية، المغنية البريطانية إيمي واينهاوس التي رحلت فجأة في السابعة والعشرين.

وقد رفض كاباديا إخراج الفيلم عندما عُرض عليه، لكنه عاد ليوافق علماً بأن مدير أعمال مارادونا كان قد استأجر له مصوّرَين مطلع الثمانينات، يصورانه كيفما تحرك، وجمع 500 ساعة مسجلة من حياته، قدّمت للمخرج البريطاني الذي اختار منها شريطاً أيقونياً، استعان فيه بصوت مارادونا نفسه كمعلق صوتي!

ولن تنحرف البوصلة باتجاه أقل شأناً لو ابتعدنا قليلاً عن محمود درويش، بل على العكس، لأن أديب مرموق بحجم الراحل نجيب محفوظ قد نوّه مرات عدة بأنه لو لم يكن كاتباً، لكان لاعب كرة قدم.

عالمياً، السماء تعجّ بنجوم أدب وفن استلهموا وتغزّلوا بكرة القدم وحكوا عن عمق دورها في رحلاتهم. أبرز هؤلاء كان الفيلسوف والروائي الفرنسي ألبير كامو الذي لعب الكرة وولف بينها وبين الأدب، وكتب: "بعد سنوات طويلة، أتاح لي فيها هذا العالم خوض تجارب عديدة، توصلتُ إلى قناعة مفادها -حسبما عشت- أن ما أعرفه عن الأخلاق وواجبات الرجال، مدين بكلّه لكرة القدم".

الفيلسوف والروائي الفرنسي ألبير كامو لعب الكرة ومزج بينها وبين الأدب (مواقع التواصل)

في حين يصف الروائي التشيكي ميلان كونديرا لاعبي كرة القدم بطريقة لمّاعة وخاصة، إذ يقول: "لاعبو كرة القدم نفس جمال وتراجيديا الفراشات، فتلك تطير عالياً بمنتهى البهاء، من دون أن يتاح لها الاستمتاع أو الإعجاب بجمال طيرانها". ليس صاحب "خفة الكائن التي لا تحتمل" وحده من تشغفه كرة القدم، إنما تلك ليست سوى نماذج لعلاقة مبدعي الأدب بكرة القدم.

في حين عقّب أدباء وكتّاب ومثقفون وفنانون وشعراء على المطرح الذي ألهمتهم فيه كرة القدم، وأفادتهم بشكل أو بآخر في نتاجهم الأدبي الذي صار مرجعياً في العالم. ومن هؤلاء: أمبرتو إيكو وباولو كويلو وخوسيه ساراماغو ويفتوشينكو ومعروف الرصافي وآخرون.

أما في الحياة، فقد تجاوزت النتائج كل الصور الشعرية والمنطق الرومانسي الحالم، وتمكّنت "لعبة الفقراء" من إنجاز إذهال ينسب إلى أسطورة الكرة البرازيلي بيليه -بحسب مجلة "التايم" الأميركية والسيرة الذاتية للنجم الأسمر- عندما أحرز هدنة في حرب الانفصال النيجيرية سنة 1967 الدامية التي أرخت في ظروف إنسانية ساحقة ومجاعات عارمة. يومها، زار بيليه البلاد ولعب مع ناديه "سانتوس" ضد فرق محلية في البلد المنكوب.

أسطورة الكرة البرازيلية بيليه ساهم في الوصول إلى هدنة في حرب الانفصال النيجيرية سنة 1967 (مواقغ التواصل)

وفي القارة السمراء، وجّه ديدييه دروغبا، لاعب منتخب ساحل العاج وأسطورة نادي "تشلسي" لكرة القدم، نداءً إلى شعبه عقب تأهل بلاده إلى كأس العالم عام 2006 لإنهاء الحرب الأهلية التي استمرت خمس سنوات. وفعلا، انتهت الحرب بعد ذلك النداء بستة أشهر.

هي إذاً، أشرف الحروب بحسب شاعر الأرض الراحل، لكنّها وفقاً للقصص الحياتية الملهمة فإنها بريق السلام، ومساحة الخصب الأكيدة، والراية التي يجتمع حولها الجميع علّها تعلو كبارقة حلم تطوّق العنف وتبددّه.

إعلان

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات کرة القدم

إقرأ أيضاً:

بوجبا من ملاعب كرة القدم إلى ميادين الهجن

جدة (الاتحاد)
في إعلان يُعد محطة فارقة في تاريخ سباقات الهجن، أعلن فريق «الهَبُوب» أول فريق احترافي لسباقات الهجن في العالم، الذي أسّسه رائدا الأعمال السعوديان عمر المعينا وصفوان مدير، عن شراكة تاريخية مع نجم الكرة العالمية بول بوجبا، الذي ينضم إلى الفريق كسفير ومالك حصة.
انضمام بوجبا يمنح هذه الرياضة دفعة عالمية غير مسبوقة، وينقلها من دائرة الأضواء الإقليمية إلى اهتمام جماهيري دولي واسع.
يُعد بول بوجبا من أكثر لاعبي كرة القدم تأثيراً في جيله، توّج بلقب كأس العالم مع منتخب فرنسا، وفاز بدوري الأمم الأوروبية، وحقق الدوري الإيطالي أربع مرات مع يوفنتوس، كما حصد لقب الدوري الأوروبي مع مانشستر يونايتد.
وعلى المستوى الفردي، نال جائزة «الفتى الذهبي» عام 2013، وجائزة أفضل لاعب شاب في كأس العالم 2014، في مسيرة تصوغها الموهبة الخلّاقة، والروح القيادية، وحضور ثقافي يتجاوز حدود المستطيل الأخضر.
قال لاعب وسط موناكو بول بوجبا: «أشعر بحماس كبير لانضمامي إلى فريق الهبوب. منذ اللحظة الأولى التي تحدثت فيها مع عمر وصفوان، لمست شغفهما، ووضوح رؤيتهما، وحبهما الصادق لهذه الرياضة».
وأضاف: «طموحهما في أن تصبح سباقات الهجن رياضة ذات حضور عالمي هو شيء أشعر بأنه يمسّني من الداخل. طوال مسيرتي مرّت عليّ فرص كثيرة وعروض متعددة، لكن هذا المشروع كان مختلفاً. تحدّث إلى جزء أعمق في داخلي، إلى فكرة الثقافة والإرث والحكاية التي تُروى. أريد أن أكون جزءاً من مشروع يتجاوز حدود المنافسة في الملعب، مشروع يجمع الناس، ويُظهر تقاليد تستحق أن تُرى وتُحتفى بها. الانضمام إلى الهبوب كان بالنسبة لي أشبه بدخول عائلة جديدة، ولذلك جاء قراري بالموافقة بسلاسة واطمئنان».
لطالما كنت شخصاً يحب التجديد وفعل الأشياء بطريقة مختلفة، في طريقة لعبي، وفي أسلوبي في التعبير عن نفسي، وحتى في حياتي خارج كرة القدم. هذه العقلية تنتقل معي أيضاً إلى عالم الأعمال، إذ أبحث دائماً عن فرص فريدة ومثيرة تدفعني للتطور وتمنحني مساحة للنمو. الهبوب يجسّد كل هذا، مشروع جديد، ذو معنى، يفتح أمامي فصلاً مختلفاً من حياتي، من دون أن يبعدني عن حقيقتي ومن أنا فعلاً».
انطلق فريق «الهبوب» من المملكة العربية السعودية، حاملاً إرثاً يمتد لقرون، ولكن بروح عصرية تمزج بين أداء احترافي رفيع، ورعاية بيطرية متقدمة، وحكايات تُقدَّم بلغة بصرية قريبة من عالم السينما.

أخبار ذات صلة فانكوفر وايتكابس يفعّل بند الإبقاء على مولر إضافة رموز خاصة في مهرجان ولي عهد دبي

مقالات مشابهة

  • بنزيما لا يقفل باب العودة إلى المنتخب الفرنسي
  • ما الدول التي يفضل «ترامب» استقبال المهاجرين منها؟
  • ترامب يكشف عن الدول التي يفضل استقبال المهاجرين منها
  • السكتيوي يحذر قبل مواجهة سوريا: "مباراة لن تكون سهلة"
  • لقاء زيلينسكي وميلوني.. ما الدور الذي يمكن أن تلعبه إيطاليا في محادثات السلام؟
  • بوجبا من ملاعب كرة القدم إلى ميادين الهجن
  • ناقد: ما حدث للمنتخب بكأس العرب أداء كارثي لا يليق بتاريخ الكرة المصرية
  • أمير عزمي مجاهد: منظومة الكرة مُنهارة.. ولا يجوز تحميل «طولان» المسئولية وحده
  • غرور وعدم تقدير للمنافسين.. «شبانة» يُهاجم منظومة الكرة: خروج مصر «فضيحة».. وتحية مُستحقة للأردن
  • الكرة المصرية في خطر .. أيمن عبدالعزيز يُحذّر من استمرار الأخطاء الإدارية والفنية