إبراهيم شقلاوي يكتب: اللاجئون واختراق الأمن الوطني
تاريخ النشر: 10th, July 2025 GMT
يُعدّ ملف اللاجئين في السودان من أكثر الملفات حساسية وتشابكًا في الوقت الراهن، لما يحمله من تداعيات أمنية، وأبعاد اجتماعية، وتحديات سياسية، خاصةً بعد اندلاع الحرب في 15 أبريل 2023، والتي تسببت في موجات لجوء ونزوح داخلي وخارجي غير مسبوقة، كشفت هشاشة الدولة في التعامل مع هذه الأزمة، وأعادت إلى الواجهة تساؤلات عدة حول السيادة والهوية الوطنية.
منذ بداية الحرب، سجّلت تقارير محلية مشاركة عناصر من جنسيات دول الجوار في القتال ضمن صفوف مليشيا الدعم السريع، ما أثار مخاوف جدية من استغلال وضع اللاجئين لاختراق الأمن الوطني السوداني. وتبرز هذه المخاوف في ظل هشاشة الحدود وغياب الرقابة الفاعلة على حركة اللاجئين، لاسيّما في ولايات مثل الخرطوم والنيل الأبيض، التي تحولت إلى مراكز تجمعات ضخمة لهم.
وفي هذا السياق، يُنظر إلى قرار حكومة ولاية الخرطوم بترحيل اللاجئين خارج العاصمة كمحاولة لاحتواء التهديد، وفقًا لتصريحات صديق حسن فريني، المدير العام لوزارة التنمية الاجتماعية بالولاية، الذي أشار إلى أن الظروف الاستثنائية فرضت إعادة ترتيب الأولويات الأمنية والاجتماعية.
أما التحدي الأخطر، فهو محاولات فرض سياسة دمج اللاجئين في المجتمع في وقت تعاني فيه الدولة من فراغ تشريعي ومؤسسي. وقد كشف مقال نشر في “صوت السودان” عن توقيع مبدئي على بنود ما يُعرف بـ”الاتفاق العالمي للهجرة واللاجئين” (Global Compact)، وهو اتفاق لطالما تحفّظت عليه الخرطوم، لما ينطوي عليه من آثار مباشرة على التركيبة السكانية والموارد الوطنية.
هذا الاتفاق، الذي يمنح اللاجئين حقوقًا موسّعة مثل حرية التنقل، والتملك، والحصول على الخدمات الحكومية، بل وحتى الجنسية، يُعدّ من وجهة نظر المراقبين انتهاكًا للسيادة الوطنية، ومحاولة لإعادة تشكيل المجتمع السوداني ديموغرافيًا. والمقلق أن هذه الخطوات تُتخذ في غياب أي تفويض تشريعي أو رقابة برلمانية، وسط غياب مؤسسات الحكم الانتقالي.
وفي ولاية النيل الأبيض، التي تستضيف أكثر من 500 ألف لاجئ، تعاني المجتمعات المحلية من ضعف الخدمات الأساسية، من تعليم وصحة إلى بنية تحتية متهالكة. وقد عبّر والي الولاية، الفريق قمر الدين فضل المولى، عن هذه الهواجس خلال لقائه مؤخرًا بوفد المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، مطالبًا بدور دولي أكبر لتخفيف العبء عن السكان المحليين.
وهذا يعكس إدراكًا متأخرًا لحجم الضغوط التي تواجهها الدولة السودانية كدولة مضيفة، في ظل تراجع عالمي ملحوظ في دعم قضايا اللاجئين. والمفارقة المؤلمة، هي الفرق الشاسع بين تعامل السودان مع لاجئي دول الجوار، وبين تعامل تلك الدول مع اللاجئين السودانيين.
ففي مصر وتشاد وإثيوبيا، يُعامل اللاجئ السوداني وفق قوانين صارمة تشمل رسوم إقامة وقيودًا على الحركة. بينما في السودان، تُفتح الأبواب دون رقابة كافية أو ضوابط صارمة، بل وتُجرى مفاوضات بشأن دمج اللاجئين، دون النظر في الانعكاسات الأمنية والاجتماعية لهذا الخيار.
وقد تصاعدت الانتقادات الموجّهة إلى معتمدية اللاجئين ومفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في السودان، وسط اتهامات نقلتها وسائل إعلام محلية موجهة للسيد موسى علي عطرون، معتمد اللاجئين، بلعب دور في التمهيد لتوقيع اتفاقيات بلا تفويض قانوني، في ظل غياب الشفافية والمساءلة. حيث أصبحت المفوضية تنفذ وتنسق دون رقابة فعلية من مؤسسات الحكم الانتقالي أو مجلس السيادة.
والمطلوب من حكومة “الأمل” المرتقبة، هو إعداد سياسة وطنية واضحة وشاملة تجاه قضية اللاجئين، تستند إلى موافقة تشريعية معلنة على أي اتفاق دولي محتمل، وتُعرض تفاصيلها على الرأي العام. كما يجب إعادة تقييم الوجود الأجنبي العشوائي، وتفعيل آليات الحصر والمراقبة والتصنيف، مع ضمان حقوق المجتمعات المستضيفة، وعدم تحميلها فوق طاقتها، وحماية الهوية الوطنية والديموغرافية من أي عمليات دمج قسرية.
وفي المقابل، هناك نماذج إقليمية يمكن الاستفادة منها في إدارة هذا الملف، مثل تجربة لبنان التي رفضت توطين اللاجئين السوريين، متمسكة بخيار العودة الطوعية، رغم الضغوط الأممية، وفق تقارير UNHCR” Lebanon لعام 2023.” كذلك في إثيوبيا، سُمح للاجئين بحرية التنقل والعمل بموجب قانون 2019، دون أن تُمنح لهم حقوق سياسية أو تملك.
وتؤكد هذه النماذج أن القانون الدولي لا يُلزم الدول بالتوطين أو منح الجنسية، بل يفرض عدم الإعادة القسرية، وضمان الحماية، وتوفير الخدمات، في إطار اتفاقية 1951 الخاصة بوضع اللاجئين والمبادئ التي تعتمدها المفوضية السامية للأمم المتحدة “UNHCR”.
وبحسب ما نراه من #وجه_الحقيقة، فإن ملف اللاجئين يمثل اختبارًا حقيقيًا لقدرة الدولة السودانية على حماية أمنها الوطني دون الإخلال بالتزاماتها الإنسانية. وهو ملف لا يحتمل المجاملات السياسية أو التسويات الوقتية، فالتحدي الأكبر قد لا يأتي من الخارج، بل مما يُراد فرضه من الداخل تحت لافتة العمل الإنساني.
فهل تكون حكومة “الأمل” على قدر هذا التحدي؟ أم أن هذا الملف، كسابقاته، سيُترك مفتوحًا ليصبح عبئًا متفاقمًا على أمن البلاد ومستقبلها؟
دمتم بخير وعافية.
إبراهيم شقلاوي
الأربعاء 9 يوليو 2025م [email protected]
المصدر: موقع النيلين
إقرأ أيضاً:
حرب السودان تخرج عن السيطرة
يبدو السودان اليوم كأنه يقف عند مفترق طرق خطير بعد التطورات التى شهدتها مدينة الفاشر هذا الأسبوع، فاستيلاء ميليشيا الدعم السريع على عاصمة شمال دارفور لم يكن مجرد انتصار ميدانى، بل تحول إلى مؤشر صادم على دخول البلاد مرحلة جديدة، تعيد إلى الأذهان السيناريو الليبى الذى تجمد سياسياً وعسكرياً طوال خمسة أعوام، وهكذا يجد السودان نفسه منقسماً فعلياً إلى كيانين، شرق يحتفظ بالمدن التاريخية الكبرى تحت سيطرة الجيش، وغرب واسع يضم دارفور وكردفان ويقع بالكامل تحت قبضة ميليشيا باتت تتحكم فى معظم إنتاج الذهب وما تبقى من النفط.
سقوط الفاشر المدينة التى كان يقطنها نحو مليون ونصف المليون إنسان، جاء بعد حصار تجاوز الـ500 يوم، وبسقوطها انتهى وجود الدولة السودانية عملياً فى دارفور، المدينة تعرضت خلال تلك الفترة لعزلة خانقة، منظمات الإغاثة منعت من دخول مخيمات النازحين مثل نيفاشا وزمزم تركت لمصيرها وشهدت الأحياء عمليات قتل وإعدامات ميدانية ودفناً جماعياً، كما طالت الاعتداءات المستشفيات وبيوت العبادة فى مشاهد وثقتها مجموعات تابعة للميليشيا نفسها.
هذه الانتهاكات لم تكن مجرد فوضى حرب بل عكست طبيعة مشروع عسكرى يتوسع بثبات ويستند إلى دعم إقليمى واضح، فسيطرة الميليشيا على غرب السودان لا تقتصر على الجغرافيا بل تمتد إلى ثروات حيوية من معادن وبترول، وتشمل إقليما يلتقى مع حدود جنوب السودان وإفريقيا الوسطى وليبيا وتشاد، وهى مناطق تجرى فيها صراعات نفوذ معقدة، وتشير المعطيات إلى أن تشاد باتت منصة لاستقبال الدعم العسكرى الخارجى، بينما وفرت إحدى الدول الإقليمية أسلحة متقدمة ومقاتلين أجانب لتعزيز قدرات هذه الميليشيا وجاء إعلان قائد الدعم السريع فى أبريل الماضى عن تشكيل حكومة موازية بعد مشاورات استضافتها كينيا ليضيف بعداً سياسياً صريحاً لما يجرى، فالحديث لم يعد عن ميليشيا تتحرك داخل حدود الدولة بل عن كيان يسعى لبناء سلطة موازية تمتلك السلاح والموارد والعلاقات الإقليمية، فى ظروف تعجز فيها الدولة المركزية عن استعادة زمام المبادرة.
وفى ظل هذا المشهد تبدو فرص الحسم العسكرى ضئيلة، وهو ما يدفع البلاد نحو حالة شبيهة بالوضع الليبى، واقع منقسم، وحدود رخوة وهدوء مضطرب يستند إلى موازين قوى وليس إلى حل سياسى، غير أن ما يزيد الصورة تعقيداً هو الطموح الأثيوبى فى استغلال هشاشة السودان بحثاً عن منفذ له على البحر الأحمر، وهو ما قد يجر أطرافاً إقليمية إضافية إلى الصراع، ويحول الوضع السودانى من حرب داخلية إلى مواجهة تتجاوز حدود الدولة.
خلاصة المشهد أن السودان يعيش لحظة إعادة هيكلة، ليس فى الخريطة فحسب بل فى توازنات القوى وعلاقات الإقليم، وبينما تتقدم الميليشيات وتتراجع الدولة يبقى المواطن السودانى هو الطرف الأكثر خسارة، يدفع ثمن حرب تدار فوق أرضه ومن حوله بينما يغيب أفق الحل وتتعاظم المخاطر يوماً بعد يوم.
اللهم احفظ مصر والسودان وليبيا