يُعدّ ملف اللاجئين في السودان من أكثر الملفات حساسية وتشابكًا في الوقت الراهن، لما يحمله من تداعيات أمنية، وأبعاد اجتماعية، وتحديات سياسية، خاصةً بعد اندلاع الحرب في 15 أبريل 2023، والتي تسببت في موجات لجوء ونزوح داخلي وخارجي غير مسبوقة، كشفت هشاشة الدولة في التعامل مع هذه الأزمة، وأعادت إلى الواجهة تساؤلات عدة حول السيادة والهوية الوطنية.

منذ بداية الحرب، سجّلت تقارير محلية مشاركة عناصر من جنسيات دول الجوار في القتال ضمن صفوف مليشيا الدعم السريع، ما أثار مخاوف جدية من استغلال وضع اللاجئين لاختراق الأمن الوطني السوداني. وتبرز هذه المخاوف في ظل هشاشة الحدود وغياب الرقابة الفاعلة على حركة اللاجئين، لاسيّما في ولايات مثل الخرطوم والنيل الأبيض، التي تحولت إلى مراكز تجمعات ضخمة لهم.

وفي هذا السياق، يُنظر إلى قرار حكومة ولاية الخرطوم بترحيل اللاجئين خارج العاصمة كمحاولة لاحتواء التهديد، وفقًا لتصريحات صديق حسن فريني، المدير العام لوزارة التنمية الاجتماعية بالولاية، الذي أشار إلى أن الظروف الاستثنائية فرضت إعادة ترتيب الأولويات الأمنية والاجتماعية.

أما التحدي الأخطر، فهو محاولات فرض سياسة دمج اللاجئين في المجتمع في وقت تعاني فيه الدولة من فراغ تشريعي ومؤسسي. وقد كشف مقال نشر في “صوت السودان” عن توقيع مبدئي على بنود ما يُعرف بـ”الاتفاق العالمي للهجرة واللاجئين” (Global Compact)، وهو اتفاق لطالما تحفّظت عليه الخرطوم، لما ينطوي عليه من آثار مباشرة على التركيبة السكانية والموارد الوطنية.

هذا الاتفاق، الذي يمنح اللاجئين حقوقًا موسّعة مثل حرية التنقل، والتملك، والحصول على الخدمات الحكومية، بل وحتى الجنسية، يُعدّ من وجهة نظر المراقبين انتهاكًا للسيادة الوطنية، ومحاولة لإعادة تشكيل المجتمع السوداني ديموغرافيًا. والمقلق أن هذه الخطوات تُتخذ في غياب أي تفويض تشريعي أو رقابة برلمانية، وسط غياب مؤسسات الحكم الانتقالي.

وفي ولاية النيل الأبيض، التي تستضيف أكثر من 500 ألف لاجئ، تعاني المجتمعات المحلية من ضعف الخدمات الأساسية، من تعليم وصحة إلى بنية تحتية متهالكة. وقد عبّر والي الولاية، الفريق قمر الدين فضل المولى، عن هذه الهواجس خلال لقائه مؤخرًا بوفد المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، مطالبًا بدور دولي أكبر لتخفيف العبء عن السكان المحليين.

وهذا يعكس إدراكًا متأخرًا لحجم الضغوط التي تواجهها الدولة السودانية كدولة مضيفة، في ظل تراجع عالمي ملحوظ في دعم قضايا اللاجئين. والمفارقة المؤلمة، هي الفرق الشاسع بين تعامل السودان مع لاجئي دول الجوار، وبين تعامل تلك الدول مع اللاجئين السودانيين.

ففي مصر وتشاد وإثيوبيا، يُعامل اللاجئ السوداني وفق قوانين صارمة تشمل رسوم إقامة وقيودًا على الحركة. بينما في السودان، تُفتح الأبواب دون رقابة كافية أو ضوابط صارمة، بل وتُجرى مفاوضات بشأن دمج اللاجئين، دون النظر في الانعكاسات الأمنية والاجتماعية لهذا الخيار.

وقد تصاعدت الانتقادات الموجّهة إلى معتمدية اللاجئين ومفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في السودان، وسط اتهامات نقلتها وسائل إعلام محلية موجهة للسيد موسى علي عطرون، معتمد اللاجئين، بلعب دور في التمهيد لتوقيع اتفاقيات بلا تفويض قانوني، في ظل غياب الشفافية والمساءلة. حيث أصبحت المفوضية تنفذ وتنسق دون رقابة فعلية من مؤسسات الحكم الانتقالي أو مجلس السيادة.

والمطلوب من حكومة “الأمل” المرتقبة، هو إعداد سياسة وطنية واضحة وشاملة تجاه قضية اللاجئين، تستند إلى موافقة تشريعية معلنة على أي اتفاق دولي محتمل، وتُعرض تفاصيلها على الرأي العام. كما يجب إعادة تقييم الوجود الأجنبي العشوائي، وتفعيل آليات الحصر والمراقبة والتصنيف، مع ضمان حقوق المجتمعات المستضيفة، وعدم تحميلها فوق طاقتها، وحماية الهوية الوطنية والديموغرافية من أي عمليات دمج قسرية.

وفي المقابل، هناك نماذج إقليمية يمكن الاستفادة منها في إدارة هذا الملف، مثل تجربة لبنان التي رفضت توطين اللاجئين السوريين، متمسكة بخيار العودة الطوعية، رغم الضغوط الأممية، وفق تقارير UNHCR” Lebanon لعام 2023.” كذلك في إثيوبيا، سُمح للاجئين بحرية التنقل والعمل بموجب قانون 2019، دون أن تُمنح لهم حقوق سياسية أو تملك.

وتؤكد هذه النماذج أن القانون الدولي لا يُلزم الدول بالتوطين أو منح الجنسية، بل يفرض عدم الإعادة القسرية، وضمان الحماية، وتوفير الخدمات، في إطار اتفاقية 1951 الخاصة بوضع اللاجئين والمبادئ التي تعتمدها المفوضية السامية للأمم المتحدة “UNHCR”.

وبحسب ما نراه من #وجه_الحقيقة، فإن ملف اللاجئين يمثل اختبارًا حقيقيًا لقدرة الدولة السودانية على حماية أمنها الوطني دون الإخلال بالتزاماتها الإنسانية. وهو ملف لا يحتمل المجاملات السياسية أو التسويات الوقتية، فالتحدي الأكبر قد لا يأتي من الخارج، بل مما يُراد فرضه من الداخل تحت لافتة العمل الإنساني.

فهل تكون حكومة “الأمل” على قدر هذا التحدي؟ أم أن هذا الملف، كسابقاته، سيُترك مفتوحًا ليصبح عبئًا متفاقمًا على أمن البلاد ومستقبلها؟
دمتم بخير وعافية.

إبراهيم شقلاوي
الأربعاء 9 يوليو 2025م Shglawi55@gmail.com

إنضم لقناة النيلين على واتساب

المصدر: موقع النيلين

إقرأ أيضاً:

السودان.. 90% من المستشفيات خارج الخدمة وتحذيرات من انهيار صحي شامل

حذّرت جهات طبية سودانية من انهيار وشيك للمنظومة الصحية في مناطق النزاع، بالتزامن مع اتساع رقعة الدمار الذي ألحقته الحرب الجارية منذ أكثر من عام، في ظل خروج معظم المستشفيات والمراكز الصحية عن الخدمة، ونزوح الكوادر الطبية وغياب أي أفق لحل سياسي قريب.

وقالت شبكة أطباء السودان، إن النظام الصحي في إقليمي دارفور وكردفان بات على شفا الانهيار الكامل، مشيرة إلى أن نحو 90% من المنشآت الطبية في هذه المناطق تعرّضت للتدمير الكلي أو الجزئي، محمّلة الجيش وقوات الدعم السريع مسؤولية استهداف المستشفيات والمنشآت الإنسانية.

وتحدثت الشبكة عن عجز شبه تام في تقديم أبسط الخدمات الطبية، ما يهدد حياة ملايين المدنيين، خصوصًا النساء والأطفال ومرضى الأمراض المزمنة، مضيفة أن “الكارثة قاب قوسين، في ظل غياب أي تدخل دولي فعال”.

ووفقاً لمنظمة إنقاذ الطفولة، فإن الفترة بين أبريل 2023 ونهاية العام ذاته شهدت 136 هجمة موثقة على مرافق صحية، أدت إلى مقتل 238 شخصًا وإصابة 214 آخرين. كما أودت 13 هجمة خلال النصف الأول من 2024 بحياة 16 شخصًا وأصابت 148 آخرين.

ومع استمرار استهداف المستشفيات الكبرى، وتوقف معظمها عن العمل، نزح آلاف الأطباء والممرضين إلى خارج البلاد، وسط تحذيرات من انتشار الأوبئة والمجاعة في المناطق المنكوبة.

الأزمة الدبلوماسية مع الإمارات

في موازاة ذلك، تتفاقم الأزمة الدبلوماسية بين السودان والإمارات، بعد قرار مجلس الأمن والدفاع السوداني قطع العلاقات مع أبوظبي، متهمًا إياها بدعم قوات الدعم السريع بالسلاح والمعدات، وهو ما نفته وزارة الخارجية الإماراتية بشدة، واصفة تلك المزاعم بأنها “ادعاءات لا أساس لها من الصحة وتفتقر لأي أدلة موثوقة”.

وأكد المجلس السوداني أن “دعم الإمارات للميليشيات يهدد الأمن الإقليمي، خصوصاً في البحر الأحمر”، معلنًا سحب السفير السوداني وإغلاق البعثات الدبلوماسية في أبوظبي.

في المقابل، رفضت الإمارات الاعتراف بشرعية سلطة بورتسودان التي اتخذها قائد الجيش عبد الفتاح البرهان مقرًا لحكمه، مؤكدة أن “البيان الصادر عما يسمى مجلس الأمن والدفاع لن يمس العلاقات التاريخية بين شعبي البلدين”.

وتأتي هذه التطورات في وقت فشلت فيه كافة الوساطات العربية والدولية في تحقيق وقف دائم لإطلاق النار بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، رغم دخول الحرب عامها الثالث، وخلفت حتى الآن مئات الآلاف من الضحايا والنازحين، وسط تحذيرات من تحوّل البلاد إلى ساحة صراع إقليمي أوسع.

أزمة ممتدة وقلق دولي

وكانت منظمة الصحة العالمية قد حذّرت، منذ مطلع العام الجاري، من أن مستشفيات السودان على شفا الانهيار الكامل، ما يُنذر بكارثة إنسانية شاملة.

كما دعت منظمة “أطباء بلا حدود” إلى توسيع عاجل وسريع للاستجابة الإنسانية، مؤكدة أن الوضع الحالي يهدد الأمن الغذائي والصحي لملايين السودانيين.

مقالات مشابهة

  • «سلمان للإغاثة» يوزّع أكثر من 1800 سلة غذائية في السودان والصومال
  • منحة استثنائية لفائدة أرامل ومتقاعدي الأمن الوطني في إطار دعم اجتماعي موسّع
  • صرف منحة إستثنائية لفائدة أرامل ومتقاعدي الأمن الوطني
  • فريني يشهد افتتاح ورشة الحماية والتوثيق التي نظمتها معتمدية اللاجئين
  • د.حماد عبدالله يكتب: الأغنية الوطنية !!
  • غروندبرغ في مجلس الأمن: المخاطر التي تواجه اليمن كبيرة للغاية
  • السودان.. 90% من المستشفيات خارج الخدمة وتحذيرات من انهيار صحي شامل
  • محمد أبوزيد كروم يكتب: حل أزمة السودان.. بين دمج الجيوش والانتخابات!
  • إبراهيم شقلاوي يكتب: دعوة كامل إدريس للحوار الوطني