لمَ لا نعود إلى الطين الذي منه نشأنا ؟
تاريخ النشر: 22nd, July 2025 GMT
قبل مدة، كنتُ في نقاش حول مواضيع مختلفة مع صديق يعمل في حقل العمارة، ذهب الحوار بنا بعيدا، حتى وصلنا إلى العماني القديم الذي كان بالغ الذكاء ولم يسعَ لاستخدام الطين في العمارة القديمة عن جهالة، ولكنه كان إدراكًا عميقًا ودراية واسعة لظروف المناخ، ورؤية بعيدة المدى للبيئة المحلية.
ثم بادرني بسؤال أيقظ مارد الفضول في نفسي، فقال: لماذا لا نبني منازلنا اليوم من الطين؟ عندها بدأتُ بالبحث حول إمكانية استحداث العمارة العمانية واستبدال الأسمنت بالطين.
فأصبحت العمارة لدينا مستوردة فكريا من نماذج خارجية. تتمثل تصاميمها في صناديق أسمنتية مغلقة لا تنسجم وبيئتنا الخليجية. اليوم، ومع ارتفاع أسعار البناء لدينا، أرى أننا في حاجة إلى عمران مستدام، ينسجم والظروف البيئية، ويمدنا بصحة نفسية وجسدية أفضل. بعد البحث، وجدت أن الطين كمادة بناء، هي مادة صديقة للبيئة وللإنسان.
حيث تتفق وحاجاتنا كأفراد مستهلكين. فما المانع من استخدام مادة طبيعية، محلية وتتوافر بسخاء في سلطنة عمان، كما أنها قابلة لإعادة التدوير وتعد عازلا حراريا رائعا متفوقا بكفاءته على الكثير من مواد البناء الحديثة. فضلا عن أن هذه المادة تشكل لنا امتدادا للهوية العمانية ولذات الإنسان. أما الأسمنت، فهو منتج صناعي ثقيل، عالي الانبعاثات، مصمم لتغذية السوق الرأسمالي.
وقد أثبتت التجارب المعمارية الحديثة في دول عديدة كالهند والمغرب وأجزاء من أوروبا، أن استثمار الطين بتقنيات حديثة، يمكن أن يشكل بديلا فعالا للإسمنت دون الحاجة إلى التنازل عن الجودة. ولكن استحداث هذه المادة لتلائم متطلباتنا اليوم، يتطلب إرادة مؤسسية وفكرا معماريا عصريا لإثبات جدوى الفكرة عمليا. ونحتاج بذلك إلى معايير تنظيمية ولوائح للبناء الآمن تنطلق من الجهات المسؤولة، وإلى دعم الأبحاث لدراسة الطين كمادة معمارية من حيث القوة، والمقاومة، والثبات، والتكلفة.
إضافة إلى تقديم التسهيلات اللازمة للشركات العقارية التي تتبنى هذا النموذج من البناء. مادة الطين أقل كلفة في الاستخدام فضلا عن أنه يمكننا التغلب على المشكلات البسيطة التي قد تواجهنا في اعتماد الطين كمادة للبناء، وذلك بخلط الطين مع مثبتات طبيعية أو كيميائية مثل الجير أو الأسمنت بنسب صغيرة لزيادة المقاومة ضد الماء.
فلم لا نعمل على منهجية عمرانية مستدامة، باستحداث الطين وفق منظور علمي وبيئي حديث. قد تنطلق الفكرة من نمذجتها في أحد أحياء المدن الذكية مثل: مدينة السلطان هيثم، أو مدينة الثريا، أو حيّ من أحياء صروح.
خاصة وأنه انتماء يمتد في البيئة العمانية عميقًا. وبذلك نميّز هوية العمارة العمانية، ونهتم لنفسية الإنسان لأننا بحاجة إلى أن نعيش في بيوت تشبهنا ولا تثقل كواهلنا صحيا وماديا.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
«قصر كوير» أو قصر حارة البيبان: أنموذج فريد لتطور بيئة مكة المكرمة العمرانية
مع احتضان مدينة مكة المكرمة عددًا من المعالم التاريخية التي تُجسد تميز وتطور بيئتها العمرانية عبر مختلف العصور، تعكس تصاميمها الخصائص العمرانية الفريدة، يبرز "قصر كوير" أو قصر حارة البيبان من بين هذه المعالم بصفته واحدًا من أقدم وأجمل القصور التاريخية، إذ يجمع بين البعد المعماري الأصيل والبعد الرمزي المرتبط بالتنوع المجتمعي والثقافي في أوائل القرن العشرين، ويمثل القصر أنموذجًا فريدًا للعمارة المحلية، وعلاقتها بالتحولات الاجتماعية في أحياء مكة المكرمة، ومكانتها في الذاكرة المجتمعية للأهالي، وتأكيد أهمية المحافظة عليها.
وتعود ملكيته إلى أحد تجار مكة في أوائل القرن العشرين، الذي اشتهر بلقب "كوير" نسبة إلى تجارته في النورة (الجير) وهي مادة البناء الشائعة آنذاك، إضافة إلى تجارته في العسل والسمن، وهو ما انعكس على هندسة القصر وموقعه الإستراتيجي في حي "البيبان" أحد أبرز أحياء مكة المكرمة.
يقول رئيس قسم العمارة بجامعة أم القرى الدكتور عمر عدنان أسرة، إن القصر بني في بدايات القرن العشرين تقريبًا تلك الفترة ما بين (1910-1920م) (أصح الأقوال أنه بني بين عامي 1365- 1370هـ) التي شهدت فيها مكة تحولات اقتصادية واجتماعية وعمرانية كبرى نتيجة دخول الطباعة، والتوسع في الحج، وتطور وسائل النقل، واتضح ذلك في التفاصيل المعمارية المميزة وميلها إلى الفخامة المستمدة من العمارة في مكة، مشيرًا إلى أن القصر يقع على تلة مرتفعة نسبيًا تُطل على حي "البيبان" التاريخي؛ مما يمنحه مشهدًا بانوراميًّا ضمن محيطه العمراني، ويعد المسقط الأفقي للقصر أقرب إلى المربع، وهو تخطيط يميز القصور المكية القديمة، التي تهدف إلى ضمان الخصوصية والتهوية الطبيعية في الوقت ذاته، وقد عرفت المنطقة بكونها متنفسًا لأهالي مدينة مكة، لاعتدال مناخها ووُجود المزارع بها وعدد من القصور الأخرى.
وعن تفاصيل بناء القصر بيّن الدكتور عدنان، استخدام عدد من المواد والتقنيات المحلية الشائعة في مكة آنذاك، من أبرزها "الحجر المحلي" أساسًا قويًّا للبناء، والنورة (الجير) لعزل الجدران، والطين والخشب والجص في تغطية الأسطح الداخلية والأسقف، واستخدام أخشاب الساج الهندية الفاخرة في بعض الأبواب والنوافذ، كما زُيِّنَت الواجهات عبر نوافذ خشبية منقوشة تسمى (روشان) وزخارف هندسية ونباتية، أما الأسقف فقد حملت زخارف جصية يدوية تؤكد تفوق الصناع المحليين آنذاك، ويتكون القصر من خمسة أدوار، وهو عدد مرتفع نسبيًا مقارنة بالقصور الأخرى في تلك الفترة، ويحتوي على العديد من القاعات والصالات الواسعة، إضافة إلى ساحات داخلية (أحواش)، تتيح التهوية، وتعزز الخصوصية في آن واحد، وأنه استُخدم مكانَ إقامة الأمير محمد بن عبدالعزيز (حيث كان يستأجره بشكل سنوي)، كما زاره الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود -رحمه الله- في أثناء وجوده في مكة المكرمة.
وكشف رئيس قسم العمارة من خلال تحليل القصر بأنه يمكن استخلاص عدد من الدروس المعمارية المهمة منها: تكامل الشكل والوظيفة، إذ إن العمارة التقليدية وفّرت حلولًا ذكية للتهوية، والخصوصية، والعزل الحراري، بما يتناسب مع هوية المكان والبيئة المحلية، وبعيدًا عن النسخ المعماري المستورد، ويمكن كذلك توظيف القصر بعد الترميم في عدة مسارات مثل: إنشاء متحف للعمارة المكية التقليدية، يعرض أدوات البناء، وتقنيات التهوية، وتطور أشكال النوافذ والمداخل، واستخدامه كذلك مركزًا ثقافيًّا مجتمعيًّا، لإقامة فعاليات أدبية أو فنية أو معارض تراثية، وأيضًا بيت ضيافة تراثي فاخر، ضمن سياحة التجربة المكانية.