من قلب +8: أسئلة مؤجلة من المستقبل عن الهوية والتنمية وروح المجتمع
تاريخ النشر: 27th, July 2025 GMT
أكتب هذه السطور من قلب طوكيو، حيث لا تزال رائحة المطر تتسلل إلى نوافذ الفنادق الزجاجية، والضوء البارد ينساب على الإسفلت كما لو أنه هارب من فكرة الزمن. لم أغادر بعد، ولا أظن أنني سأغادر فعليًا، حتى بعد مغادرة المكان، لأن الأسئلة التي استيقظت داخلي بعد هذه الرحلة الممتدة من سيول إلى طوكيو سترافقني طويلًا.
المشاركة في المنتدى العالمي للعلوم السياسية كانت مدخلاً فكريًا بامتياز للتفاعل مع نخب أكاديمية قادمة من مختلف بقاع الأرض. لكن التجربة الحقيقية بدأت خارج جدران القاعات: في المترو، في الأسواق النموذجية، في المطاعم، في الرفوف الصامتة للمكتبات، وفي نظرات الناس الذين يتحركون بآلية صارمة، كأنهم جزء من آلة أكبر من قدرتهم على الفهم أو الرفض. هناك شيء متوتر في الهواء، شيء لا يُقال، لكنه محسوس. هدوء مفرط يكاد يكون صاخبًا في دلالته.
تجربتي الثانية في كوريا الجنوبية، التي امتدت إلى اليابان هذه المرة، أتاحت لي فرصة عميقة لتأمل ما وراء الصور النمطية. في الظاهر، نحن أمام مجتمعات متقدمة تقنيًا، منظّمة إلى درجة الانبهار، ناجحة اقتصاديًا، أنيقة في شوارعها ونظيفة في سلوكها العام. ولكن، ما معنى كل هذا حين يغيب الإنسان كقيمة؟ حين يتحول المجتمع إلى مجرد فضاء هندسي دقيق خالٍ من الفوضى، ولكنه أيضًا خالٍ من الدفء؟ لقد لاحظت، من خلال تفاعلي اليومي مع المواطنين هنا، أن العلاقات الاجتماعية شبه متلاشية، لا وجود للعفوية، لا أثر للعلاقات المفتوحة، حتى السلام أو التحيّة أصبحتا من الكماليات. الفرد هنا منغلق على نفسه، متوجس من الآخر، حتى قبل أن يقترب منه. هذا التوجس ليس مجرد موقف ثقافي أو اجتماعي عابر، بل هو نتاج لتراكمات تاريخية عنيفة لا تزال تشتغل في اللاوعي الجمعي. اليابان تحديدًا تحمل في ذاكرتها الجمعية جروحًا لم تندمل بعد: قنبلة نووية أمريكية دمرت مدينتين، وأبقت الندبة غائرة في وعي الأمة، فأصبح كل اقتراب من الآخر مشروع تهديد، وأضحى الحذر هو القاعدة في بناء العلاقات الإنسانية. لا يتعلق الأمر فقط بالحرب، بل بالتصورات العميقة التي ترسخت حول معنى الوجود، ومعنى السلام، ومعنى الثقة.
ومن جهة اخرى لا يمكن الحديث عن البنية النفسية للمجتمع الياباني دون التوقف عند إحدى أخطر الظواهر: ظاهرة الانتحار. اليابان تتصدر منذ سنوات لائحة البلدان ذات أعلى معدلات الانتحار في العالم، ليس فقط بسبب الضغوط الاقتصادية أو المهنية كما يُشاع، بل نتيجة نمط وجودي قائم على العزلة، على غياب التواصل العاطفي، على تفكك مفهوم الأسرة، بل وأحيانًا على انعدامه. الناس هنا يموتون صامتين كما يعيشون. هل يُعقل أن ينهار الإنسان في حضن واحدة من أكثر الدول تقدمًا وتطورًا؟ هل تكفي التكنولوجيا لملء الفراغ الوجودي؟ وهل يكفي النظام لسد الحاجة إلى دفء انساني لا يُعوّض؟
إن المفارقة التي تنكشف هنا مؤلمة ومثيرة للدهشة في آن واحد: هذه الدول التي لطالما قُدّمت كنماذج تنموية رائدة، تعاني اليوم من تحديات وجودية عميقة. الشيخوخة الديمغرافية تزداد، نسبة الولادات تنهار، العزوف عن الزواج يرتفع، والرفض الجماعي للهجرة يعمّق الأزمة. الدولة التي لا تُعيد إنتاج المجتمع، ولا تجدّد ذاتها ديمغرافيًا، تكون أمام خطر الزوال الناعم، حتى وإن كانت تبدو على السطح قوية ومزدهرة.
لكن السؤال الأكثر إلحاحًا يبقى: كيف يمكن لمجتمع متقدم، بلغ أعلى درجات التنظيم، أن يتحوّل إلى كيان هش على مستوى الروابط الاجتماعية؟ هل يمكن للفردانية المفرطة أن تبني أمة؟ وأين يذهب الإنسان حين يصبح النجاح الجماعي خاليًا من المعنى الفردي؟ ثم كيف نفهم هذا التناقض الفجّ بين البنية التحتية المتقدمة والبنية التحتية للروح التي تنهار بصمت؟ هل نعيش اليوم على أنقاض حداثة لم تفهم الإنسان؟ وهل نحن، في مجتمعاتنا المتوسطية بكل ما تحمله من فوضى وعفوية وعلاقات عائلية ممتدة، نعيش رغم كل شيء شكلًا من أشكال التوازن البديل، الذي يجب أن يُصان لا أن يُحتقر؟
رحلتي إلى كوريا الجنوبية واليابان كانت مناسبة لرؤية صورة الآخر من الداخل، ولرؤية أنفسنا من خلاله. لقد غادرت المسافة الجغرافية بيننا، لكنني اقتربت من مسافة أخرى، أعمق وأخطر: المسافة بين الإنسان وظلّه. وهذا ما يدفعني اليوم، وأنا لا أزال هنا، أن أكتب لا كسائح ينبهر، ولا كمثقف يدين، بل كإنسان يتساءل: من نحن؟ ومن هم؟ وإلى أين يمضي العالم حين تفقد الحضارة دلالتها، ويتحول التقدم إلى عبء، والنجاح إلى عزلة، والذاكرة إلى قيد؟ وهل في الإمكان بناء مستقبل مختلف لا يُقصي الإنسان باسم النظام، ولا يُغتال فيه الشعور باسم الصمت؟
الصورة مأخوذة من أعلى برج في اليابان هو برج طوكيو سكاي تري (Tokyo Skytree) بارتفاع: 634 متراً، وهو يُعد ثاني أعلى بناء في العالم بعد برج خليفة في دبي.
المصدر: اليوم 24
إقرأ أيضاً:
محافظ الغربية:الإذاعة شريك وطني فاعل في دعم الوعي المجتمعي والتنمية
استقبل اللواء أشرف الجندي محافظ الغربية، الدكتور ياسر غياتي مدير إذاعة وسط الدلتا، بمناسبة مرور 43 عامًا على انطلاق بث الإذاعة من مدينة طنطا، والتي تُعد واحدة من أقدم وأهم الإذاعات الإقليمية التابعة للهيئة الوطنية للإعلام، في إطار دعم محافظة الغربية للمنصات الإعلامية الوطنية، جاء ذلك بحضور الكاتب الصحفي محمد عوف .
دعم محافظ الغربيةوأكد محافظ الغربية خلال اللقاء أهمية الدور الذي تقوم به إذاعة وسط الدلتا في خدمة قضايا المجتمع، مشددًا على أن الإعلام المحلي يُمثل أحد الروافد الحيوية في ترسيخ الوعي الوطني وتعزيز التواصل بين المواطن ومؤسسات الدولة، كما يُعد شريكًا فاعلًا في دعم جهود التنمية وتسليط الضوء على المبادرات والبرامج التي تستهدف تحسين جودة الحياة في المحافظات.
وأعرب اللواء أشرف الجندي عن تقديره العميق للتاريخ العريق الذي تحمله إذاعة وسط الدلتا، ولما قدمته من محتوى إعلامي هادف ومتنوع على مدار أكثر من أربعة عقود، مؤكداً أنها كانت ولا تزال منبرًا يعكس نبض الشارع في دلتا مصر، ويسهم بفاعلية في تشكيل الرأي العام المحلي من خلال معالجات إعلامية تراعي خصوصية البيئة الثقافية والاجتماعية للمواطنين.
الإذاعة والتلفزيونوشدد محافظ الغربية على حرص المحافظة على تعزيز التعاون مع المؤسسات الإعلامية الوطنية، بما يسهم في دعم الرسالة الإعلامية الإيجابية، ويُعزز من الارتباط بين المواطن والإعلام القريب من واقعه.
كما أشاد بالدور التنموي والتوعوي الذي تضطلع به الإذاعة من خلال برامجها المتخصصة، مؤكدًا أن رسالتها الإعلامية تتكامل مع توجه الدولة نحو بناء الإنسان المصري وتعزيز الانتماء والهوية.
وفي ختام اللقاء، نقل الدكتور ياسر غياتي شكر وتقدير رئيس الإذاعة المصرية للواء أشرف الجندي محافظ الغربية، مشيدًا بدعمه المتواصل لوسائل الإعلام المحلية وتقديره لدورها المجتمعي، وقام بإهدائه درع إذاعة وسط الدلتا تكريمًا لجهوده في دعم الإعلام الإقليمي وتواصله المستمر مع قضايا المواطن.
البث الرسميجدير بالذكر أن إذاعة وسط الدلتا بدأت بثها الرسمي في يوليو عام 1982 من مقرها بمدينة طنطا، وتغطي محافظات الغربية، كفر الشيخ، المنوفية، الدقهلية، دمياط، والشرقية، وقد تميزت على مدار تاريخها بتقديم محتوى محلي متخصص يعكس احتياجات المواطنين ويُبرز الجهود التنموية في قلب الدلتا، كما أسهمت في تخريج نخبة من كبار الإعلاميين المصريين.