(ربما تكون هذه رسالتي الأخيرة، قبل أن أفارق هذه الدنيا، بكل تناقضاتها، وخيباتها، وعجزها، وخذلانها، وعفنها، وشعاراتها الخائبة).
أنا هنا، أجلس بين أنقاض بيتي الذي هدمته طائرة إسرائيلية، أضع في حضني جثث أولادي الخمسة، وتنام زوجتي الحبيبة بجانبنا في سلام.
يباغتني الجوع، ويقتاتني العطش، ورغم أن مؤسسة «غزة للإغاثة الإنسانية» تقع على بُعد أمتار مني، ولكني أخشى أن أذهب إليها، خوفًا من رصاصة غادرة من جندي إسرائيلي يقتات على الدم، ويتلذذ بالقتل، ولا يرى بأسًا في اصطياد الأبرياء؛ فدماغه الساديّ لا يفرّق بين بريء ومقاتل، ولا بين طفل وعجوز، ولا بين امرأة حامل أو رجل يلهث من التعب.
المهم في مخيلته المريضة أن كل فلسطيني هو مشروع إرهابي يجب القضاء عليه، لا يهم من يكون، وكيف يكون، وماذا يفعل، أو إن كان باحثًا عن طعام، أو من مقاتلي «حماس»، فالكل في نظره البغيض وحش كاسر يجب محوه، وكأنه «يُسقط» شخصيته المجرمة على الآخرين.
أرى من بعيد طفلًا يزحف على ركبتيه، يحاول الوصول إلى المساعدات، يحمل في يده كيسًا حصل عليه من مكبّ النفايات.
يزحف... يزحف... يزحف... ثم فجأة يتوقف عن الزحف، لم يعد يتحرك، يبدو أنه أغمض عينيه للأبد.
اقتربتُ منه وقد فارق الحياة، كان ابن جاري. استشهد جميع أفراد عائلته في غارة جوية بربرية، وها هو يلحق بهم.
لم يعد لأسرته سجل مدني، مسحته قذيفة صاروخ «ذكي».
كان طفلًا مرحًا، وجميلًا، لم يكن يحمل سلاحًا، ولا حجرًا، كان كل ما لديه كيس صغير شفاف كقلبه الطاهر.
لم يُمهله الجوع أن يصل إلى مركز المساعدات، التي أصبحت جزءًا من الخطة الإجرامية الصهيونية، متدثرة بعباءة المعونات الإنسانية في ظاهرها، والملوثة يدها بالجرائم.
لا أدري لماذا نصدّق دائمًا الكذبة الكبرى التي تعتقد أن لأمريكا قلبًا يخفق بالرحمة، بينما أصبحت في الواقع أداة إبادة تشارك المجرمين الصهاينة الجرائم.
سمعتُ أن «جامعة الدول العربية» اجتمعت لتدين القصف الإسرائيلي!!
وكأن الذي ينقصنا كلام شبعنا منه سنين طوال!
كم هو عمل مذهل لهذه «الجامعة» التي لم «تتعلم» من دروس الماضي، والتي تصرّ أن تلعب دورًا هزليًا لتسجيل حضورها في الشجب والندب.
لقد كان موقف الاتحاد الأوروبي، والدول الأجنبية في العالم، أكثر تقدمًا وصرامة من موقف العرب، أقصد «إخوتنا العرب»، الذين يقفون على الحياد، كلٌ يغني على ليلاه، يتفرجون علينا ونحن نُذبح كالشياه، ونجوع، ونموت من الظمأ، وتُداس كرامتنا كل يوم، بينما ينام «أحفاد العروبة» قريري العين.
لا ضمير يتحرك، ولا غضب شعبي يتشكل، ولا موقف سياسي يُعلن، حتى صار من المخجل ـ رغم أنه لم يعد شيئًا يدعو للخجل ـ أن الدعم المعنوي والفعل الشعبي يأتي من كل شعوب وحكومات الأرض، وحتى من اليهود أنفسهم، بينما يرفع العرب شعارهم المزمن: «لا أرى، لا أسمع، لا أتكلم».
فطوبى لهم عروبتهم.
(4)
طائرة إسرائيلية تحوم فوق رؤوسنا، يبدو أنها تتأكد من أنها أنجزت المهمة، وأنه لا أحياء باقون.
كان هناك ظل يتحرك في منزل متهاوٍ، تُطلق الطائرة قذيفة فتسوّي المنزل بالأرض.
تتطاير أشلاء الأطفال، وتتمزق جثة امرأة مسنّة، ويسقط شيخ هرم بجانبي يمسك في يده «مفتاح» بيته الذي غادره قبل أكثر من سبعين عامًا، وظلّ يحلم بعودته إلى القدس، لم يعد الرجل موجودًا.
حملتُ المفتاح، قبّلته بأمل، قذيفة أخرى تنطلق نحوي، الظلام يلف المكان، انطفأ المشهد، وانتهى كل شيء.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: لم یعد
إقرأ أيضاً:
83 شهيدًا في قطاع غزة خلال 24 ساعة
صراحة نيوز – قالت وزارة الصحة في غزة، إن 83 شهيدًا، و554 جريحًا وصلوا إلى مستشفيات قطاع غزة خلال الساعات 24 الماضية.
وأضافت الوزارة في التقرير الإحصائي اليومي لعدد الشهداء والجرحى جراء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، أن عددًا من الضحايا
ما زالوا تحت الركام وفي الطرقات، حيث تعجز طواقم الإسعاف والدفاع المدني عن الوصول إليهم.
وأكدت، ارتفاع حصيلة العدوان الإسرائيلي إلى 60,332 شهيدًا و 147,643 إصابة منذ السابع من أكتوبر للعام 2023م، فيما بلغت حصيلة الشهداء جراء العدوان على غزة منذ 18 آذار الماضي بلغت 9,163 شهيدًا 35,602 إصابة.