لجريدة عمان:
2025-12-13@01:42:25 GMT

لغة السياسة في عصرنا

تاريخ النشر: 23rd, July 2025 GMT

لا يمكننا أن نتحدث عن لغة السياسة المتداولة في عصرنا باعتبارها لغة واحدة يتداولها الساسة في كل مكان، وإنما يمكننا رصد بعض الصفات الغالبة على هذه اللغة، وتصنيفها بحسب مكانة الدول ومدى تأثيرها ونفوذها السياسي في العالم، وهذا ما يمكن تناوله باختصار في النقاط التالية، بما يكفي لإيضاح الفكرة التي أريد الإفصاح عنها.

في دول العالم الثالث الأقل تأثيرًا في النظم السياسية العالمية، ومنها معظم دول الشرق الأوسط، نجد أن اللغة السياسية المتداولة غالبًا ما تكون لغة مائعة لا تقول شيئًا عما يدور بين ساستها ونظرائهم عبر العالم في اللقاءات المهمة بشأن أمور وأحداث مهمة في عالمنا، على نحو يخفي أو لا يصرح بحقيقة مواقفها إزاء شعوبها وإزاء العالم؛ ولذلك نجد أن هذه اللقاءات أو المباحثات تنتهي عادة ببيان لا يقول شيئًا سوى هذه العبارة التي تتداولها الأخبار، وهي: «أن المحادثات قد تناولت الأحداث الراهنة والأمور ذات الاهتمام المشترك!!»، وهذه عبارة جوفاء لا تقول شيئًا. وبطبيعة الحال، فإن هناك أمورًا قد يكون من الصالح العام عدم الإفصاح عنها لضرورات سياسية، ولكن من غير المعقول أن تصبح مثل هذه العبارات هي اللغة المتداولة في كل الأحوال. والحقيقة أننا يمكن أن نستثني بعض الدول المؤثرة من هذه الحالة، مثل: تركيا وإيران؛ كما أننا يمكن أن نستثني منها بعض الدول العربية؛ لعل أهمها سلطنة عمان بوجه خاص التي تتبع دائمًا سياسة متوازنة تقوم على عدم الانحياز؛ وهذا ما أهلها للقيام بدور فاعل في النزاعات التي تجري حول العالم (وهو الدور الذي يمكن أن نلمسه أيضًا في السياسة الراهنة لدولة قطر). ولهذا السبب نفسه فقد وصفت في إحدى مقالاتي بهذه الجريدة الرصينة السياسة الخارجية لسلطنة عمان بأنها «سياسة عدم الانحياز الإيجابي»؛ فهي وإن كانت تتصف بعدم الانحياز، إلا أنها تظل فاعلة فيما يتعلق بمواقفها من النزاعات العالمية؛ ولذلك فإنها تفصح عن مواقفها دون مواربة.

أما في عالم الغرب، فإن الخطاب السياسي يتخذ لغةً مختلفة تمامًا وعلى أنحاء متباينة: فالخطاب السياسي على مستوى المؤسسات والمنظمات الدولية- بما فيها الأمم المتحدة نفسها- لا تملك شيئًا سوى التعبير بلغة الشجب والاستنكار لما يحدث في عالمنا من مجازر وأهوال!! ولا شك في أن هناك دولًا- مثل إسبانيا وإيرلندا- تتخذ لغة حاسمة في مواقفها من الظلم والعدوان الذي يجري الآن على شعب فلسطين؛ ولكن لغة الخطاب السائد في العالم الغربي لا تتجاوز غالبًا لغة الاستنكار أو الشجب والإدانة. بل إن بعض هذه الدول لا تزال تستخدم لغة الأكاذيب، فتصف المقاومة الفلسطينية- على سبيل المثال- بأنها جماعات إرهابية في نوع من التواطؤ مع السردية الصهيونية.

ولكن لغة السياسة الأمريكية الراهنة- كما ترد على لسان رئيسها الحالي دونالد ترامب- هي لغة لا نظير لها في تاريخ الخطاب السياسي؛ فهي لغة تصرح بالشيء ونقيضه ليس فقط في أوقات متباينة أو متباعدة، وإنما أيضًا في اليوم الواحد، وربما في السياق الواحد: ففي أثناء ترشح ترامب للرئاسة، وعد الناخبين والعالم كله بأنه سيقوم بإحلال السلام في كل مناطق الصراع، فصرح بأنه قادر على إنهاء الحرب بين روسيا وأوكرانيا على الفور عندما يفوز بالرئاسة، ولكنه لم يفعل شيئًا حتى الآن. ثم بدا من تصريحاته أنه يتحالف مع روسيا ولن يدعم أوكرانيا بالسلاح، ولكننا نكتشف أن ذلك هو جزء من أوراق اللعبة للضغط على أوكرانيا بهدف رضوخها لاستغلال معادنها الثمينة؛ ومن ثم وجدنا مؤخرًا تصريحات أخرى بدعم لا محدود لأوكرانيا بالسلاح والتهديد بمزيد من العقوبات على روسيا. وفيما يتعلق بالصراع في منطقة الشرق الأوسط تصدر دائمًا عنه تصريحات بأنه سوف يُنهي الحرب والصراع في غزة في غضون أسبوع، ولكن يبدو أن هذا الأسبوع لا يأتي أبدًا، على الأقل حتى كتابة هذه السطور (رغم أنه يستطيع بالفعل إنهاء الحرب على غزة إذا أراد ذلك، ولكنه يماطل من أجل تحقيق صفقات أو مساومات من وراء ذلك). كما أنه صرح بأنه يريد إقرار السلام بالتفاوض مع إيران، ثم يوجه لها ضربة محسوبة إرضاءً لإسرائيل وتحالفًا معها بهدف إظهارها باعتبارها القوة المهيمنة في منطقة الشرط الأوسط؛ وهو يعلن عداءه الصريح للحوثيين ويقوم بضرب مواقعهم في اليمن، ثم يسكت عنهم ويتفق معهم على عدم الاعتداء نظير عدم اعتدائهم على المصالح الأمريكية والقوى البحرية الأمريكية في البحر الأحمر (طالما أن إسرائيل بمفردها يمكنها توجيه ضربات إلى الحوثي).

ولعل هذا هو السبب في أن المفكر المغربي عبد السلام بن عبد العالي يرى- في مقال له بعنوان «السياسة نصفها جد، ونصفها لعب»- «أن السياسة «لعبة» غالبا ما تغيب عنا أطرافها، وغالبا ما نفتقد الخيوط المتحكمة فيها، وهي «لعبة» أقرب إلى المسرح والتمثيل منها إلى أي شكل آخر». وربما يفسر هذا نفسه ما ذهبت إليه أنا عن لغة السياسة المتداولة في عالمنا الراهن والمهيمنة على خطابه: فإذا كانت السياسات العالمية الراهنة تبدو أشبه بألعاب لا تخلو من التمثيل؛ فمن الطبيعي أن نرى لغة الخطاب السياسي أشبه بلغة لا ينبغي أن نأخذها على محمل الجد، أي كما لو كانت لغة صريحة أو تقصد واقعًا فعليًّا.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الخطاب السیاسی لغة السیاسة

إقرأ أيضاً:

عبدالفتاح باشا يحيى إبراهيم.. بين السياسة والوفاء لمصر

عبدالفتاح باشا يحيى إبراهيم، اسم يرن في تاريخ مصر السياسي والدبلوماسي كرمز للنزاهة والجدية والتفاني في خدمة الوطن. ولد في مدينة الإسكندرية عام 1876، في بيت معروف بالتجارة والثقافة، حيث كان والده أحمد يحيي من كبار تجار القطن، ينتمي منذ بداياته إلى حزب الوفد، وكان له موقف راسخ في خدمة وطنه. 

عبدالفتاح يحيى نشأ في بيئة تجمع بين العمل التجاري والاجتماعي، ما أكسبه فهما عميقا للاقتصاد والمجتمع المصري، كما ورث عنه حب الوطن والانتماء الوطني الذي سيصنع لاحقا مسارا سياسيا غنيا بالعطاء والإنجازات.

في حياته العملية، تجسد دور عبدالفتاح باشا في شتى مناحي السياسة والدبلوماسية، فقد تقلد مناصب عديدة بداية من وزارة العدل، مرورا بمجلس الشوري، وصولا إلى رئاسة وزراء مصر. 

لم يكن مجرد سياسي تقليدي؛ بل كان رجلا يرى في السياسة وسيلة لخدمة المواطنين وتحقيق العدالة، خلال توليه وزارة العدل، حرص على تطوير النظام القضائي وتعزيز استخدام اللغة العربية في المحاكم المختلطة، مؤمنا أن اللغة ليست وسيلة للتواصل فحسب، بل هوية وطنية يجب الحفاظ عليها ودعمها.

وقد برز اسمه بشكل أكبر عندما تولى رئاسة مجلس الوزراء بين عامي 1933 و1934، حيث شكل حكومة كان هدفها خدمة الشعب المصري وتعزيز الاستقلال السياسي للبلاد. 

كان في هذه المرحلة محوريا في سن نظام أداء اليمين القانونية للوزراء أمام الملك، خطوة رائدة عززت من شفافية العمل الحكومي ونظام المساءلة داخل الدولة.

لم يقتصر دوره على الجانب السياسي الداخلي، بل امتدت بصماته إلى السياسة الخارجية، حيث احتفظ أثناء رئاسته للوزارة بمنصب وزير الخارجية، ما أتاح له أن يمثل مصر في المحافل الدولية ويثبت مكانتها بين الأمم.

عبدالفتاح باشا لم يكن بعيدا عن هموم المواطن البسيط، فقد أصدر قرارا بتخفيض إيجار الأطيان الزراعية عام 1932 بمقدار ثلاثة أعشار قيمتها، وهو قرار يعكس اهتمامه المباشر بمصالح الفلاحين والطبقة العاملة في الريف، ويبرهن على حبه لبلده وحرصه على العدالة الاجتماعية. 

كما كان له موقف حاسم من مؤسسات الإدارة المحلية التي لم تكن تعكس تطلعات المصريين، حيث قام بحل مجلس بلدي الإسكندرية الذي كان ذا صبغة دولية وأعضاؤه أجانب، مؤكدا أن مصر للأهالي وأن قراراتها يجب أن تخدم مصالح الشعب المصري أولا.

إضافة إلى ذلك، عمل على تنظيم وزارة الخارجية بشكل دقيق، محددا اختصاصات إداراتها، وهو ما ساعد على تعزيز كفاءة العمل الدبلوماسي، وفتح الطريق أمام جيل من الدبلوماسيين الذين يتطلعون لبناء مصر على أسس متينة. 

كل هذه الإنجازات لم تأت من فراغ، بل جاءت نتيجة لرؤية وطنية واضحة وإيمان راسخ بأن مصر تستحق قيادة واعية ومخلصة تعمل بلا كلل من أجلها.

حين نتحدث عن عبدالفتاح باشا يحيى إبراهيم، نتحدث عن رجل جمع بين الصرامة والنزاهة والحكمة والإنسانية، رجل لم ينس جذوره ولم يبتعد عن هموم شعبه، رجل جعل من السياسة أداة لخدمة الوطن والناس على حد سواء. 

إن تاريخه يذكرنا بأن القيادة الحقيقية ليست مجرد منصب، بل مسؤولية تجاه الوطن والمواطن، وأن الحب الحقيقي لمصر يظهر في القرارات الصغيرة والكبيرة، في العدالة الاجتماعية، وفي الدفاع عن هوية البلاد ومصالحها.

عبدالفتاح باشا ترك إرثا عميقا في الذاكرة المصرية، ليس فقط كسياسي ودبلوماسي، بل كمواطن عاش وحلم وعمل من أجل مصر، وعلمنا أن الوطنية ليست شعارات ترفع، بل أفعال تمارس يوميا، وأن الالتزام بحقوق الناس هو السبيل لبناء وطن قوي وكريم. 

وبالرغم من مرور السنوات، يظل اسمه محفورا في صفحات التاريخ، مثالا للنزاهة، للحكمة، وللإخلاص، وللحب الحقيقي لمصر، حب يتجاوز الكلمات ويصل إلى الأفعال، لتبقى مصر دائما في المقدمة، ولتبقى ذكراه مصدر إلهام لكل من يحب وطنه ويعمل من أجل رفعتها.

مقالات مشابهة

  • طلب غير مسبوق على تذاكر مونديال 2026.. 5 ملايين طلب خلال 24 ساعة فقط
  • حجرُ الأحزاب في بركة السياسة
  • السلاح.. صناعة للموت وإبادة للشعوب
  • أوهام الازدهار العالمي.. تفكيك أسباب الفقر في عالمٍ يزداد غنى .. كتاب جديد
  • مفكر: الجهاد الحقيقي في عصرنا العلم والعمل.. ودار الإسلام لم تعد مناسبة
  • بين السياسة والدهاء.. أسرار علي ماهر باشا في إدارة مصر
  • عبدالفتاح باشا يحيى إبراهيم.. بين السياسة والوفاء لمصر
  • ما الدول التي يفضل «ترامب» استقبال المهاجرين منها؟
  • ترامب يكشف عن الدول التي يفضل استقبال المهاجرين منها
  • قصة الثعلب والديك في السياسة!