الجزيرة:
2025-07-26@22:48:46 GMT

المعركة الفاصلة لاستعادة السودان

تاريخ النشر: 25th, July 2025 GMT

المعركة الفاصلة لاستعادة السودان

من نافذة الطائرة التي هبطت للمرة الأولى في مدرج مطار الخرطوم منذ بداية الحرب، بدت نظرات رئيس مجلس السيادة الانتقالي، الجنرال عبدالفتاح البرهان، حزينة ساهية وهو يتأمل معالم الدمار والخراب والبؤس التي خلفتها المعارك القتالية.

لم يكن البرهان سعيدًا، بالرغم من أن هبوطه هذا بمثابة مرحلة جديدة من الانتصارات، وانطلاق عمليات الإعمار، وانتقال مركز السلطة من ساحل البحر الأحمر إلى مقرن النيلين.

. فالمشهد العام يفرض تساؤلات ملحة حول إمكانية استرداد الدولة السودانية من تحت ركام الحرب، وعبور منطقة الألم إلى الأمل.

حجم الدمار وتحديات الإعمار

خلال جولة قصيرة داخل مجلس الوزراء، والقصر الرئاسي، والبنك المركزي، وبعض الجامعات ومراكز البحوث، ومقر الوثائق القومية، والدار السودانية للكتب، وهيئة الإذاعة والتلفزيون، بدا أن كل شيء محطّم ويحتاج إلى جهد خرافي لتنبض فيه الحياة مجددًا، كما أن مخطوطات وآثارًا نادرة تعرضت للتدمير والنهب، ما يثير تساؤلات حول كيفية استعادتها، وتوفير الأموال اللازمة لإعادة الإعمار؟

ربما يصعب القفز على حقيقة أن الحرب لم تنتهِ بعد؛ فلا تزال معظم مدن إقليم دارفور وأجزاء واسعة من كردفان تحت سيطرة مليشيا الجنجويد، وتحتاج مدينة الفاشر تحديدًا، آخر قلعة صامدة في دارفور إلى عمليات إسقاط جوي على الأقل لإنقاذها من سيناريو التجويع والحصار المتعمد، ورفض حميدتي لأي هدنة إنسانية بخصوصها لإجبارها على الاستسلام بعد نفاد مخزون المواد الغذائية والطبية، وذلك بعد فشل أكثر من مائتي محاولة لاقتحامها بالقوة العسكرية.

تحولات ميدانية ونجاحات منتظرة

في شهر مايو/ أيار 2025، نشر الجيش السوداني خارطة حديثة للمساحات الجغرافية التي يسيطر عليها، وتضمنت 10 ولايات سودانية بشكل كامل، و4 ولايات انتشر فيها جزئيًا من بين 18 ولاية، بينما تسيطر مليشيا الجنجويد على 4 ولايات في دارفور وأجزاء من كردفان ومنطقة المثلث الحدودي بين السودان وليبيا ومصر.

إعلان

في ذات الوقت، نجحت أنظمة الدفاع الجديدة التي امتلكها الجيش السوداني مؤخرًا في إسقاط وكبح نيران المسيّرات التي كانت تطلقها قوات الدعم السريع على بورتسودان والخرطوم وعطبرة، واستهدفت بها محطات المياه والكهرباء.

تلك التطورات تعني أن أكثر من ثلثي مساحة السودان تقريبًا اليوم تحت سيطرة الجيش السوداني، ويمكن القول إنها أصبحت آمنة وانتعشت اقتصاديًا واجتماعيًا، وغدت جاذبة للعودة.

الشاهد على ذلك هو الأرقام الأولية التي تشير إلى عودة ما لا يقل عن مليون سوداني منذ استعادة ولايات الوسط، بما فيها العاصمة الخرطوم، بينما عاد أكثر من 200 ألف سوداني من مصر طوعًا خلال الأشهر القليلة الماضية، وآخرهم تدحرجت بهم عربات القطار السريع من محطة رمسيس إلى أسوان، وهو يحمل على متنه ألف سوداني، تم نقلهم بعد ذلك عبر الصحراء الممتدة إلى وسط السودان.

وهذا يعني بالضرورة أن السيناريو الخفي للحرب، وهو إفراغ الأرض من سكانها؛ تمهيدًا لاحتلالها، قد فشل عمليًا، ونجح الشعب بتلاحمه مع الجيش في كسر قيود النزوح الطويل واستعادة بلادهم جزئيًا على الأقل.

ماذا ستفعل حكومة الأمل؟

يضع هذا الواقع حكومة رئيس الوزراء الجديد، كامل إدريس، أمام أخطر التحديات، فاستعادة الأنشطة الحياتية والاقتصادية في هذه المرحلة، إلى جانب ردم فجوة المخاوف الأمنية، ومعالجة مخلفات الحرب، وانتشار المجموعات المسلحة داخل المدن المأهولة بالسكان، وتوفير فرص عمل كريمة، كلها مهامّ عاجلة.

الحقيقة أن آلاف السودانيين تعرضوا لعملية إفقار قاسية، وفقدوا مصادر دخلهم الأساسية، وأصبحوا بلا مأوى، وذهبت الأحلام والوظائف والمشروعات الإنتاجية الصغيرة مع الريح، فكيف يمكن تعويضهم وجبر أضرارهم، وتحقيق التوازن الاقتصادي المطلوب في ظل تدهور قيمة الجنيه السوداني؟

والأهم من ذلك أن الدولة -كما يبدو- تحاول ترميم بعض هذا الدمار، لكنها لم تتعامل بعد مع الخرطوم كقضية إستراتيجية ومعركة نوعية يتعين أن تحشد لها الأفكار والموارد.

في وقت يحاول رئيس الوزراء تلمس الطريق لاستكمال ما أسماه "حكومة الأمل"، وخلق ظروف ملائمة لمشروع الاستشفاء الشامل، لا تبدو يده طليقة.

فمن الصعب أن يفلت من توغل المكون العسكري على صلاحياته، بدليل قيام البرهان بتشكيل لجنة سيادية بقيادة الفريق إبراهيم جابر لدعم استعادة الخدمات وتهيئة البيئة المناسبة لعودة المواطنين، وهو بذلك يفرّغ فكرة الحكومة المدنية من معناها، أو على الأقل ربما ينظر إليه الخارج كعسكرة للعمل التنفيذي والحياة السياسية.

فضلًا عن فرض أسماء محددة في تلك الحكومة بموجب اتفاق سلام جوبا، وطغيان المحاصصة الجهوية والعسكرية، وذلك من شأنه تجاوز معايير الكفاءة، وصعوبة محاسبة هؤلاء الوزراء؛ لأن معادلة السلاح والقوة هي التي فرضتهم، يستدعي ذلك للمفارقة عبارة أحد الكتاب السودانيين: "بلاد كلما حاولت أن تنهض تتكئ على بندقية!".

المعضلة الاقتصادية وتدهور العملة

المعضلة الأخرى اقتصادية؛ فقد شهد الجنيه السوداني تدهورًا غير مسبوق خلال المرحلة ما بين (2019-2025)، والتي تُعد الأكثر دراماتيكية وانهيارًا، ووصل سعر الدولار خلال العام الحالي إلى نحو 3 آلاف جنيه، في تراجع كارثي يستدعي قرع جرس الإنذار، وإعلان حالة الطوارئ الاقتصادية.

إعلان

لا شك أن سعر الصرف مؤشر أساسي لحالة الاقتصاد عمومًا، ولذلك تُظهر الأرقام الأخيرة لتدهور العملة السودانية مقابل الدولار أن الجنيه فقد فعليًا معظم قوته الشرائية تقريبًا على مدار العقود الماضية، خاصة منذ 2019.

ويعكس هذا التدهور أزمات اقتصادية وسياسية عميقة ومتفاقمة، إلى جانب الحرب، وسوء الإدارة الاقتصادية والفساد، والعجز المستمر في تحقيق إيرادات كافية من الصادرات لتغطية الواردات، والاعتماد المفرط على تصدير الذهب دون تنويع الصادرات، حتى الذهب نفسه عرضة للتهريب بكميات كبيرة، وذلك بالرغم من أن إنتاج السودان من الذهب بلغ نحو 37 طنًا خلال النصف الأول من العام الجاري 2025، ولكن أثره لا يبدو جليًا في الاقتصاد الكلي، ولا حتى في قيمة الجنيه السوداني.

ويعود ذلك على الأرجح إلى كلفة مقاومة مشروع تركيع السودان، وتوفير النقد الأجنبي لتلبية احتياجات المجهود الحربي، خصوصًا أن السودان رفض الاستدانة من الخارج، وعجز بالمطلق عن استقطاب رؤوس الأموال والاستثمارات الأجنبية الكافية لإحداث نهضة تنموية.

معلوم أنه كلما تدهورت الأوضاع، زادت رغبة الأفراد والشركات في الاحتفاظ بالدولار أو الأصول الثابتة كملجأ آمن، مما يزيد الضغط على العملة الوطنية، فالعوامل الكامنة وراء هذا الانهيار متعددة ومتشابكة، وتتطلب معالجة شاملة تتجاوز السياسات النقدية وحدها.

بالمجمل، فإن تقديرات تكلفة إعادة إعمار السودان تتراوح بين 300 مليار دولار للخرطوم و700 مليار دولار لبقية الأقاليم، وتلك التقديرات بالضرورة تشمل الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية والاقتصاد نتيجة للحرب التي لا تزال تدور في غرب السودان، تحديدًا إقليم دارفور وكردفان، وهي مناطق إنتاج الصمغ العربي والثروة الحيوانية، ما يعني خروج تلك الموارد من معادلات الصادر.

المشروع الوطني الشامل

عمومًا، فإن هذه التحديات تتطلب العمل أكثر على المشروع الوطني الشامل، وإصلاح الحياة السياسية وتوحيد إرادة السودانيين على هدف مقدس، وهو استعادة وطنهم وحماية مواردهم، فالحروب وإن كانت تحدث كثيرًا ودائمًا، وأحيانًا لأسباب تبدو تافهة أو منطقية، إلا الجانب المضيء فيها أنها توقظ الأمة من سباتها العميق، وهو ما احتاج له الشعب السوداني، وكذلك النخبة السياسية والعسكرية التي استسهلت الحياة عمومًا، وانشغلت بصراعاتها وشجونها الصغرى عن الكبرى، حتى انتهى بها الحال إلى مواجهة أسوأ المخاطر الوجودية، واليوم جميعنا في طريق صعب وشائك وملغوم، فهل سوف نعبره بشجاعة، أم نعود إلى كهفنا القديم؟

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحنمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معناتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتناشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتناقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات دراسات

إقرأ أيضاً:

مصر تستهجن الدعاية المغرضة التي تستهدف تشويه دورها الداعم للقضية الفلسطينية

تستهجن جمهورية مصر العربية الدعاية المغرضة الصادرة عن بعض القوي والتنظيمات التي تستهدف تشويه الدور المصري الداعم للقضية الفلسطينية، كما تستنكر الاتهامات غير المبررة بأن مصر ساهمت، أو تساهم، في الحصار المفروض على قطاع غزة من خلال منع دخول المساعدات الإنسانية.

تشدد مصر في هذا السياق على سطحية وعدم منطقية تلك الاتهامات الواهية، والتي تتناقض في محتواها مع الموقف، بل ومع المصالح المصرية، وتتجاهل الدور الذي قامت، ومازالت تقوم به مصر منذ بدء العدوان الاسرائيلي على القطاع، سواءً فيما يتعلق بالجهود المضنية من أجل التوصل لوقف إطلاق النار، أو من خلال عمليات الإغاثة وتوفير وإدخال المساعدات الإنسانية التي قادتها مصر عبر معبر رفح، أو جهود الإعداد والترويج لخطة إعادة إعمار القطاع التي تم اعتمادها عربياً وتأييدها من عدد من الأطراف الدولية، والتي استهدفت وتركزت على إنقاذ الفلسطينيين الأبرياء في قطاع غزة، وإدخال المساعدات، وبدء مراحل التعافي المبكر وإعادة الإعمار، في إطار الموقف الثابت الهادف لتوفير إمكانيات البقاء والصمود للشعب الفلسطيني على أرضه، ومقاومة محاولات التهجير القسري والاستيلاء على الأرض وتصفية القضية الفلسطينية.

تؤكد مصر إدراكها الكامل لوقوف بعض التنظيمات والجهات الخبيثة وراء تلك الدعاية المغرضة، والتي لا تستهدف سوي إيجاد حالة من عدم الثقة بين الشعوب العربية، وتشتيت انتباه الرأي العام العربي والدولي عن الأسباب الحقيقية وراء الكارثة الإنسانية التي أصابت أكثر من ٢ مليون مواطن فلسطيني في غزة، كما تؤكد مصر على عدم اغلاق معبر رفح من الجانب المصرى قط وأن المعبر بالجانب الفلسطينى محتل من سلطة الاحتلال الاسرائيلى والتى تمنع النفاذ من خلاله.

تدعو مصر للتعامل بحذر شديد مع الأكاذيب التي يتم الترويج لها عن عمد من خلال توظيف المأساة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال لخدمة روايات خبيثة لا تعدو كونها جزءاً من الحرب النفسية التي تمارس علي الشعوب العربية لإحباطها، وإحداث حالة من الفرقة والخلاف فيما بينها، وخدمة نوايا معروفة لتصفية القضية الفلسطينية.

ستستمر مصر في جهودها لرفع المعاناة عن أهل القطاع، ووقف إطلاق النار، ونفاذ المساعدات الإنسانية، وبدء إعادة الإعمار، كما ستواصل جهودها لتوحيد الضفة الغربية وقطاع غزة وضمان تواصل الأراضي الفلسطينية، والبدء في عملية سياسية لتنفيذ حل الدولتين وإقامة دولة فلسطينية، وعاصمتها القدس الشرقية، وفقاً لقرارات الشرعية الدولية وخطوط الرابع من يونيو لعام ١٩٦٧.

طباعة شارك وزارة الخارجية والهجرة اسرائيل قطاع غزة

مقالات مشابهة

  • الرسائل الواضحة والمهمة التي بعث بها الأستاذ أحمد هارون
  • الطاقة النيابية:وزير الكهرباء فاشل وفاسد لكنه مدعوم من السوداني
  • شاهد بالفيديو.. بسبب القطوعات التي تشهدها مدينة بورتسودان.. شيبة ضرار يمنح مدير الكهرباء مهلة 12 ساعة ويهدد بإقتحام المكاتب بــ”الفرشات” و “البطاطين”
  • ماجد المهندس في أول ظهور بعد الأزمة الصحية التي تعرض لها
  • الجنيه السوداني يتراجع إلى مستوى قياسي مع ارتفاع الواردات
  • كسب ناميبيا من الجولة الأولى.. السودان يحشد لاستعادة مقعده في الاتحاد الإفريقي
  • تحليل ينتقد النهج الأمريكي تجاه الحوثيين.. يستغلون كل هدنة لإعادة التسلح والعودة لساحة المعركة أقوى (ترجمة خاصة)
  • مصر تستهجن الدعاية المغرضة التي تستهدف تشويه دورها الداعم للقضية الفلسطينية
  • فقاعات وقتيّة.. الدولار يهدأ قليلا مقابل الجنيه السوداني