الجزيرة:
2025-12-14@07:01:13 GMT

المعركة الفاصلة لاستعادة السودان

تاريخ النشر: 25th, July 2025 GMT

المعركة الفاصلة لاستعادة السودان

من نافذة الطائرة التي هبطت للمرة الأولى في مدرج مطار الخرطوم منذ بداية الحرب، بدت نظرات رئيس مجلس السيادة الانتقالي، الجنرال عبدالفتاح البرهان، حزينة ساهية وهو يتأمل معالم الدمار والخراب والبؤس التي خلفتها المعارك القتالية.

لم يكن البرهان سعيدًا، بالرغم من أن هبوطه هذا بمثابة مرحلة جديدة من الانتصارات، وانطلاق عمليات الإعمار، وانتقال مركز السلطة من ساحل البحر الأحمر إلى مقرن النيلين.

. فالمشهد العام يفرض تساؤلات ملحة حول إمكانية استرداد الدولة السودانية من تحت ركام الحرب، وعبور منطقة الألم إلى الأمل.

حجم الدمار وتحديات الإعمار

خلال جولة قصيرة داخل مجلس الوزراء، والقصر الرئاسي، والبنك المركزي، وبعض الجامعات ومراكز البحوث، ومقر الوثائق القومية، والدار السودانية للكتب، وهيئة الإذاعة والتلفزيون، بدا أن كل شيء محطّم ويحتاج إلى جهد خرافي لتنبض فيه الحياة مجددًا، كما أن مخطوطات وآثارًا نادرة تعرضت للتدمير والنهب، ما يثير تساؤلات حول كيفية استعادتها، وتوفير الأموال اللازمة لإعادة الإعمار؟

ربما يصعب القفز على حقيقة أن الحرب لم تنتهِ بعد؛ فلا تزال معظم مدن إقليم دارفور وأجزاء واسعة من كردفان تحت سيطرة مليشيا الجنجويد، وتحتاج مدينة الفاشر تحديدًا، آخر قلعة صامدة في دارفور إلى عمليات إسقاط جوي على الأقل لإنقاذها من سيناريو التجويع والحصار المتعمد، ورفض حميدتي لأي هدنة إنسانية بخصوصها لإجبارها على الاستسلام بعد نفاد مخزون المواد الغذائية والطبية، وذلك بعد فشل أكثر من مائتي محاولة لاقتحامها بالقوة العسكرية.

تحولات ميدانية ونجاحات منتظرة

في شهر مايو/ أيار 2025، نشر الجيش السوداني خارطة حديثة للمساحات الجغرافية التي يسيطر عليها، وتضمنت 10 ولايات سودانية بشكل كامل، و4 ولايات انتشر فيها جزئيًا من بين 18 ولاية، بينما تسيطر مليشيا الجنجويد على 4 ولايات في دارفور وأجزاء من كردفان ومنطقة المثلث الحدودي بين السودان وليبيا ومصر.

إعلان

في ذات الوقت، نجحت أنظمة الدفاع الجديدة التي امتلكها الجيش السوداني مؤخرًا في إسقاط وكبح نيران المسيّرات التي كانت تطلقها قوات الدعم السريع على بورتسودان والخرطوم وعطبرة، واستهدفت بها محطات المياه والكهرباء.

تلك التطورات تعني أن أكثر من ثلثي مساحة السودان تقريبًا اليوم تحت سيطرة الجيش السوداني، ويمكن القول إنها أصبحت آمنة وانتعشت اقتصاديًا واجتماعيًا، وغدت جاذبة للعودة.

الشاهد على ذلك هو الأرقام الأولية التي تشير إلى عودة ما لا يقل عن مليون سوداني منذ استعادة ولايات الوسط، بما فيها العاصمة الخرطوم، بينما عاد أكثر من 200 ألف سوداني من مصر طوعًا خلال الأشهر القليلة الماضية، وآخرهم تدحرجت بهم عربات القطار السريع من محطة رمسيس إلى أسوان، وهو يحمل على متنه ألف سوداني، تم نقلهم بعد ذلك عبر الصحراء الممتدة إلى وسط السودان.

وهذا يعني بالضرورة أن السيناريو الخفي للحرب، وهو إفراغ الأرض من سكانها؛ تمهيدًا لاحتلالها، قد فشل عمليًا، ونجح الشعب بتلاحمه مع الجيش في كسر قيود النزوح الطويل واستعادة بلادهم جزئيًا على الأقل.

ماذا ستفعل حكومة الأمل؟

يضع هذا الواقع حكومة رئيس الوزراء الجديد، كامل إدريس، أمام أخطر التحديات، فاستعادة الأنشطة الحياتية والاقتصادية في هذه المرحلة، إلى جانب ردم فجوة المخاوف الأمنية، ومعالجة مخلفات الحرب، وانتشار المجموعات المسلحة داخل المدن المأهولة بالسكان، وتوفير فرص عمل كريمة، كلها مهامّ عاجلة.

الحقيقة أن آلاف السودانيين تعرضوا لعملية إفقار قاسية، وفقدوا مصادر دخلهم الأساسية، وأصبحوا بلا مأوى، وذهبت الأحلام والوظائف والمشروعات الإنتاجية الصغيرة مع الريح، فكيف يمكن تعويضهم وجبر أضرارهم، وتحقيق التوازن الاقتصادي المطلوب في ظل تدهور قيمة الجنيه السوداني؟

والأهم من ذلك أن الدولة -كما يبدو- تحاول ترميم بعض هذا الدمار، لكنها لم تتعامل بعد مع الخرطوم كقضية إستراتيجية ومعركة نوعية يتعين أن تحشد لها الأفكار والموارد.

في وقت يحاول رئيس الوزراء تلمس الطريق لاستكمال ما أسماه "حكومة الأمل"، وخلق ظروف ملائمة لمشروع الاستشفاء الشامل، لا تبدو يده طليقة.

فمن الصعب أن يفلت من توغل المكون العسكري على صلاحياته، بدليل قيام البرهان بتشكيل لجنة سيادية بقيادة الفريق إبراهيم جابر لدعم استعادة الخدمات وتهيئة البيئة المناسبة لعودة المواطنين، وهو بذلك يفرّغ فكرة الحكومة المدنية من معناها، أو على الأقل ربما ينظر إليه الخارج كعسكرة للعمل التنفيذي والحياة السياسية.

فضلًا عن فرض أسماء محددة في تلك الحكومة بموجب اتفاق سلام جوبا، وطغيان المحاصصة الجهوية والعسكرية، وذلك من شأنه تجاوز معايير الكفاءة، وصعوبة محاسبة هؤلاء الوزراء؛ لأن معادلة السلاح والقوة هي التي فرضتهم، يستدعي ذلك للمفارقة عبارة أحد الكتاب السودانيين: "بلاد كلما حاولت أن تنهض تتكئ على بندقية!".

المعضلة الاقتصادية وتدهور العملة

المعضلة الأخرى اقتصادية؛ فقد شهد الجنيه السوداني تدهورًا غير مسبوق خلال المرحلة ما بين (2019-2025)، والتي تُعد الأكثر دراماتيكية وانهيارًا، ووصل سعر الدولار خلال العام الحالي إلى نحو 3 آلاف جنيه، في تراجع كارثي يستدعي قرع جرس الإنذار، وإعلان حالة الطوارئ الاقتصادية.

إعلان

لا شك أن سعر الصرف مؤشر أساسي لحالة الاقتصاد عمومًا، ولذلك تُظهر الأرقام الأخيرة لتدهور العملة السودانية مقابل الدولار أن الجنيه فقد فعليًا معظم قوته الشرائية تقريبًا على مدار العقود الماضية، خاصة منذ 2019.

ويعكس هذا التدهور أزمات اقتصادية وسياسية عميقة ومتفاقمة، إلى جانب الحرب، وسوء الإدارة الاقتصادية والفساد، والعجز المستمر في تحقيق إيرادات كافية من الصادرات لتغطية الواردات، والاعتماد المفرط على تصدير الذهب دون تنويع الصادرات، حتى الذهب نفسه عرضة للتهريب بكميات كبيرة، وذلك بالرغم من أن إنتاج السودان من الذهب بلغ نحو 37 طنًا خلال النصف الأول من العام الجاري 2025، ولكن أثره لا يبدو جليًا في الاقتصاد الكلي، ولا حتى في قيمة الجنيه السوداني.

ويعود ذلك على الأرجح إلى كلفة مقاومة مشروع تركيع السودان، وتوفير النقد الأجنبي لتلبية احتياجات المجهود الحربي، خصوصًا أن السودان رفض الاستدانة من الخارج، وعجز بالمطلق عن استقطاب رؤوس الأموال والاستثمارات الأجنبية الكافية لإحداث نهضة تنموية.

معلوم أنه كلما تدهورت الأوضاع، زادت رغبة الأفراد والشركات في الاحتفاظ بالدولار أو الأصول الثابتة كملجأ آمن، مما يزيد الضغط على العملة الوطنية، فالعوامل الكامنة وراء هذا الانهيار متعددة ومتشابكة، وتتطلب معالجة شاملة تتجاوز السياسات النقدية وحدها.

بالمجمل، فإن تقديرات تكلفة إعادة إعمار السودان تتراوح بين 300 مليار دولار للخرطوم و700 مليار دولار لبقية الأقاليم، وتلك التقديرات بالضرورة تشمل الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية والاقتصاد نتيجة للحرب التي لا تزال تدور في غرب السودان، تحديدًا إقليم دارفور وكردفان، وهي مناطق إنتاج الصمغ العربي والثروة الحيوانية، ما يعني خروج تلك الموارد من معادلات الصادر.

المشروع الوطني الشامل

عمومًا، فإن هذه التحديات تتطلب العمل أكثر على المشروع الوطني الشامل، وإصلاح الحياة السياسية وتوحيد إرادة السودانيين على هدف مقدس، وهو استعادة وطنهم وحماية مواردهم، فالحروب وإن كانت تحدث كثيرًا ودائمًا، وأحيانًا لأسباب تبدو تافهة أو منطقية، إلا الجانب المضيء فيها أنها توقظ الأمة من سباتها العميق، وهو ما احتاج له الشعب السوداني، وكذلك النخبة السياسية والعسكرية التي استسهلت الحياة عمومًا، وانشغلت بصراعاتها وشجونها الصغرى عن الكبرى، حتى انتهى بها الحال إلى مواجهة أسوأ المخاطر الوجودية، واليوم جميعنا في طريق صعب وشائك وملغوم، فهل سوف نعبره بشجاعة، أم نعود إلى كهفنا القديم؟

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحنمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معناتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتناشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتناقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات دراسات

إقرأ أيضاً:

«نحو رؤية شاملة لاستعادة الدولة اليمنية».. إصدار جديد للدكتور علي غانم الشيباني

صدر عن المصرية للنشر والتوزيع كتاب جديد للكاتب والمفكر السياسي والاستراتيجي الدكتور علي غانم أحمد الشيباني تحت عنوان «نحو رؤية شاملة لاستعادة الدولة اليمنية».

الكتاب يقدم رؤية فكرية شاملة لبناء الدولة اليمنية الحديثة، من خلال تحليل معمق للتحديات التي واجهتها خلال العقود الماضية، واستعراض الأسس التي تقوم عليها الدولة المدنية، إلى جانب اقتراح مسارات إصلاح واقعية تفتح الطريق أمام مرحلة أكثر استقرارا وتوازنا.

ويأتي هذا الكتاب في سياق حاجة ملحة إلى رؤى فكرية مرنة وموضوعية تساعد على فهم اللحظة الراهنة، وتقديم أفكار قادرة على تحريك النقاش العام نحو مستقبل أفضل لليمنيين.

ويستعرض الكتاب، من خلال مجموعة كبيرة من الفصول، مفهوم الدولة اليمنية الحديثة، ويركز في بدايته على توضيح أسس الدولة المدنية القادرة على خدمة المجتمع وتطوير مؤسساتها بما ينسجم مع تطلعات المواطن. 

وينتقل الكتاب بعد ذلك إلى مناقشة المركزية الإدارية، وكيفية بناء جهاز إداري فعّال يرتبط بالمواطن مباشرة، ويعمل على تحسين الخدمات العامة، ويعيد صياغة العلاقة بين الدولة والمجتمع على أساس من الثقة والمسؤولية.

وفي الجانب السياسي، يخصص الكتاب عدة فصول لإصلاح النظام السياسي، من خلال تعزيز المشاركة العامة، وفتح المجال لتجديد الحياة السياسية، وإعادة تشكيل آليات صنع القرار على أسس مؤسسية مرنة. ويقدم المؤلف قراءة هادئة لتجربة الدولة اليمنية، ويرى أن أي إصلاح سياسي حقيقي يجب أن يكون تدريجيًا، قائمًا على الحوار، ويأخذ في الاعتبار التنوع الاجتماعي والجغرافي في البلاد.

وتحظى القضايا الاقتصادية بحيز واسع داخل الكتاب، حيث يناقش المؤلف وضع الاقتصاد الوطني، وسبل تنشيطه، ووضع سياسات اقتصادية قادرة على خلق فرص عمل وتحسين مستوى المعيشة. كما يتناول فصولًا مخصصة لمحاربة الفساد، وتفعيل الحكومة الاقتصادية، وإعادة هيكلة المؤسسات المالية، بما يضمن كفاءة الإنفاق العام وشفافية إدارة الموارد. ويوضح الكتاب أن التنمية الاقتصادية تشكل أحد أهم المفاتيح لبناء دولة مستقرة، وأن نجاح أي مشروع وطني يعتمد على وجود اقتصاد قوي ومنتج.

ويمتد الكتاب إلى تناول قضايا اجتماعية وتنموية تشمل التعليم، والصحة، والتنمية المستدامة، بالإضافة إلى بناء الإنسان اليمني وتعزيز دوره كمحور أساسي لعملية الإصلاح. ويولي الكتاب اهتمامًا خاصًا بالشباب باعتبارهم طاقة المجتمع الفاعلة، ويستعرض طرق تمكينهم وإشراكهم في صناعة القرار، بما يعزز قدرتهم على المساهمة في بناء المستقبل.

كما يناقش الكتاب العدالة الانتقالية كأحد المسارات المهمة لتجاوز آثار الصراعات، وتهيئة المجتمع لمرحلة جديدة من المصالحة وبناء الثقة. ويتطرق أيضًا إلى موضوع الثقافة الوطنية، ودورها في تعزيز الهوية الجامعة، وتطوير الوعي المجتمعي، وتحفيز المشاركة العامة في عملية البناء الوطني.

ويخصص الكتاب فصولًا أخرى للعلاقات الخارجية والدبلوماسية اليمنية الجديدة، مع التركيز على كيفية استعادة اليمن لدوره الإقليمي والدولي عبر علاقات متوازنة تستند إلى المصالح الوطنية، وتدعم جهود التنمية والاستقرار. كما يتناول التحول الرقمي وأهمية البيانات والمعلومات في تطوير السياسات العامة وتحديث أنظمة الإدارة.

ويؤكد المؤلف في خاتمة الكتاب أن الهدف من هذا العمل ليس تقديم وصفات جاهزة، بل طرح رؤية يمكن البناء عليها، وتطويرها وفق متطلبات المرحلة. ويأمل أن يسهم هذا الكتاب في تحريك الحوار الوطني، وفتح آفاق جديدة أمام مشروع جامع يعيد للدولة حضورها، ويضع اليمن على طريق المستقبل الذي يتطلع إليه مواطنوها.

مقالات مشابهة

  • تصعيد ميداني في شمال كردفان وتوسع للجيش السوداني نحو الجنوب
  • معاناة بلا نهاية.. الشعب السوداني يعيش أعمق أزمة إنسانية
  • النفط يُحمى.. والشعب السوداني يترك للمجهول!
  • الجيش السوداني يُدمر ارتكازات ومعدات عسكرية للدعم السريع
  • الجيش السوداني: ماضون في مسيرة تحرير الوطن والدفاع عن سيادته
  • «المؤتمر السوداني» يحذر من انهيار كامل لمشروع الجزيرة
  • القائمة النهائية لصقور الجديان السوداني في كأس الأمم الإفريقية
  • هل قتلت قوات الدعم السريع الصحفي السوداني معمر إبراهيم؟
  • مقتل 4 جنود وإصابة آخرين جراء استهداف معسكر للجيش السوداني
  • «نحو رؤية شاملة لاستعادة الدولة اليمنية».. إصدار جديد للدكتور علي غانم الشيباني