لجريدة عمان:
2025-07-05@00:25:55 GMT

الأم البكاءة تبكيك يا زكريا

تاريخ النشر: 30th, August 2023 GMT

الأم البكاءة تبكيك يا زكريا

تستشعر بعض الأرواح الحساسة رحيلها، وكأنها تدرك أن لبوثها أصبح قريبا وعليها التحضير للمعراج نحو مستودع الأرواح، فترسل إشارات تنبئ عن موعد الغياب، لكننا نحن المشغولين بفتنة الحياة لا ننتبه إلى تلك العلامات والإشارات، فننسى أن الرحيل قريب ونتجاهل أننا نعيش حياة مؤقتة، يغادرنا الأصدقاء دون أن نتمكن من توديعهم وداعا يليق بهم، ولما نعجز عن تصديق وقائع رحيلهم نلجأ إلى الكلمات لتخفف وقع الألم.

فالكتابة هنا تعنينا ولا تعنيهم، لأنها تُمثل مقدمة لمراثينا التي لا يسعفنا الأجل لسماعها.

قد يقال إن الكتابة عن الموتى طقس عربي بامتياز إذ تكثر المراثي بعد الرحيل المفاجئ لمن حاز في القلب على مكانة ومنزلة، صديقا كان أم كاتبا جمعتهم اللحظات والكلمات والمعاني معا؛ حيث تمشي كلمات النعي في جنازة الميت وتشيعه إلى مثواه الأخير، بينما كان الأولى بنا أن نُسمع الحي تلك الكلمات ومناقبه وأهمية إنتاجه الثقافي قبل إغماضته الأخيرة، لكننا لا نفعل، وكأن الموت شرط للاعتراف بقيمة الإنسان، وأن الكتابة في هذه الحالة نعي للنعوش لا للنفوس. يرحل المبدع دون أن يحظى بالتكريم الذي يليق به، ولا حتى بالتقدير المعنوي الذي يشعره بقيمة إبداعه، حتى كلمة ترفع منسوب الشعور بالرضا في ذاته المتطلعة لرؤية قيمة إنتاجه في عيون الآخرين، وكأن الآخر مرآة التقدير التي يود الكاتب أن يرى انعكاسه فيها.

الكتابة عن الموت نعي للذات:

حين نكتب عن المغادرين لصالة الحياة إنما نكتب عن ذواتنا، فنلوّح لهم بأيدينا وكلماتنا وهم لا يلتفتون إلينا، نعم نودع الحياة من خلالهم، كأننا في صالة انتظار وموعد رحلتهم إلى العالم الآخر سبق موعد إقلاعنا. لكن لا أحد يلقي على مسامعنا النداء الأخير «تُعلن خطوط المنون عن إقلاع رحلتها المتجهة برحمة الله إلى العالم الآخر، وعلى جميع الراحلين التوجه إلى بوابة الجبانة (المقبرة) استعدادا للغياب الأبدي وشكرا لتفهمكم».

كتبت كثيرا عن أصدقاء رحلوا، والرسالة التي أكتبها سنويا إلى روح الكاتب الصديق علي حاردان (رحل يوم 24مايو2008)، هي نوع من المراثي، لأني لم أكتب عنه في حياته سوى بضعة أسطر لامني عليها لأسباب لم أتفهمها وقتها ولكن بمرور الأيام أيقنت أنه كان على صواب. كانت مرة واحدة تلك التي خالفت فيها العرف وكتبت وداعية لصديق لا يزال على قيد الحياة، عندما ألقيت كلمة عن أحمد الزبيدي (1945-2018) في ندوة أحمد الزبيدي إنسانا مبدعا، وذلك في أثناء تكريمه في النادي الثقافي من قبل مبادرة نور وبصيرة. حينها قرأت على مسامعه ما يعنيه لي أحمد الزبيدي الكاتب أولا والصديق ثانيا.

هنا أكتب عن رحيل الكاتب والشاعر والباحث الفلسطيني زكريا محمد (1950-2023) الذي غادرنا في أوائل شهر أغسطس 2023م، وزكريا محمد هو اسم أدبي لداود محمد، مثله مثل شعراء وكتّاب عرب عُرفوا واشتهروا بأسماء غير أسمائهم الشخصية، منهم الكاتب والشاعر الأردني أمجد ناصر (1955-2019) واسمه العائلي يحيى النميري، والكاتب الروائي الألماني السوري رفيق شامي (1946) المولود باسم سهيل فاضل، والمفكر اللبناني المغدور مهدي عامل (1936-1987) المولود باسم حسن عبدالله حمدان، وأيضا الشاعر السوري علي أحمد سعيد (1930) الذي اشتهر باسم أدونيس. إننا نكتشف قيمة الأسماء الأدبية بعد رحيل أصحابها، فمن يرحل هو اسم الكاتب لا إنتاجه، يغيب الشخص ويبقى النص، فالراحل هو داود محمد أما زكريا محمد فهو خالد بأشعاره وكلماته وكتبه.

اللقاء العابر:

هل يمكنك الكتابة عن شخص من أول لقاء وتعدّه صديقا، أم لا بد من شيء مشترك بينك وبين الشخص حتى تكتب عنه، ويصبح الأمر أنه ليس بالضرورة أن تلازم هذا الشخص لتكتب عنه، فالغاية ليست تناول سيرته الحياتية بقدر تتبع مشروعه الثقافي إن كان فعلا صاحب مشروع وله خط آخر في الكتابة الأدبية. وهذا ما حصل حين التقيت بالشاعر والكاتب زكريا محمد، في الدوحة أثناء مشاركتنا في مؤتمر الرحالة العرب والمسلمين في ديسمبر 2010، وكان اللقاء بتنظيم من المركز العربي للأدب الجغرافي - ارتياد الآفاق، وحين أنهيت ورقتي المعنونة بـ (ظفار في تحفة النظار) إذ قدمت قراءة في رحلة ابن بطوطة إلى ظفار وعرضت لمحة تعريفية عن الميثولوجيا في ظفار، وذكرت فيما ذكرت آلهة الجنوب ( سين، هُبل، الشرح...إلخ)، جاءني زكريا يسألني عن تلك الأسماء وذكر لي اهتمامه بالآلهة والميثولوجيا، وتحدثنا كثيرا عن الميثولوجيا والآلهة خلال فترة المؤتمر، واستمر التواصل لاحقا عبر الرسائل الإلكترونية.

حضور الموت في شعر زكريا:

من الطبيعي أن يكتب الكاتب والفنان والشاعر عن فكرة الموت بوصفه الحقيقة المقرونة بالحياة، فالكتابة عن الموت هي محاولة للتعايش مع الرحيل الأبدي، أو قل تدريب نفسي على الإذعان لحتمية الفراق. كتب زكريا عن الموت بوصفها فكرة يسهل احتمالها ولحظة يمكن استقبالها، وقد ذكرت نوال العلي في صحيفة العربي الجديد (15 سبتمبر 2014) «إن قصائد زكريا المنشورة في ديوانه «كشتبان» تستطلع الموت، وتجسّر معه وتعيش حالة فيها لحظات من الغضب وأخرى من المسالمة أو العجز وأحياناً تعرض المصادقة. لم يترك محمد وسيلة إلا وفكر في الموت من خلالها: «لكي نحتمل الموت سأجعل له ظلالاً كظل شجرة»، «تعال يا عصفور الموت، خبزتك هنا في كفي»، «حصاة الموت تحت لساني»، «الموت أمّنا البكاءة»، «الموت ذنب كبير. ذنب لا يغتفر أبداً»، أو «الموت زبالة الوعي».

وكتب الكاتب والناقد المغربي سعيد بوعيطة في مجلة أفكار الأردنية عدد (412) مقالا عن رؤية الموت ودلالاتها في ديوان «زراوند» للشاعر زكريا محمد:

« تسافر قصائد الديوان على محيط الدائرة وحوافها ثم تعود إليها من جديد، لتشكل دائرية الكون في العوالم الشعرية لديوان «زراوند» المشدودة إلى جدلية الحياة–الموت. ذلك أنّ الحديث عن الموت، في مجال الإبداع (فلسفةً وأدباً)، هو أشبه ما يكون بالحديث عن الشمس، التي أشرقت، ثم غربت، فأشرقت في مكان آخر. الموت غياب وحضور. غياب هنا، وحضور هناك. إنه بعبارة أخرى، انتقال من الألفة إلى الغرابة والاغتراب. والمرء المغترب يتجدد بانتقاله إلى مكان مألوف. لأنه في هذه الحالة يستعير ثوباً جديداً يجعله يبدو في منظر غير معهود على حد تعبير عبد الفتاح كليطيو. لهذا فإن للاغتراب علاقة وطيدة بالغياب/الموت. مثلما أن الألفة ترتبط ارتباطاً قويا بالحضور/ الحياة».

زكريا محمد وإدوارد سعيد:

اعتقلت السلطات الفلسطينية الشاعر زكريا محمد حينما شارك في مظاهرة مطالبا بمحاكمة قتلة الناشط والمعارض الفلسطيني نزار بنات. وقد ندد نشطاء كُثر في وسائل التواصل الاجتماعي باعتقال الشاعر زكريا، وممن عبّر عن ذلك الكاتب والشاعر العُماني سالم الرحبي الذي كتب «أخبار من فلسطين: سلطة أوسلو تعتقل الشاعر زكريا محمد، الحرية له» (موقع فلسطين أونلاين).

زكريا محمد مثله مثل مواطنه إدوارد سعيد (1935-2003) الذي انتقد ولام رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات بعد اتفاقية أوسلو 1993، و«انتهى المطاف بإدوارد سعيد بأن أصبح مثقف دون تفويض بتعبير الكاتب غونتر جراس، بعد القطيعة مع إدارة ياسر عرفات، الذي اتهمه سعيد بالفساد وخيانة القضية الفلسطينية، وقامت بعدها السلطة الفلسطينية بمنع تداول كتب إدوارد سعيد أو بيعها في الضفة الغربية وقطاع غزة» مثلما ذكر الكاتب الفرنسي إيف كلفارون في كتابه (إدوارد سعيد: الانتفاضة الثقافية).

زكريا محمد ومحمد الحاج سالم:

يصعب على الكاتب أن يجد خصومة بين كاتبين، تربطه بهما صداقة خاصة، فذات يوم قرأت منشورا للكاتب والباحث التونسي الدكتور محمد الحاج سالم، يتهم فيه الباحث والشاعر زكريا محمد بالانتحال بعد أن أصدر الأخير كتابا بعنوان (ديانة مكة في الجاهلية: كتاب الميسر والقداح) الصادر عام 2014 عن دار الناشر في رام الله، وكان الباحث التونسي محمد الحاج سالم قد ناقش أطروحة دكتوراه عام 2009 بعنوان (من الميسر الجاهلي إلى الزكاة الإسلامية: قراءة إناسية في نشأة الدولة الإسلامية الأولى)، وقد أنكر المرحوم زكريا محمد ذلك. ولأنني لم أطلع على كتاب ديانة مكة في الجاهلية، فلم أستطع أن أتبنى موقفا من الموضوع. مع أني كنتُ مطلعا على أطروحة الحاج سالم وأعرف انغماسه في الموضوع الذي تجاوز ما يقارب 900 صفحة. وفي جلساتنا العديدة سواء في المقاهي أو عند زيارته في بيته، أجده يحدثني عن أجزاء من الأطروحة.

إن قدسية الحياة ومتعتها ومباهجها تفرض الاعتراف بالآخر، وتقدير إنجازاته والثناء على تفرده في المجال المنتمي إليه، فلا معنى لعبارات الرثاء وفائض الأحزان على الراحلين، فقيمة أي استحقاق تكمن في الاعتراف للفرد بقيمة إبداعه، لذا نأمل أن تتغير طرق وأساليب البكاء على الموتى، وتقديم الورود له في حياته بدلا عن سكب الحبر على ذكراه.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: زکریا محمد الکتابة عن عن الموت

إقرأ أيضاً:

بالفيديو .. الكاتب حمادة فراعنة كيف قرأ المشهد في الإقليم بعد الحرب الايرانية الإسرائيلية

صراحة نيوز- في قراءة معمقة للمشهد السياسي الإقليمي بعد الحرب الإيرانية الإسرائيلية الأخيرة، استضاف برنامج *”فنجان قهوة”* الذي يقدمه الإعلامي ماجد القرعان، الكاتب والمحلل السياسي المختص بالشأن الفلسطيني والإقليمي حمادة فراعنة، الذي قدّم رؤية متزنة ومباشرة لما تشهده المنطقة من اضطرابات وصراعات، مشددًا أن “ما جرى لم يكن مجرد تبادل ضربات، بل تغيّر في قواعد الاشتباك”.

وقال فراعنة إن الحرب التي استمرت 11 يومًا بين إيران وإسرائيل حملت في طياتها رسائل متبادلة، وإن المشهد لم يشهد منتصرًا أو مهزومًا، بل حالة توازن ردع، حيث تمكنت إسرائيل من توجيه ضربات مؤلمة في غزة، ومن ثم نقلت معركتها إلى طهران، في مفاجأة إقليمية اعتبرها البعض تحوّلًا استراتيجيًا غير مسبوق.

وأضاف فراعنة أن “العدوان الإسرائيلي على غزة، الذي بدأ منذ 8 تشرين الأول وحتى 28 تشرين الأول، ركّز في بدايته على تدمير البنية التحتية للمقاومة، ثم تطور إلى احتلال أجزاء واسعة من القطاع، دون تحقيق نصر حاسم”، مشيرًا إلى أن “المستعمرة الإسرائيلية فشلت في إنهاء المقاومة، رغم تفوقها العسكري، لأنها تستهدف الأرض وليس فقط الإنسان، والمقاومة الفلسطينية لا تزال صامدة”.

وأشار إلى أن المشهد بعد 7 تشرين الأول، وما تبعه من ضربات إيرانية، أدخل إسرائيل في دائرة الشعور بالخطر، وأن ما يميز تلك الضربات الإيرانية هو اتساعها الجغرافي، مقارنة بضربة واحدة في الداخل الإسرائيلي في أكتوبر الماضي، ما جعل “الوجع الإسرائيلي” هذه المرة أكثر انتشارًا وتأثيرًا.

وحول الموقف الأميركي، قال فراعنة إن “دخول الولايات المتحدة على خط المواجهة لم يكن مفاجئًا، بل يعكس خططًا موضوعة منذ سنوات، تهدف إلى الهيمنة على المنطقة من خلال قواعد عسكرية منتشرة في عدة دول عربية”. وأكد أن “الحديث عن قرار مفاجئ بالحرب غير دقيق، فالإدارة الأميركية تملك خرائط وخطط جاهزة يتم تفعيلها حين تتطلب المصالح ذلك”.

وفيما يتعلق بالمشهد الفلسطيني الداخلي، أوضح فراعنة أن المستعمرة الإسرائيلية تعمل على إضعاف السلطة الفلسطينية ماليًا وسياسيًا، مستشهدًا بعدم قدرة السلطة على صرف رواتب الموظفين في عيد الأضحى، ضمن سياسة ممنهجة لإظهارها كسلطة عاجزة، وبالتالي تقويض شرعيتها أمام الفلسطينيين.

وختم فراعنة حديثه بالتأكيد على أن “لا أحد يستطيع الجزم بمن سينتصر، لكن المؤكد أن هناك صمودًا فلسطينيًا لافتًا يقابله ضعف إسرائيلي واضح”، مشددًا أنه يتحدث كمحلل مهني، لا كمتحيّز، رغم أن المشهد يمس القلب قبل العقل.

 

الفيديو …https://www.facebook.com/share/v/1CF5jE6NHT/?mibextid=wwXIfr

مقالات مشابهة

  • بالفيديو .. الكاتب حمادة فراعنة كيف قرأ المشهد في الإقليم بعد الحرب الايرانية الإسرائيلية
  • ياسين سعيد نعمان: الحوثي كـ "الضبع" بقوته الغاشمة التي تعكس البطش المحمول على سيقان مرتعشة
  • الرجل الذي يريد أن يصبح ملكا.. قراءة في التحولات السعودية تحت قيادة ابن سلمان
  • الرجل الذي يريد أن يصبح ملكاً.. قراءة في التحولات السعودية تحت قيادة بن سلمان
  • الموت أهون من النزوح.. استشهاد الحياة على شاطئ بحر غزة
  • الموت يُغيّب حرم السيّد محمد حسين فضل الله
  • انتداب الطب الشرعي لجثامين الأطفال الثلاثة بالمنيا
  • ٣٠/ يونيو، ليلة القبض علی جَمْرَة!!
  • مؤمن زكريا يشارك جمهوره صورا من عطلته الصيفية
  • مؤمن زكريا يشارك جمهوره صورة من عطلته الصيفية