هل نجح الباحثون الأردنيون في توثيق هوية القدس وحمايتها معرفيا؟
تاريخ النشر: 29th, July 2025 GMT
عمّان- شكلت مدينة القدس محورا مركزيا في الوجدان العربي والإسلامي، كما حظيت المدينة المقدسة بمكانة خاصة في الفكر والاهتمام الأكاديمي الأردني، لما تمثله من رمزية دينية وتاريخية وحضارية قل نظيرها، الأمر الذي دفع الباحثين في الأردن للاهتمام بصورة كبيرة بدراسة مدينة القدس عبر تأليف الكتب المتخصصة من مختلف الجوانب التاريخية، والسياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والقانونية، والثقافية، والفنية، والدينية، والأدبية، والعمرانية.
واستحوذ تاريخ مدينة القدس على اهتمام الباحثين والمؤلفين والمؤرخين والسياسيين والمثقفين والفنانين ورجال الدين منذ أقدم الأزمنة باعتبار أنَّ الصراع على المدينة قديم متجدِّد، في حين يراهن الاحتلال عبر سعيه المستمر لتغيير روح المدينة وهويتها التاريخية من خلال طمس المعالم وتبديل الحقائق وخلق واقع ثقافي وسياسي جديد يستهدف أصالتها والعبث بواقعها الديني والحضاري والتاريخي.
على مدار العقود الماضية، تجلّى الاهتمام الأكاديمي الأردني في السعي نحو توثيق مدينة القدس، ودراستها بمختلف أبعادها، وشكلت الجامعات الأردنية حاضنة لهذا الجهد العلمي، عبر ما أُنجز من رسائل ماجستير ودكتوراه، إضافة إلى مئات المؤلفات الفردية والجماعية التي حاولت تأصيل المعرفة المقدسية من زاوية علمية وطنية ملتزمة.
ورغم حالة الزخم الأكاديمي والعلمي المتعلق بمدينة القدس، فإن الإنتاج المعرفي -حسب أكاديميين أردنيين- واجه عديدا من التحديات التي هددت فاعليته واستدامته، وهي على النحو التالي:
صعوبة دخول مدينة القدس المحتلة نتيجة الإجراءات الإسرائيلية المشددة، مما يعوق إجراء الدراسات الميدانية. محدودية الوصول إلى الوثائق الأرشيفية الخاصة كالأرشيف العثماني أو سجلات الأوقاف التي تحتاج إلى تراخيص خاصة. شُح الموارد الرقمية إذ لا تزال عديد من الوثائق والمراجع المهمة غير متاحة إلكترونيا. ضعف الدعم المؤسسي وقلة تمويل الدراسات البحثية المتخصصة عن مدينة القدس. إعلانوقد صدرت عشرات الكتب عن القدس على يد باحثين وأكاديميين أردنيين، تناولت المدينة من زوايا مختلفة، من بينها:
القدس في القانون الدولي. تاريخ القدس السياسي والحضاري. القدس في الأدب العربي الحديث في فلسطين والأردن. الهوية الثقافية والمعمارية للقدس. السياسات الإسرائيلية في القدس وتهويد المدينة.وفي ظل اشتداد معركة الروايات حول مدينة القدس، يؤكد نائب رئيس رابطة الكتّاب الأردنيين، وأستاذ التاريخ والحضارة بجامعة اليرموك الدكتور رياض ياسين، أن تناول مدينة القدس أكاديميًا ليس لمجرد أنها قضية بحثية أو معرفية، بل لأنها تمثل "صراعا وجوديا وهويّاتيا يمسّ عمق الوعي العربي والإسلامي في مواجهة الأدلجة الصهيونية".
ويقول الدكتور ياسين -الذي ألّف عديدا من الكتب المتخصصة عن مدينة القدس في حديثه للجزيرة نت- إن "الموضوع ليس سهلا، فنحن العرب مسكونون بالقدس، لا على المستوى السياسي أو الجغرافي فقط، بل في عمقنا الديني والروحي والثقافي، فالقدس تختلف عن أي مدينة أخرى، لأنها محمّلة بكل هذه المعاني في وجداننا".
ويرى الدكتور ياسين الذي ألف كتاب "التكوين السياسي والتاريخي لمدينة القدس" أن معضلة الرواية العربية والإسلامية حول القدس تكمن في انتشار الرواية الإسرائيلية كـ"النار في الهشيم"، خاصة في الموسوعات الرقمية الضخمة والمواقع الغربية ذات التأثير، التي تُعرِّف القدس باعتبارها "عاصمة لإسرائيل" ضمن منظومات معرفية تستند إلى مواقف سياسية منحازة من الدول الكبرى، تعيد إنتاج السردية الإسرائيلية في الوعي العالمي.
وتابع الأكاديمي الأردني: "إذا كنت أمثّل الحق العربي والإسلامي، فأنا بالضرورة أقف على الطرف الآخر من هذه السردية، وأسعى لتثبيت الرواية الأصلية بأن هذه مدينة عربية وإسلامية في تكوينها التاريخي والثقافي والسياسي".
ويشير الدكتور ياسين إلى أن ما يجري على الأرض من محاولة محو للهوية العربية في القدس يُقابَل بصراع حقيقي ومركّب، يتداخل فيه البعد السياسي، بالمشهد الإعلامي.
عرض لدراسة صدرت عن اللجنة الملكية لشؤون #القدس الأردنية تؤكد أهمية الوثائق التاريخية في حفظ الموروث الثقافي والاجتماعي لمدينة القدس في مواجهة محاولات الاحتلال طمس الإرث الحضاري للمدينة. https://t.co/11f8KFDEZS
— الجزيرة نت | ثقافة (@AJA_culture) July 20, 2025
توثيق الروايةوتحدث الدكتور ياسين عن جهود المؤسسات الأردنية التي تسعى لتوثيق الرواية الأصلية للمدينة، وعلى رأسها اللجنة الملكية لشؤون القدس، التي تقوم برصد الصحافة والمتابعات اليومية لكل ما يجري داخل مدينة القدس، إضافة إلى الدور الفاعل لمؤسسة القدس الدولية في بيروت، التي تعمل بشكل احترافي في توثيق الروايات والملفات التي تُغفلها المؤسسات الدولية.
في هذا السياق، يلفت الدكتور ياسين إلى دراسته المنشورة في مجلة "أفكار"، التي تناول فيها الإنتاج المعرفي عن القدس في مجالات السياسة، والأدب، والتاريخ، والقانون، والتراث الثقافي، مشيرا إلى أن الكتب التي تناولت القدس كثيرة، لكنها تواجه تحديات تتعلق بالنشر والترويج والانتشار.
إعلانوبيّن الدكتور ياسين أن الصراع على القدس ليس قانونيا فقط، بل أيديولوجيا بامتياز، فالرؤية الإسرائيلية تقوم على "أسرلة" المدينة، بينما الرواية العربية تتعامل مع القدس كجزء لا يتجزأ من الهوية الحضارية الإسلامية، مؤكدا أن "الباحث العربي والمسلم مدعوّ لأن يكون حاضرا، لا فقط بموقفه، بل بأدواته المعرفية والبحثية، كي لا تنفرد الرواية الإسرائيلية بإعادة تشكيل الوعي العالمي".
من جانبه، أكد الباحث والأكاديمي الأردني الدكتور عبد الله الخباص أن الأردن يُعد من أكثر الدول العربية اهتماما بمدينة القدس على المستويين الأكاديمي والثقافي.
ويشير الدكتور الخباص -في حديثه للجزيرة نت- إلى أن الجامعات الأردنية تبدي انفتاحا وتيسيرا كبيرين في ما يتعلق ببحوث الدراسات العليا المرتبطة بالقدس، إذ يشجع أعضاءُ هيئة التدريس الطلبة في مرحلتي الماجستير والدكتوراه على تناول المواضيع التي تتعلق بتاريخ مدينة القدس وحضارتها، بالإضافة إلى حضورها في الأدب العربي الحديث، خاصة في الشعر، والقصة، والرواية، والمسرح.
ويقول الدكتور الخباص إن "الإجراءات في الأردن ميسّرة إلى حد كبير، ولم أواجه شخصيا أي صعوبات إدارية أو أكاديمية، باستثناء الوصول إلى بعض المصادر والدراسات داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة".
ويضيف مستدركا: "مع ذلك، تمكنت من الحصول على عدد من المجموعات القصصية والدواوين الشعرية عبر المراسلات، رغم أن كثيرا من المنشورات في داخل الأراضي الفلسطينية لا تزال غير متاحة بسهولة".
ويستشهد الدكتور الخباص بتجربته الشخصية، مشيرا إلى أن كتابه، الذي نُشر عام 1996، تم اعتماده ضمن "مكتبة الأسرة" التابعة لوزارة الثقافة الأردنية، في خطوة تعكس الدعم المؤسسي الرسمي لنشر الإنتاج المعرفي المتعلق بالقدس.
ويضيف أن عددا من الجامعات الأردنية بادرت إلى اعتماد "مساق القدس" ضمن برامجها التدريسية لمختلف التخصصات، كما ناقشت أقسام التاريخ في الجامعات رسائل علمية تناولت موضوعات ذات صلة بالمدينة المقدسة، منها الأوقاف الإسلامية، والفترة العثمانية، إضافة إلى التاريخ الأردني المعاصر المرتبط بالقدس.
ولفت الدكتور الخباص إلى دور ملتقى القدس الثقافي، الذي يُعد منصة فاعلة في تعزيز المعرفة بالقدس من خلال تنظيم مسابقات، ودورات تدريبية، وورش عمل، بالتعاون مع وزارة التربية والتعليم، موضحا أن الأنشطة المتنوعة المتعلقة بقضية القدس تشمل مجالات الرسم، والأدب، والشعر، والخاطرة، ويشارك فيها آلاف الطلبة من مختلف المراحل الدراسية، مما يعكس حالة الوعي المجتمعي والثقافي المستمرة تجاه المدينة المقدسة.
وكانت الحكومة الأردنية قد وقعت في نوفمبر/تشرين الثاني 2015، اتفاقية مشروع وقفية القدس للبحث العلمي وجودة التعليم بالشراكة بين الجامعة الأردنية وجامعة القدس ومؤسسة منيب رشيد المصري للتنمية.
وتهدف الوقفة إلى توفير إطار مؤسسي منظم ومستدام لتأمين مصادر مالية متنامية لدعم إعداد وتأهيل الكوادر البشرية من فنيين وعلماء وباحثين من طلبة الجامعات الأردنية والفلسطينية، وإنتاج المعرفة والابتكارات والصناعات الإبداعية المتعلقة بمدينة القدس وغيرها من الموضوعات، وتأمين التمويل المالي لدعم الطلاب المتميزين، وذلك من خلال مئات المنح الدراسية.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات دراسات الجامعات الأردنیة الدکتور یاسین بمدینة القدس مدینة القدس القدس على القدس فی خاصة فی إلى أن
إقرأ أيضاً:
ورقة تحليلية: فجوة كبيرة بين الرواية الإسرائيلية وأعداد قتلى جيش الاحتلال في غزة
غزة - صفا
كشف مركز الدراسات السياسية والتنموية يوم الاثنين، في ورقة تحليلية حديثة عن وجود فجوة خطيرة بين الرواية الرسمية الإسرائيلية وأعداد القتلى الفعليين في صفوف جيش الاحتلال خلال الحرب على قطاع غزة، والتي اندلعت في 7 أكتوبر 2023.
وبحسب الورقة التي جاءت بعنوان: "مؤشرات ارتفاع قتلى جيش الاحتلال خلال 'طوفان الأقصى': تحليل وإعادة تقييم الرواية الإسرائيلية"، فإن "إسرائيل" تعتمد على سياسة إعلامية متعمدة للتعتيم على الخسائر البشرية، عبر استخدام أساليب مثل التصنيف الغامض لحالات الوفاة، وإخفاء الهويات العسكرية، وتنظيم جنازات سرية، في محاولة لاحتواء التداعيات النفسية على الجبهة الداخلية.
واستندت الورقة إلى تقارير ميدانية وشهادات جنود وتسريبات عبرية، لتقدير عدد القتلى بين 1000 و1300 جندي، مقارنة بالرقم الرسمي الذي لا يتجاوز 900 قتيل، مشيرةً إلى مؤشرات بارزة على هذا التعتيم، أبرزها:
تزايد التصنيف تحت بند "الموت غير القتالي"، ودفن الجنود دون إعلان أو تغطية إعلامية، وتسريبات عن وجود قتلى مصنّفين كمفقودين، وتغييب متعمّد للأسماء والرتب العسكرية في الإعلام الرسمي.
وأكدت الورقة أن هذه الفجوة لا تعكس فقط خللاً في المعلومات، بل تعكس أزمة هيكلية في منظومة الحرب والإعلام الإسرائيلي، مشيرة إلى أن استمرار الحرب وتزايد أعداد القتلى يهددان بتفكيك الجبهة الداخلية وتفاقم أزمة الثقة بين الجيش والمجتمع، ما ينذر بتصاعد الاحتجاجات داخل المؤسسة العسكرية.
وقدّم المركز توصيات للاستفادة من هذه المعطيات، من بينها، ضرورة إنشاء قاعدة بيانات موثوقة لرصد قتلى الاحتلال، وتوظيف الشهادات والتسريبات في بناء رواية إعلامية فلسطينية مضادة، وإنتاج محتوى إعلامي عربي ودولي يبرز كلفة الحرب البشرية، ودعم الخطاب السياسي الفلسطيني ببيانات تُبرز فشل الاحتلال رغم الخسائر.
وحذّرت الورقة من أن الأعداد الحقيقية للقتلى تمثل "قنبلة موقوتة" قد تُفجّر المشهد السياسي والأمني داخل الكيان الإسرائيلي، في ظل الانقسام الداخلي وتآكل صورة "الجيش الذي لا يُقهر".