حين تشتعل الحروب، فإنها سرعان ما تضع بصمتها السوداء على وجه الحياة، فتقتل من تقتل، وتشرّد من تشرّد، وتخلّف الدمار، ولابدّ أن تنعكس كلّ هذه الفجائع على قصائد الشعراء، ولو قرأنا الشعر اليمني اليوم لوجدنا دخان الحرب الدائرة هناك، قد غلّف سماءه، وقصائد الشاعرة هدى أبلان خير نموذج، فحين استمعتُ إليها خلال مشاركتها العام الماضي في مهرجان (جرش) بالعاصمة الأردنية عمّان تسلّل حسّ الفجيعة إلينا، فقد كانت نصوصها تقطر ألما، وتعزّز هذا الإحساس بعد قراءتي ديوانها السادس «كي لا تتّسع ضحكة الجحيم» الذي صدر بعد 11 سنة من نشر ديوانها الخامس «اشتغالات الفائض» عام 2010م، فقد صمتت الشاعرة عن النشر طويلا، واكتفت بمراقبة فصول المأساة، وتدوّن ما رأته من أهوال، تجري في «البلاد السعيدة»، لكنّ مارد الحرف استيقظ، وحين يخرج هذا المارد من قمقمه، فلا توجد قوّة تستطيع كبح جماحه، وسرعان ما أردفته بديوانها السابع «كيّ الأوجاع الرثّة» الصادر عن «الآن ناشرون وموزعون» الأردنية، وفيه قدّمت نموذجا للخراب الذي تحدثه الحرب لتفرغ الحياة من محتواها، تقول في نصّها الطويل «أشياء تدلّ الحرب علينا»:
لسنا أكثر من موتى
ننتشر على امتداد الأمنيات
نكومها اتكاءات باذخة الثرثرة
غير قابلة للخروج من المرآة
والنص الذي تكتبه الشاعرة هدى أبلان، لا ينحاز إلى جهة معينة، ولا يدين أحدا سوى الحرب بصفتها آلة دمار، تعيث في الأرض فسادا، وخرابا، وكأنّها في ديوانها الجديد «كيّ الأوجاع الرثّة» تعيد حكاية (ننكال) التي وردت في الأسطورة السومرية، حين حملت معزفها وراحت تلقي مراثيها على مسامع خرائب (أور) بعد أن هبّت عليها العاصفة، ودمّرتها، تقول في نصها (حنجرة المعنى):
«نحن المعجونين من صلصال بائس
نقف عند رداءة العتبات.
نتلاشى حين تغنّي الطلقة بين العينين»
فطلقة القنّاص هنا، لا تصيب الجبهة، بل ترفع عقيرتها مردّدة أغنية الموت، ضمن كناية بليغة، وترسم بقلب موجوع، وروح مكلومة، لوحة قاتمة الألوان تختزل فيها الكثير مما يقال، كما نرى في مقطع من نص اختارته ليوضع على الغلاف الأخير الذي استقت منه عنوان الديوان:
«الصورة اليوم داكنة/غابت عنها الأضواء../ ظامئة لا ماء في خصلات الورد/ لا دماء في عروق الوقفة الخالدة/ ذابت كلها في ملحِ الوقت/ وتداعى البيت الذي أنجب عواء السلالم.. وغرس أنيابه في ثوب العيد/ لينهمر دم الأم التي ألبستنا/ كل هذا الحـب/ وأنستنا كيّ الأوجاعِ الرثة».
وفي دوّامة نسيانها «كيّ الأوجاع» لم تنسَ أمّها التي رحلت وكانت الشاعرة، يومها في مشاركة شعريّة أقيمت في الرباط، لتخلّف جرحا لا يندمل، وصنعاء، التي اختصرت اليمن كلّه، فهي تهدي ديوانها الذي يقع في 160 صفحة من القطع المتوسط «إلى المدينتين العربيتين العظيمتين اللتين بكيت فيهما كثيرًا؛ الرباط حين ماتت أمي.. وصنعاء حين مات وطني.. في الأولى أقمنا العزاءات وبنينا من ملامحها معمارًا في الروح وفي الثانية لا عزاء يرمّم القلب إلا السلام».. وتذيل الإهداء بأسماء أولادها «الذين لا يزالون يتحسسون طريقهم في قلب المأساة»، وجاء الغلاف عميقا وموحيا فقد استعانت الشاعرة هدى بلوحة للفنانة اليمنية د.آمنة النصيري حملت عنوان (منظر طبيعي) ولو دقّقنا بين خطوطه لرأينا جدولا من الدم يتدفّق وسط جداول تمضي ضمن خطوط موازية، بهدوء، نحو المجهول، وبدءا من العنوان، وصورة الغلاف والإهداء يتّضح الجوّ العام لقصائد الديوان المكتوبة بلغة تنضح حزنا وألما، وهذا هو الطابع المميّز لنصوص المشهد الشعري اليمني الجديد المكتوبة تحت دخان الحرب، التي أحالت «اليمن السعيد» كما يوصف قديما إلى لوحة سوريالية:
«ينتظرون الانتهاء من رشفة حليب
لا يكتظُّ به صدر الدنيا كثيرا
يخطفون علكة مخبّأة في جيب الحظّ
فيدور العالم بين أفواههم
ويعرفون أنه في «السعيدة»
حيث تنمو الفجيعة بمخالبها السوريالية»
هذه اللوحة يظهر فيها طائر جارح مغمورا بألوان الموت، وبنبرة مريرة ساخرة، تجد أن تلك اللوحة ليست سوى «بلاد ما بعد السعادة»:
كأي منقار سماوي.
يلتقط السؤال.
مغمورا بألوان الدهشة.
داخلا في اللوحة الباهتة.
تلك التي يسمونها بلادَ ما بعد السعادة
وتوجّه أصابع الاتهام للمطر لأنه صار دليلا للموت، فيحضر قاموس الحزن والحقول الدلاليّة للموت: الحزن، العطش، التوابيت، سواد، الجوع:
المطر العاصف دلّ الموت علينا
أينع في حدقات الحزن
أثمر في عطش التوابيت
عند مفترق الجوع
حيث تجد نفسها تبحث عن حبل نجاة، مستدعية حكاية الطوفان، لتعيد تشكيلها، وصياغتها بشكل يتوافق مع طوفان الموت الجديد الذي غمر ما حولها:
« له أن يحطّ على راحة الحلم
أيقظ الطوفان من سباته الأول
ومضى خلسة عند قبر نوحٍ
كي لا يتدلّى حبل النجاة مرة أخرى
أطفأ النشوة في الأخشاب
وهي تنتظر رشفتَها الموعودة»
إنّ ديوان «كيّ الأوجاع الرثّة» تجربة ناضجة ألما، وشعرا، جاءت مليئة بحسّ الفجيعة التي ألقتْ ظلالها القاتمة على أرض « البلاد السعيدة».
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
مستقبل وطن: قانون الرقم القومي للعقارات نقلة نوعية لتطوير القطاع
قال محمود تمام، أمين مساعد أمانة العمل الجماهيري المركزي بحزب مستقبل وطن، إن تصديق الرئيس على قانون الرقم القومي الموحد للعقارات يمثل خطوة بالغة الأهمية ونقلة نوعية في مسار تطوير الثروة العقارية بمصر، كما يأتي متسقًا مع توجه الدولة نحو التحول الرقمي وتعزيز التنمية المستدامة.
وأضاف تمام في تصريحاته اليوم، أن إنشاء قاعدة بيانات قومية للعقارات سيسهم في ضبط منظومة الملكية، وتقدير حجم الثروة العقارية بدقة، وحمايتها من التلاعب والغش، مما يعزز ثقة المستثمرين، لا سيما الأجانب، في السوق العقاري المصري.
وأوضح أن القانون الجديد يشجع المواطنين والمستثمرين، داخل مصر وخارجها، على اتخاذ قرارات استثمارية سريعة ومدروسة، من خلال إصدار بطاقة تعريفية مؤمّنة لكل عقار، سواء بشكل رقمي أو مادي، تتضمن الرقم القومي الموحد وبيانات تفصيلية يمكن قراءتها إلكترونيًا عبر رمز الاستجابة السريعة أو غيره من الوسائل الحديثة.
وأشار تمام إلى أن القانون سيُسهم في اعتبار العقار سلعة اقتصادية قابلة للتداول، وهو ما يعود بالنفع على المواطن والاقتصاد الوطني، كما يسهل تصدير العقار إلى الخارج، والحصول على التمويل البنكي بضمان العقار، وهو ما سينعكس إيجابيًا على حركة السوق العقاري من حيث حجم المبيعات والاستثمار.
واختتم تمام تصريحاته مؤكدًا أن مشروع القانون سيمثل أيضا خطوة جوهرية في إعادة الوجه الحضاري لمصر، والقضاء على مظاهر العشوائية في البناء والتخطيط العمراني.