عربي21:
2025-12-14@07:58:55 GMT

السلاح ليس طريق التغيير

تاريخ النشر: 15th, August 2025 GMT

استوقفتني تصريحات الدكتور محمد الصغير حول الثورة السورية وتجارب الربيع العربي، والتي رأى فيها أن الحراك المسلح كان السبيل إلى الانتصار، وأن الثورات التي بقيت سلمية قد هُزمت. ومع تقديري لشخص الدكتور الصغير وخبرته الدعوية والسياسية، أرى أن هذه القراءة تغفل عن حقائق بالغة الأهمية أثبتتها التجارب الحديثة، وتغالي في تعميم نموذج العسكرة على سياقات متباينة.



السلاح استثناء محفوف بالمخاطر

من حق الشعوب أن تدافع عن نفسها في وجه الطغيان، وقد يفرض حمل السلاح نفسه في ظروف قصوى لا تترك مجالا لأي فعل سلمي، لكن تحويله إلى قاعدة للتغيير هو وصفة محفوفة بالمخاطر.

لقد أظهرت تجارب قاسية -من الجزائر في التسعينيات إلى سوريا بعد 2011 - أن العسكرة قد تُسقط أنظمة، لكنها غالبا ما تجرّ المجتمعات إلى دوامات دموية طويلة، وتمنح الاستبداد ذريعة ذهبية لتعزيز قبضته، وتحويل الصراع من سياسي إلى أمني/ عسكري.

السلمية.. قوة استراتيجية وليست ضعفا

في مصر، كانت ثورة يناير المثال الأوضح على أن السلمية الواعية قادرة على تحريك ملايين البشر، وشلّ أعتى أجهزة القمع دون طلقة واحدة.

السلمية هنا ليست رومانسية سياسية، بل فلسفة نضال تقوم على استنزاف النظام، وتجريده من شرعيته، وتوسيع قاعدة المشاركة الشعبية، وحرمانه من خطاب "محاربة الإرهاب"، إنها أداة لإحداث تراكم في الوعي وتنظيم القوة المجتمعية على المدى الطويل، بما يضمن أن التغيير لا يطيح برأس النظام فقط، بل يهدم بنيته الاستبدادية من الجذور.

خطأ التعميم وإغفال خصوصية السياقات

ليس كل ما يُنجز في بيئة ما يمكن نسخه إلى بيئة أخرى. تختلف تركيبة المجتمعات، وبنية الدولة، وموازين القوى، وشبكات التحالفات الداخلية والخارجية، وهذه كلها عوامل تحدد جدوى أي خيار، مسلحا كان أم سلميا.

كما أن إخفاق بعض الحراكات السلمية لم يكن سببه السلمية بحد ذاتها، بل الانقسامات الداخلية، وأخطاء القيادة، والتحالفات الإقليمية المضادة، فضلا عن شراسة النظم الحاكمة.

التجربة المصرية.. السلمية كسلاح وعي

بعد 2013، أثبتت التجربة المصرية أن السلمية ليست غيابا للفعل، بل هي شكل من أشكال المقاومة الذكية، يقوم على بناء شبكات مجتمعية، وتحريك قوى المجتمع في إطار ضاغط متدرج، مع استثمار كل نافذة سياسية أو إعلامية لفضح الاستبداد، والحفاظ على تماسك النسيج الوطني، بدل تمزيقه في مواجهات مسلحة لا تخدم إلا السلطة.

مقارنات ودروس من مسارين مختلفين

1- حالات لجأت للسلاح

• الجزائر (1991 - 2000):

بعد إلغاء الانتخابات وفوز الإسلاميين، انزلقت البلاد إلى حرب أهلية أودت بحياة نحو 200 ألف إنسان، وانتهت بعودة النظام أكثر صلابة، وتراجع الحاضنة الشعبية لأي مشروع معارض.

• سوريا (بعد 2011):

بدأ الحراك سلميا واسعا، لكن العسكرة سرعان ما فتحت الباب لتدخلات إقليمية ودولية، وحولت البلاد إلى ساحة حرب معقدة، مع تدمير واسع وتشريد الملايين، وبقاء النظام في السلطة.

• تجربة أحمد الشرع (كانون الأول/ ديسمبر 2024):

الإطاحة ببشار الأسد لم تكن نتاج العمل المسلح وحده، بل ثمرة توازنات وحسابات دولية وإقليمية دقيقة: تغير مواقف قوى كبرى، وتراجع نفوذ الحلفاء التقليديين، وحالة إنهاك داخلي، وبروز شخصية أحمد الشرع كخيار وسط يحظى بقبول نسبي.

ما جرى كان مزيجا بين ضغط عسكري قائم وترتيبات سياسية قدّمت على أنها "انتقال منظم"، وهو ما يجعل التجربة حتى الآن تحت الاختبار ومحفوفة بالمخاطر، إذ يمكن أن تنقلب التحالفات أو تتجدد الصراعات إذا اختلت التوازنات.

2- حالات تمسكت بالسلمية

• الهند (غاندي):

عبر العصيان المدني والمقاومة السلمية، أجبرت بريطانيا على التفاوض ومنحت الاستقلال عام 1947، مع الحفاظ على وحدة الكتلة الوطنية.

• جنوب أفريقيا (مانديلا):

بعد عقود من الكفاح المسلح، انتقل مانديلا إلى نهج السلمية والمصالحة، ما أنهى نظام الفصل العنصري دون حرب أهلية.

• ثورة 25 يناير (مصر):

خلال 18 يوما من الانضباط السلمي، سقط رأس النظام، وانهار جدار الخوف، قبل أن تنجح الثورة المضادة في استغلال الانقسامات لإجهاض المسار.

الدروس المستفادة

1- السلاح قد يُسقط حاكما لكنه نادرا ما يبني دولة مستقرة.

2- السلمية تمنح الشرعية الشعبية والأخلاقية وتحرم الاستبداد من مبررات القمع.

3- كل سياق له خصوصيته، ولا تصلح وصفة واحدة للجميع.

4- استراتيجية النفس الطويل أكثر فاعلية من المواجهة الدموية الخاطفة.

الخلاصة

السلاح قد يفرض نفسه في لحظات استثنائية، لكنه استثناء لا ينبغي أن يتحول إلى قاعدة. الأصل -ما دام ممكنا- هو السلمية كخيار استراتيجي وأخلاقي، وتطوير أدواتها حتى تستطيع فرض إرادة الشعوب بلا عنف.

التغيير الذي يبدأ من فوهة البندقية قد يطيح برأس النظام، لكنه غالبا يترك جراحا عميقة تمنع بناء الدولة العادلة. أما التغيير الذي تصنعه إرادة الجماهير المنظمة، فيحافظ على وحدة المجتمع، ويصون الوطن من الانهيار بعد سقوط الاستبداد.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه قضايا وآراء الثورة سلمية السلاح التغيير سلاح ثورة سلمية تغيير قضايا وآراء قضايا وآراء مدونات قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة مقالات سياسة سياسة مقالات اقتصاد سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة

إقرأ أيضاً:

قراءة في كتاب «وكأنني لازلت هناك» للدكتور صبري ربيحات

صراحة نيوز- الاستاذ الدكتور فواز محمد العبد الحق الزبون _ رئيس الجامعة الهاشمية سابقاً.

يقدّم الدكتور صبري ربيحات في كتابه «وكأنني لازلت هناك» عملاً سرديًا يتجاوز حدود السيرة الذاتية إلى فضاء أرحب يدمج بين الذاكرة الفردية والتاريخ الاجتماعي. فالكتاب يشكّل شهادة حيّة على مسار إنساني حافل بالتجارب، يبدأ من الطفيلة وينفتح على فضاءات العمل الأكاديمي والإداري والثقافي والسياسي في الأردن. ومنذ الصفحات الأولى، يلمس القارئ صدق الكاتب، وحرصه على تسجيل التفاصيل بعمق إنساني يذكّر بأن السيرة ليست مجرد أحداث، بل هي رؤية إلى الحياة وإلى أثر المكان في تشكيل الإنسان.

يعود ربيحات إلى الطفيلة باعتبارها نقطة بدء تكوّنت فيها شخصيته وتبلورت قيمه الأولى. فهو ابن البيئة التي صاغت أبناءها على الصلابة والاعتداد بالنفس واحترام العمل. ولا يظهر المكان في الكتاب مجرد مساحة جغرافية، بل كذاكرة راسخة ومصدر للمعنى. إذ يُبرز المؤلف تأثير الطفولة المبكرة، والمدرسة، والعلاقات الاجتماعية، في بناء الإنسان، مستعيدًا مشاهد الحياة اليومية التي شكّلت خلفيته الثقافية والأخلاقية. ويتعامل مع تلك التفاصيل بحنان معرفي يجعل القارئ يشعر أنه أمام وثيقة صادقة تُدوّن تحولات المجتمع الأردني عبر صورة الفرد.

وإلى جانب البعد الاجتماعي، يكشف الكتاب عن مسيرة مهنية متشعبة تجمع بين الأكاديمية والعمل العام. فقد تنقّل الدكتور ربيحات بين مواقع متعددة، بدءًا من خدمته في الأمن العام، وصولًا إلى تولّيه حقائب وزارية مثل وزارة الثقافة ووزارة التنمية السياسية والشؤون البرلمانية. ويعرض هذه التجربة بروح المسؤول الذي يرى في العمل العام التزامًا تجاه المجتمع، وليس موقعًا بروتوكوليًا. ومن خلال سرد هذه المحطات، تُقدَّم للقارئ صورة لرجل يؤمن بأن خدمة الدولة مهمة تتطلب المعرفة والانتماء معًا.

ويتميّز الكتاب بلغته الرشيقة التي توازن بين بساطة التعبير وعمق الفكرة. فهو يكتب بلا مبالغة، وبلا مسافة بين الذاكرة والقارئ، مما يمنح السرد صدقه ودفئه. كما تتضح في أسلوبه خبرة الأكاديمي وقدرته على قراءة الأحداث وربطها بسياقاتها الثقافية والاجتماعية، وهو ما يضفي على السيرة قيمة معرفية مضاعفة. وفي الوقت نفسه، تحضر الإنسانية بوضوح في طريقته في استحضار العلاقات والتجارب، وفي قربه من الناس وتجاربهم اليومية.

وبالنظر إلى موضوعه وأسلوبه وأبعاده الفكرية والتربوية، يُعدّ الكتاب مادة ذات قيمة للتدريس في المدارس والجامعات، خصوصًا في مساقات التربية الوطنية، والدراسات الاجتماعية، وأدب السيرة الذاتية. فهو نموذج لكتابة تجمع بين التجربة الشخصية والتاريخ الوطني، وتساعد القارئ ،وخاصة الطالب ،على فهم كيفية تداخل السيرة الفردية مع تحولات المجتمع والدولة.

ملامح شخصية الدكتور صبري ربيحات كما تعكسها السيرة

تكشف صفحات الكتاب عن مجموعة من السمات التي تكوّن صورة واضحة لشخصية المؤلف، من أبرزها:
1. الانتماء للبيئة الأصلية
يظهر ربيحات ابنًا وفيًا للطفيلة، ممتنًا لتجربته الأولى، ومحمّلًا بقيم الجهد والنزاهة والاقتراب من الناس.
2. الصدق والشفافية
يكتب تجربته كما عاشها، دون تجميل أو مواربة، الأمر الذي يمنح السرد واقعيته ومصداقيته.
3. الرؤية الوطنية
لا ينظر إلى الأحداث من زاوية فردية فحسب، بل يربطها بالسياق الأردني العام، ويقدّم شهادة ناضجة على تاريخ اجتماعي وسياسي متحوّل.
4. العقل الأكاديمي
تظهر خبرته البحثية في قدرته على التحليل، وفي سلاسة الجمع بين التجربة الذاتية والمعطيات الموضوعية.
5. خبرة العمل العام
تمتزج في شخصيته ثقافة المثقف مع مسؤولية رجل الدولة، مما يجعل سيرته نموذجًا لفهم دور النخب في خدمة المجتمع.
6. البعد الإنساني
في كل التفاصيل، يحضر الإنسان القريب من الناس، والحريص على قراءة التجربة من منظور إنساني قبل أي شيء آخر.

خلاصة القول، يمثّل كتاب «وكأنني لازلت هناك» إضافة نوعية إلى أدب السيرة الذاتية في الأردن، لما يحمله من قيمة توثيقية وإنسانية، ولقدرته على الجمع بين سرد التجربة الفردية ورصد تحولات المجتمع. وهو عمل يستحق القراءة والتأمل، ويناسب أن يكون مرجعًا تربويًا يوظَّف في العملية التعليمية، لما يقدّمه من مضامين ثقافية ووطنية وأخلاقية راسخة. ويظلّ الكتاب شهادة صادقة لرجل حمل قيم بيئته معه أينما ذهب، وظلّ قريبًا من الناس ومن الحقيقة ومن فكرة الخدمة العامة.

 

مقالات مشابهة

  • ثورة ديسمبر: ثورة الوعي والكرامة والمواطنة المتساوية
  • «الإياتا» تدق ناقوس التغيير: ضغوط تشغيلية وتحديات بيئية تعيد تشكيل مستقبل الطيران العالمى
  • برج الجوزاء حظك اليوم السبت 13 ديسمبر 2025.. لا تعاند التغيير
  • رئيس جامعة العاصمة بحلوان يكشف حقيقة التغيير في كلياتها | خاص
  • شاومي تفتح باب التجربة المبكرة لنظاراتها الذكية.. اكتشف ما لا تعرفه
  • قراءة في كتاب «وكأنني لازلت هناك» للدكتور صبري ربيحات
  • الجامعة الأمريكية تكرم مي حجي لحصولها على دبلومة الإعلام الرقمي
  • دور الأوقاف في تمكين ريادة الأعمال
  • الجامعة الأمريكية تحتفل باختتام برنامج قيادة التغيير في المنظمات الديناميكية
  • مقارنة بالنماذج الصينية.. شات جي بي تي يفشل في بناء المواقع