الحياء.. هُوية الأمة وآخر حصونها
تاريخ النشر: 15th, August 2025 GMT
أحمد الفقيه العجيلي
في زمن تتسارع فيه التغيرات الاجتماعية، وتضطرب فيه القيم، تبقى بعض الفضائل كالأوتاد الراسخة في أرض الأخلاق، ومن أسمى هذه الفضائل: الحياء، وهو ليس مجرد خُلق عابر أو مظهر خارجي، بل قيمة أصيلة تحفظ للإنسان كرامته، وتضبط سلوكه، وتُهذّب فِكره، وتبني به مجتمعًا أكثر نقاءً وتماسكًا.
الحياء في اللغة مأخوذ من "الحَيّ"، أي الحياة، ويُقال: من استحيا فقد استحيا، أي بقيت فيه الحياة، فهو انكسار النفس عن القبيح.
أما في الشرع، فهو خلق يدفع الإنسان لترك القبيح، ويمنعه من التقصير في حق الله أو الناس.
لذلك قال رسول الله ﷺ: "الحياء لا يأتي إلا بخير"، و"الحياء شعبة من الإيمان" (متفق عليه).
وقد استمعتُ مؤخرًا إلى مقطع مؤثر لفضيلة الشيخ مسلم المسهلي يتحدث فيه عن واقع الحياء في مجتمعنا، حيث عبّر عن حزنه من تراجع هذا الخُلق، وظهور مظاهر لا تتسق مع البيئة العمانية المحافظة، خاصة في مظهر المرأة وسلوكها في الأماكن العامة.
كانت كلماته صادقة، وأثارت في نفسي دافعًا كبيرًا لكتابة هذا المقال، لعلّه يكون تذكيرًا لنا جميعًا بأن الحياء ليس قيدًا، بل نور يُهتدى به.
في عالمنا المعاصر، تداخلت القيم وتشوش كثير من المفاهيم، حتى غدا التمييز بين الفضيلة والتفلت أمرًا ليس باليسير، خاصة حين نتحدث عن خلقٍ رفيع كان زينة النفوس وعنوان المجتمعات الراقية: الحياء.
تابعت عن كثب ما يشهده مجتمعنا من مظاهر انكشاف وجرأة لم تكن مألوفة من قبل، سلوكيات كانت يومًا تُعد من المحرمات، واليوم تُعرض بلا حرج.
وكأن غيمة كثيفة حجبت شمس النقاء التي كانت تضيء علاقاتنا، فأثّرت هذه التحولات في عمق الإنسان، وزعزعت ركائز الأسرة، وتسللت آثارها إلى نسيج المجتمع كله.
وقد قال النبي ﷺ: "إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت" رواه البخاري.
وقال تعالى: {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ...} [النور: 31]
فالحياء ليس قيدًا، بل حصانة تحفظ كرامة الإنسان، وتبني مجتمعًا تسوده الطمأنينة والنقاء.
إن ظاهرة تراجع الحياء لم تنشأ فجأة، بل هي نتيجة تراكمات طويلة لعوامل متعددة.
أولها تغيّر القيم والمفاهيم، حيث تراجع الاهتمام بثوابتنا الأصيلة، وذابت ملامح الاحتشام في خضم ثقافات دخيلة لا تراعي خصوصيتنا، ولا تحترم جذور ديننا ومجتمعنا.
ثم يأتي ضعف الوازع الديني في البيوت، والانشغال المفرط بمشاغل الحياة، مما أضعف دور الأسرة في غرس قيم الحياء والانضباط الأخلاقي في نفوس الأبناء.
ولا يمكن إغفال دور وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، التي أصبحت -في كثير من الأحيان- منصات لنشر أنماط بعيدة عن هويتنا، دون رقابة أو وعي، فشجّعت على تقليد أعمى وساهمت في تطبيع التمرد على القيم، حتى ضعفت الغيرة، وخفت نور الحياء، وتراجعت مسؤولية التربية.
كنتُ أراقب بقلق تراجع مظاهر الحياء في مجتمعنا، تلك الفضيلة التي كانت يومًا تاجًا للنفس، ودرعًا يحفظ كرامة المرأة ويصونها.
في زمن مضى، كانت المرأة تخرج كما يخرج الفجر، طاهرة، محتشمة، موقّرة في أعين الناس، محفوظة الستر والعفاف، كما وصفها القرآن الكريم:
﴿فَالصّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلغَيبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ﴾ (النساء: 34).
لكن المؤسف أن هذه الصورة بدأت تتلاشى شيئًا فشيئًا، فصار بعض النساء يظهرن في الأماكن العامة والمقاهي وقد بالغن في الزينة واللباس اللافت، دون مراعاة لحدود الحياء التي رسمها الشرع، وغُيِّبت عن الأذهان آية الله: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى﴾ (الأحزاب: 33)، وحديث النبي ﷺ: «الحياء لا يأتي إلا بخير» (رواه البخاري).
في السنوات الأخيرة، تصاعدت شعارات تمكين المرأة، حتى تجاوزت أحيانًا حدود التوازن، وتحولت في بعض الخطابات إلى دعوات لكسر كل الحواجز، دون تمييز بين الحق المشروع والتجاوز المرفوض.
ونحن لا نعارض تمكين المرأة، بل نؤمن أنها ركيزة المجتمع وأساسه، والإسلام كرّمها أعظم تكريم، فقال ﷺ: "النساء شقائق الرجال".
لكن التمكين لا يعني الخروج عن الفطرة، ولا مزاحمة الرجل فيما خُلق له، ولا التخلي عن الضوابط الشرعية، كما في حديثه ﷺ: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا ومعها محرم".
إن رفع الكلفة الاجتماعية، وتبدل المفاهيم، أثّر في العلاقة بين الجنسين، فأدى إلى عزوف عن الزواج، وظهور سلوكيات دخيلة لا تناسب بيئتنا المحافظة.
والتمكين الحقيقي هو منح الحقوق بلا إفراط ولا تفريط، وتقدير دور المرأة مع صون فطرتها، بعيدًا عن التماثل المصطنع والنماذج الوافدة.
قال تعالى: "وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى"، وقال: "الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ"، فالتكامل هو السبيل، لا الصراع. وإذا خرج كل من دوره، اختل البناء واهتزت الأسرة.
إن غياب الحياء لا يُضر بالمرأة وحدها، بل يُضعف جدار القيم في المجتمع كله، ويفتح الأبواب لمظاهر لا تليق بمجتمع يريد الحفاظ على أصالته وسموّه.
تُشكّل هذه التحوّلات كغيمة سوداء تقترب من قلب مجتمعنا، تُنذر بانحسار آخر خطوط الدفاع الأخلاقي. إنها صورة صريحة لتراجع الحياء، ونتيجة حتمية لانخفاض الوعي، وغياب التربية المتوازنة التي تجمع بين الدين والأخلاق.
وقد ساهم في هذا الانحدار اتساع تأثير وسائل الإعلام ووسائل التواصل، التي تروّج لأنماط حياة دخيلة على قيمنا، في ظل تراجع الغيرة، وضعف الشعور بالمسؤولية تجاه الكرامة والعِرض.
فأين الغيرة التي كانت مضرب الأمثال؟
أين الأب الذي كان يرى في سمعة بيته وعرض بناته شرفًا لا يُقدَّر بثمن؟
أين الزوج الذي يترجم غيرته إلى التزام وانضباط، انسجامًا مع قول النبي ﷺ: «إن الله يغار، وإن المؤمن يغار، وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرّم الله عليه» (متفق عليه).
وأين الأخ الذي كان يرى في أخته امتدادًا لكرامته، فلا يرضى لها إلا الستر والصون؟
إنّ قلوب الرجال تغار على عورات نسائهم، والحياء مفتاح المجد، وأساس الكرامة.
حين تضعف الغيرة في القلوب، ينهار معها سور الحياء، فتتساقط القيم كأوراق الخريف تحت عاصفة لا ترحم، ويصبح المجتمع أرضًا خصبة للانحراف وتآكل الهوية.
إذا غامرتَ في شرفٍ مرومِ
فلا تقنعْ بما دون النجومِ
وليسَ الحياءُ بمانعٍ رزقَ امرئٍ
ولكنه يكسو وجوهَ العُفَّةِ نورا
الحياء ليس قيدًا يكبل صاحبه، بل نورٌ يضيء درب العفة والكرامة، وهو آخر حصن تتكئ عليه المجتمعات حين تهتز أركانها.
فلنعد إليه، وإلى الغيرة التي تبني ولا تهدم، وتحمي ولا تقسو، لئلا نستيقظ يومًا على مجتمع غريب عن قيمه، فاقد لبوصلته، لا يرى من ماضيه إلا ظلًّا باهتًا لا يُرشد ولا يُلهم.
ولكي ندرك عمق هذه الظاهرة، لا بد أن نُعيد الاعتبار للوعي الحقيقي، ذلك الوعي الذي لا يكتفي بالمعلومات السطحية، بل يغوص في فهم أن الحياء ليس ضعفًا، بل قوة تحفظ الكرامة، ورصيد حضاري ينبغي صونه.
إذ أن الوعي هو الأساس الذي تُبنى عليه كل فضائل الأخلاق، فإذا تراجع، تراجعت معه الحدود، واشتد الخطر بانهيار الثوابت الأخلاقية.
تأملت مليًّا في سيرة نبينا محمد ﷺ فوجدته أروع نموذج للحياء في أسمى معانيه. وصفه الصحابة بأنه كان أشد حياءً من العذراء في خدرها، رغم مكانته العظيمة وسؤدده على البشرية. كان حياؤه متجذرًا في سلوكه اليومي؛ يظهر في أدبه، واعتداله، وانتقاء كلماته، وحرصه على صون كرامة الناس، وتواضعه في المظهر بعيدًا عن التكلف أو المبالغة.
وسار الصحابة على هذا النهج؛ فكان عثمان بن عفان رضي الله عنه رمزًا للحياء، لا يرفع بصره حياءً من الملائكة، وكان عمر بن الخطاب يزن كلماته بدقة في المواقف الخاصة، وكانت فاطمة الزهراء وأسماء بنت أبي بكر مثالًا للمرأة المسلمة التي تجمع بين الحياء وقوة الشخصية، والعمل وسمو الأخلاق."
"لقد كان الحياء عندهم متجذرًا، لا يعارض القوة ولا يُناقض العلم، بل يعزّز الهيبة ويُقرن بالإيمان، وكانوا يربّون أبناءهم على أن فقدان الحياء خللٌ في النفس، لا يُبرّره تطوّر ولا يغطّيه علم.
وفي زمننا هذا، تأملت التحديات التي تواجه المرأة في مجتمعنا، فرأيت أن التوازن ضرورة لا بد منها: تمكين حقيقي يعزز دورها ويحفظ كرامتها، لا انفلات يُفقدها وقارها ولا تقييد يُصادر حقوقها.
الحياء لا يتنافى مع التقدم، بل هو ركيزة له. فبه تُصان القيم، وتُبنى المجتمعات على أسس من الاحترام والعفة والمكانة."
كل ذلك يعود بنا إلى مسؤولية مشتركة بين الجميع؛ الأسرة التي تربي الصالح، والمدرسة التي تعزز الوعي، والمؤسسات الإعلامية التي تقع على عاتقها مهمة تشكيل الوجدان والاعتقاد.
علينا جميعًا أن نحمل شعلة الحياء واليقظة، فذلك النور لا يحدّ من الحرية، بل يرفعها، ويضعنا في موقع القوة والسمو.
ومن خلال متابعة التطورات الاجتماعية، أؤمن بأن استعادة الحياء تحتاج إلى صبر وإصرار، فلا يعود الحياء إلا عندما يستقبله فكرٌ وقلبٌ وأعيانٌ واعية.
مجتمعات تعلم شبابها أن الحياء قوة وتميز، لا ضعفًا، هي التي تضع الأساس لنهوض أخلاقي متين ومستدام.
فالحياء ليس قيدًا، بل هو نور داخلي يوجه السلوك، ويجعل الحياة أجمل وأنقى، يغرس المحبة والرحمة، ويمنع القسوة والأنانية.
لقد ورثنا الحياء من ديننا وتاريخنا وثقافتنا، وحافظت عليه أجيال سبقتنا رغم قلة الإمكانات وضيق الحياة، فكيف نفرط فيه نحن في زمن الوفرة وسهولة الوصول لكل شيء؟
ربما حان الوقت أن نسأل أنفسنا: هل مظاهرنا اليوم تعبّر عن قيمنا، أم أننا بتنا نعكس صورة لا تشبهنا؟
وفي الختام، لا بد أن نؤمن بأن الحياء هو آخر حصن نملكه في عالم توشك فيه الفوضى أن تلتهم ما تبقى من قيم صلبة.
هو السلاح الذي يجعلنا نواجه تحديات الحياة بمروءة وعزة.
هل نكون نحن الجيل الذي يعيد لهذا النور مكانه؟
هل نستطيع أن نعيد للحياء دوره في حفظ النفس والآداب؟ الأمل موجود، والقرار بأيدينا.
نسأل الله أن يمنحنا القوة والثبات على القيم، وأن يجعل هذا المقال بداية لانطلاقة جديدة تنير القلوب، وتحيي روح الحياء في حياة كل فرد ومجتمع.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
الهيئة النسائية بالحديدة تدشن فعاليات وأنشطة المولد النبوي
الثورة نت /..
دشّنت الهيئة النسائية بمحافظة الحديدة اليوم، فعاليات وأنشطة إحياء ذكرى المولد النبوي الشريف ، في مربع المدينة، تحت شعار «لبيك يا رسول الله».
وفي حفل التدشين، في ساحة مدرسة عمار ألقيت كلمات نوهت إلى أن المولد النبوي يمثل محطة إيمانية متجددة لتعزيز القيم المحمدية، وترسيخ مبادئ الأخلاق والوحدة في مواجهة تحديات الأمة، مشيرة إلى أن الاحتفاء بهذه المناسبة هو إعلان تمسك اليمنيين برسول الله وآله ونهجه القويم.
وأوضحت الكلمات أن ذكرى المولد النبوي تأتي هذا العام والأمة تعيش أوضاعاً استثنائية، وفي مقدمتها مأساة غزة المستمرة، وما يتعرض له الشعب الفلسطيني من جرائم وحصار خانق، في ظل صمت مخزٍ وتخاذل من الأنظمة الرسمية في العالمين العربي والإسلامي.
وأكدت المتحدثات أن هذا الضعف والتفرق الذي أصاب الأمة لا يمكن تجاوزه إلا بالعودة الصادقة إلى كتاب الله وسنة نبيه، واستلهام معاني التضحية والجهاد من سيرته العطرة، معتبرات أن نصرة فلسطين واجب ديني وأخلاقي وإنساني.
وأشارت الكلمات إلى أن معركة الأمة اليوم مع قوى الاستكبار والعدوان ليست مجرد مواجهة عسكرية، بل هي معركة وعي وثبات على المبادئ، واستعداد للتضحية من أجل قضايا الأمة المركزية وفي مقدمتها القضية الفلسطينية.
وأكدت أن ما يجري في غزة يكشف حجم المؤامرة التي تستهدف الأمة وهويتها، وأن الاحتفال بالمولد النبوي هو في جوهره إعلان الانحياز لخط المقاومة، وتجديد العهد بالسير على نهج الرسول الأعظم في مقارعة الطغاة ونصرة المظلومين.
وأشارت إلى أن استمرار العدوان على غزة وتصعيد الاحتلال الصهيوني يستدعي مضاعفة الجهود الشعبية والرسمية لدعم صمود الفلسطينيين، وتفعيل كافة وسائل الإسناد، بما في ذلك المواقف السياسية والاقتصادية والميدانية.
ودعت حرائر الحديدة وكافة فئات المجتمع إلى التفاعل الكبير مع فعاليات وأنشطة المولد النبوي، بما يعكس الصورة المشرقة لارتباط اليمنيين برسول الله وآله، وبما يترجم مشاعر التضامن مع الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة.
وأكدت المتحدثات، أن خيار الجهاد والمقاومة هو السبيل الأنجع لمواجهة الغزاة والمحتلين، وأن الشعوب الحرة قادرة على تغيير موازين القوى متى ما تمسكت بحقها واستندت إلى عقيدتها وإرادتها.
تخللت الفعالية فقرات انشادية معبرة عن الفرحة بذكرى المولد النبوي الشريف، وسط حضور نسائي كبير من مديريات الميناء والحوك والحالي، في أجواء روحانية وإيمانية غلبت عليها مشاعر الاعتزاز والانتماء لنهج النبوة.