يقارن الصحفي الأميركي دانيل غولدن بين الهجوم الذي تعرضت له إذاعة صوت أميركا من قبل الرئيس الأميركي دونالد ترامب مؤخرا، وبين ما جرى لها منتصف خمسينيات القرن الماضي.

ففي التقرير التالي الذي نشر بمجلة جامعة كولومبيا للصحافة، يورد غولدن التفاصيل التي جرت قبل أكثر من 70 عاما، وما تركته من آثار ونتائج كارثية على كثير من الذين كانوا يعملون في إذاعة صوت أميركا آنذاك.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2القصة الكاملة عن اختفاء صحفي أميركي في سوريا منذ 13 عاما وحتى الآنlist 2 of 2نتائج مفاجئة لتصرفات روبوتات الذكاء الاصطناعي في محاكاة منصات التواصلend of list

في جلسات استماع بثت على محطات التلفزيون الأميركية، شن أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريون هجوما لاذعا على إذاعة صوت أميركا. واتهموا ذراع البث الدولي للإدارة الأميركية بإيواء المخربين، وإهدار أموال دافعي الضرائب، والتغاضي عن معاداة السامية، وتعريض الأمن للخطر بالاعتماد على عاملين أجانب، وتشويه صورة البلد الذي من المفترض أن يخدموه.

واستجوب رئيس اللجنة المديرين التنفيذيين في صوت أميركا، والمديرين المتوسطين، وحتى محرري النصوص، وركز على صلاتهم المزعومة باليسار وعلى النصوص والكلمات التي يعتبرها غير أميركية. واعلن: "نعتزم.. الكشف عن حالات التكرار والهدر وعدم الكفاءة والتخريب، وبعبارة أخرى، وضع الصورة الكاملة على الطاولة".

انتحار أحد المهندسين

تلك الجلسات التي شغلت الرأي العام في أميركا لم تكن جزءا من الحملة الأخيرة التي شنتها إدارة الرئيس دونالد ترامب ضد إذاعة صوت أميركا، فقد عقدت في عام 1953، وكان رئيس اللجنة الذي أدارها هو السيناتور جوزيف مكارثي من ولاية ويسكونسن، الذي كان آنذاك في ذروة سلطته. وعلى الرغم من أن مزاعمه كانت في الغالب غير مدعومة بأدلة، فإن الخوف من غضبه كان شديدا لدرجة أن قادة الوكالة التي تتبع لها صوت أميركا استقالوا، وطُرد العديد من الموظفين، وانتحر أحد المهندسين.

وتعد جلسات الاستماع، التي عقدها مكارثي بشأن إذاعة صوت أميركا والتي استمرت 5 أسابيع وشملت إفادات 60 شاهدا، والتي كادت أن تُنسى اليوم، فصلا مبكرا ومزعزعا في تاريخ هذه الإذاعة الذي يمتد لـ83 عاما.

إعلان

ورغم نجاح صوت أميركا، الذي يتجلى في حجم جمهورها -361 مليون شخص أسبوعيا في جميع أنحاء العالم حتى فبراير/شباط الماضي- والجهود التي بذلها خصومها السابقون والحاليون مثل الاتحاد السوفياتي والصين وإيران وكوريا الشمالية لتشويش إشارتها، فقد كانت دائما هدفا للانتقادات الداخلية التي تفضل رسالة وطنية أكثر صراحة.

فقد قام الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان بما سماه حملة تطهير استهدفت كبار مديري صوت أميركا، وحاول ترامب السيطرة على تغطيتها في ولايته الأولى قبل أن يقرر هذا العام إسكات ما سماه "صوت أميركا المتطرفة" وتخفيض عدد موظفيها بنسبة 85%.

وبحسب الصحفي غولدن، تبدو النصوص التي تزيد على 1200 صفحة من جلسات الاستماع التي أجراها ماكارثي، معاصرة بشكل لافت، وتظهر مدى ضآلة التغيير في الخطاب المحيط بصوت أميركا.

جواسيس وأكاذيب وسوء إدارة

في جلسة استماع بالكونغرس في 25 يونيو/حزيران الماضي بعنوان "جواسيس وأكاذيب وسوء إدارة"، اشتكت كاري ليك، المسؤولة في إدارة ترامب المكلفة بتفكيك صوت أميركا، من أن المحطة ابتعدت عن "أيام مجدها" خلال الحرب الباردة، قبل أن تصبح "معادية لأميركا".

كاري ليك: صوت أميركا ابتعدت عن أيام مجدها خلال الحرب الباردة، قبل أن تصبح معادية لأميركا (الفرنسية)

في الواقع، منذ عام 1947، كان أحد أعضاء الكونغرس الجمهوريين يشوه سمعة الشبكة بوصفها "صوت اليسار المتطرف "، وبالنسبة لمكارثي، كانت "صوت موسكو". إذ قال لاري تاي، كاتب سيرة ماكارثي، "كان من الواضح في عهد ماكارثي أنه كان يصفق لأي شيء معاد للشيوعية، سواء كان صحيحا أم لا. ولم يكن ما ذكر صحيحا عن واحدة من أكثر وسائل الإعلام فعالية في مكافحة الشيوعية ونقل الحقيقة، وهي صوت أميركا".

ويعتقد غولدن أن ما أزعج منتقدي صوت أميركا حقا -في ذلك الوقت والآن- هو الحياد الصحفي لوسيلة الإعلام الممولة من الحكومة، والذي يعود إلى تأسيسها في عام 1942 لمواجهة الدعاية النازية. إذ بدأ بثها الأول إلى ألمانيا بوعد: "قد تكون الأخبار جيدة لنا. قد تكون الأخبار سيئة. لكننا سنقول لكم الحقيقة". وعلى مر السنين، تعزز استقلالها بفضل جدران الحماية، فقد تعهد ميثاقها، الذي صيغ في عام 1960 وأُدرج كقانون في عام 1976، بتغطية إخبارية "دقيقة وموضوعية وشاملة"، وحماها قانون البث الدولي لعام 1994 من التدخل السياسي.

وقال دونالد ريتشي المؤرخ الفخري في مجلس الشيوخ "شعر بعض المحافظين أن صوت أميركا يجب ألا يقول أي شيء سلبي عن الولايات المتحدة. بينما رأى الطرف الآخر أنه يجب تقديم الأخبار بموضوعية.. واستمر هذا الجدل حتى يومنا هذا".

مصدر موثوق

كانت صوت أميركا أحد أوائل أهداف ماكارثي بعد فوز الجمهوريين بالسيطرة على مجلس الشيوخ في انتخابات عام 1952، مما جعله رئيسا للجنة مجلس الشيوخ المعنية بالعمليات الحكومية ولجنتها الفرعية الدائمة للتحقيقات.

وروي كوهن، كبير مستشاري اللجنة الفرعية، الذي بلغ السادسة والعشرين من عمره أثناء جلسات الاستماع، والذي أصبح بعد عقود مرشدا لمطور عقاري صاعد يدعى دونالد ترامب، اختبأ في فندق والدورف أستوريا في مانهاتن وأجرى مقابلات مع موظفين ساخطين من مكتب صوت أميركا في نيويورك، أطلقوا على أنفسهم اسم "الموالون السريون"، واتهموا زملاءهم الذين اشتبهوا في تعاطفهم مع الشيوعية.

إعلان

وتلاعب مكارثي بالجلسات، التي بدأت في منتصف فبراير/شباط 1953، لصالحه. إذ قام بفحص الشهود المحتملين في جلسات تنفيذية، واستبعد المبلغين والمعارضين الأقل إقناعا. ثم سرب أبرز ما جاء في هذه "البروفات" إلى الصحفيين الموالين له، وفقا لكتاب تاي، "الديماغوجي: حياة وظلال طويلة للسيناتور جو مكارثي". واستجوب مكارثي وكوهن الشهود حول عرائض وقعوا عليها قبل عقود، أو خلال حفلات عشاء حضروها وكان من المفترض أنها برعاية جبهات شيوعية. وشهد أحد الشهود أن أحد موظفي اللجنة سلمه مذكرة استدعاء في منتصف الليل.

وقال هوارد فاست، وهو كاتب يساري كان يحرر أخبارا لصوت أميركا قبل عقد من الزمن خلال الحرب العالمية الثانية: "كان هناك طرق على الباب ورنين بالجرس، مما أيقظ أطفالي وأرعبهم". وقد بثت محطة إن بي سي جلسات الاستماع العامة على الهواء مباشرة من الساعة الثانية بعد الظهر حتى الرابعة مساء.

لا جواسيس في صوت أميركا

ورغم كل التهديدات، لم يعثر مكارثي على أي جواسيس في صوت أميركا. ووفقا لنيكولاس كول، المؤرخ في جامعة جنوب كاليفورنيا المتخصص في دور وسائل الإعلام الجماهيرية في السياسة الخارجية الأميركية، فمع تحول البلاد لمواجهة التهديد الشيوعي بعد الحرب العالمية الثانية، كان العديد من موظفي صوت أميركا يميلون بالفعل إلى التساهل مع الاتحاد السوفياتي. ولكن بحلول عام 1953، أدت سنوات من التطهير السياسي في صوت أميركا إلى إقصاء معظم اليساريين.

الكاتب: على الرغم من كل التهديدات، لم يعثر مكارثي على أي جواسيس في صوت أميركا (الفرنسية)

وأوضح كول: "لم يكشف مكارثي عن أي شيوعي يحمل بطاقة عضوية داخل صوت أميركا، بدلا من ذلك، الأشخاص الذين كانوا يشعرون بالحرج هم مجرد أشخاص مختلفين اجتماعيا". ومن بين هؤلاء، على سبيل المثال، مدير البرامج الدينية في صوت أميركا الذي اتهمه مكارثي بأنه ملحد، واقترح أنه "قد يؤدي عمله بشكل أفضل إذا كان من رواد الكنيسة بانتظام". وقد أدلى المدير، الذي كان يحمل درجة الدكتوراه في الدين من جامعة كولومبيا، ودرس مع الطبيب النفسي كارل يونغ واللاهوتي بول تيليش، بشهادته أنه يؤمن بالله، وأنه ما كان ليقبل الوظيفة لولا ذلك.

ولقد فحص مكارثي نصوص صوت أميركا وطريقة اختيار الكلمات بدقة شديدة مثل أي مصحح لغوي. فعلى سبيل المثال، أراد أن يعرف ما إذا كان أحد المحررين في مكتب أخبار صوت أميركا، الذي استبدل كلمة "ديمقراطي" بكلمة "مناهض للشيوعية" لوصف الحشود في غواتيمالا التي كانت تهتف لتنصيب الرئيس أيزنهاور، كان "يخفف" من حدة الخبر لأنه متعاطف مع الشيوعية. ونفى المحرر هذه المزاعم، قائلا إنه يستخدم كلمة "مناهض للشيوعية" كثيرا، لكنه غيرها في هذه الحالة ليعبر عن "رد الفعل العفوي للشعب الغواتيمالي".

إهدار ملايين الدولارات 

كانت العديد من الشكاوى حول صوت أميركا عادية وتقنية، لكن مكارثي عززها بغموض شرير. وخصص جزءا كبيرا من الجلسات الافتتاحية لجلسات الاستماع، في فبراير/شباط 1953، لادعاءات مهندس سابق في صوت أميركا، لويس ج. ماكيسون، بأن الشبكة تهدر ملايين الدولارات من خلال وضع محطة إرسال في منطقة سياتل، حيث الظروف الجوية تعطل موجات الراديو، بدلا من وضعها في شمال كاليفورنيا ( ). وبعد أيام، أوقفت الحكومة المشروع، مما يؤكد نفوذ مكارثي.

وفي عام 2003، بعد نصف قرن من جلسات الاستماع التي عقدها مكارثي، نشرت اللجنة الفرعية التي كان يرأسها محاضر جلسات الاستماع المغلقة. وكتب السيناتوران كارل ليفين وسوزان كولينز، في ما بدا في ذلك الوقت أنه الحساب النهائي لتلك اللحظة التاريخية: "أدى حماس السيناتور مكارثي لكشف التخريب والتجسس إلى تجاوزات مقلقة". "تكتيكاته التخويفية دمرت حياة أشخاص لم يكونوا متورطين في التسلل إلى حكومتنا.. هذه الجلسات جزء من ماضينا الوطني لا يمكننا أن ننساه ولا أن نسمح بتكراره".

إعلان

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات دراسات إذاعة صوت أمیرکا جلسات الاستماع فی صوت أمیرکا مجلس الشیوخ فی عام

إقرأ أيضاً:

انطلاق قمة ترامب وبوتين بشأن الحرب

انطلاق قمة ترامب وبوتين بشأن الحرب

مقالات مشابهة

  • ماريا إيونوفا: أوكرانيا لم تبدأ الحرب وروسيا تتحمل المسؤولية
  • انطلاق قمة ترامب وبوتين بشأن الحرب
  • عاجل. ترامب يتوجّه إلى ألاسكا للقاء بوتين وزيلينسكي يقول إن أوكرانيا تعتمد على أميركا
  • ماذا نعرف عن القاعدة العسكرية التي تستضيف ترامب وبوتين؟
  • الشيخ : الحرب الاقتصادية التي يشنها الاحتلال لا تقل خطوة عن العسكرية
  • قمة ألاسكا.. ما المساحة التي تسيطر عليها روسيا في أوكرانيا ؟
  • أميركا تعلن عن تمويل قطاعي المعادن والمواد الخام
  • تمبكتو تبدأ استعادة آلاف المخطوطات نقلت إلى باماكو بسبب الحرب
  • كاتب روسي: ازدواجية معايير ترامب بالتعامل مع الدكتاتوريين تهدد مصالح أميركا