لوحة رامبرانت الشهيرة.. حين باتت دورية الليل ليلة في العراء
تاريخ النشر: 5th, September 2025 GMT
في ليلة باردة من ليالي مارس/آذار 1942، شقّت شاحنة عادية طريقها إلى مرآب هادئ تابع لشركة حافلات في ضاحية هيمسكيرك الهولندية، وكان على متنها حمولة غير عادية هاربة من جحيم الحرب؛ لوحة "دورية الليل" الأيقونية للرسام رامبرانت، ملفوفة بعناية في جوفها.
كانت تلك الليلة مجرد محطة واحدة في رحلة ملحمية ومحفوفة بالمخاطر، وهي قصة ظلّت طي الكتمان عقودا قبل أن تكشف فصولها باولا بينتخس، ابنة أحد الرجال الذين آووا اللوحة في تلك الليلة التاريخية، لتروي كيف تحولت رائعة العصر الذهبي الهولندي إلى لاجئ متنقل في سباق محموم لإنقاذها من الدمار.
تروي بينتخس، الباحثة الهولندية في تاريخ الفن، قصة بدأت فصولها عام 1939، فتقول إن تمدد النازية عبر أوروبا "صاحبه ازدياد خطر الحرب مع جيراننا الشرقيين"، فقررت منظمات مختلفة حينئذ تأمين الأعمال الفنية المهمة في المتاحف الهولندية، ومن بينها لوحة "دورية الليل" الشهيرة التي نقلت من موقعها الأصلي لإنقاذها من تهديدات الحرب.
وتضيف بينتخس أن والدها، زوارته ياب بينتخس، وابن عمه روي شاركا في تلك الرحلة المثيرة للوحة عبر البلاد، وهي القصة التي كرست جهدها لتوثيقها منذ عام 2017. فإلى جانب عملها البحثي، تقدم محاضرات وعروضا تفاعلية مدعومة بالصور والوثائق التاريخية عن رحلة اللوحة، كما تطور برامج تعليمية للمدارس بهدف ربط الأجيال الجديدة بتاريخ بلادهم الفني.
ومع كل غارة قصف أحرقت مدنا ومسحت معالمها، كان السؤال يتردد في هولندا: كيف نحمي كنوزنا الفنية من جحيم الحرب؟ فبعد قصف عام 1940، تحولت مدينة روتردام إلى ركام، وكانت أمستردام الهدف التالي في أي لحظة. وهنا، برز السؤال مرة أخرى: أين ستختبئ لوحة رامبرانت الخالدة "دورية الليل"، أيقونة الهوية الهولندية وفخر متحف "الرايكس"؟ استجابة لذلك، أنشأت الحكومة الهولندية وكالة خاصة لحماية التراث، وقررت بناء 3 مخابئ حصينة تحت الكثبان الرملية، حيث لا تصل القذائف ولا تشتعل النيران.
كسر لتقاليد البورتريهفي عام 1642 أنهى الرسام الهولندي رامبرانت فان راين واحدة من أعظم لوحاته وأكثرها إثارة للجدل، وهي العمل الذي جسد ذروة العصر الذهبي الهولندي، وغير مفهوم اللوحة الجماعية إلى الأبد. فاللوحة لا تصور مجرد صف من الجنود كما جرت العادة آنذاك، بل فرقة حرس مدني في أمستردام تتحرك في مشهد حيوي وديناميكي، بقيادة النقيب فرانس بانينك كوك بملابسه السوداء ووشاحه الأحمر، ومساعده الملازم فيليم فان رويتنبورغ بثيابه الصفراء ووشاحه الأبيض.
ببراعة لافتة، استثمر رامبرانت تقنية الضوء والظل (الكياروسكورو) ليقود عين المشاهد نحو الشخصيات الأكثر أهمية: القائدان في المنتصف، وامرأة غامضة في الخلف تحمل دجاجة، في إشارة رمزية إلى شعار الفرقة. أما بقية الألوان فقد انسجمت مع راية الجندي جان فيشر كورنيلسن، لتضفي وحدة بصرية على المشهد.
إعلانأثار العمل الضخم، الذي يبلغ حجمه نحو 3.6 × 4.3 أمتار، إعجاب معاصريه لجرأته، إذ قدم الجنود بالحجم الطبيعي كأنهم يخطون خارج الإطار نحو الحياة الواقعية. لم يكن اسمها الأصلي "دورية الليل"، بل "المسيرة للخروج من قاعة الحرس"، لكن طبقات الغبار والورنيش التي تراكمت عليها لاحقا جعلت المشهد يبدو ليليا، ومن هنا جاء الاسم الذي اشتهرت به.
ورغم أن قيمتها الفنية والتاريخية تجعلها إرثا لا يقدر بثمن، فإن الخبراء يقدرون قيمتها المادية بأكثر من 500 مليون دولار. تعود ملكية اللوحة لمدينة أمستردام، وتعد اليوم أيقونة للفن الأوروبي ورمزا لابتكار رامبرانت الذي حول البورتريه الجماعي من لوحة جامدة إلى مشهد نابض بالحركة والدراما.
حين سبقت الحرب بناء المخابئلكن الحرب سبقت بناء المخابئ؛ ففي مايو/أيار 1940 اجتاحت القوات الألمانية البلاد بينما لم تكن المخابئ قد اكتملت بعد. سرعان ما نقلت "دورية الليل" إلى قاعة الفرسان في قلعة "رادبود" بميديمبليك، بعيدا عن أمستردام التي كان يخشى أن تتحول إلى ساحة حرب. وهناك، في صمت القلعة الحجري، نامت اللوحة العملاقة تحت أنفاس التاريخ.
لاحقا، ومع اكتمال مخبأ أمستردام في كاستريكوم، نقلت اللوحة مرة أخرى ودفنت تحت الرمال إلى جانب أعمال فان غوخ وموندريان وبريتنر. ثم مع استكمال المخابئ الوطنية في هيمسكيرك، وضعت "دورية الليل" هناك تحت حراسة دقيقة سمح بها حتى المحتل الألماني، لإدراكه قيمة هذه الكنوز.
وفي ليلة 23 مارس/آذار 1942، شهد مرآب شركة الحافلات "بينتخس ودي بروين" في ضاحية هيمسكيرك حدثا تاريخيا. تروي باولا أن موظفي متحف "الرايكس" كانوا بحاجة إلى أماكن آمنة ومؤقتة لإيواء 3 شاحنات محملة بالأعمال الفنية، من بينها مرآب والدها الذي كان شبه فارغ بعد أن استولى الألمان على حافلات الشركة.
في تلك الليلة، دخلت الشاحنة التي تحمل أشهر لوحة هولندية إلى المرآب، ليخاطب آرثر فان شيندل (الذي أصبح لاحقا مدير متحف الرايكس) والدها وابن عمه بالقول: "أيها السادة، أنتم الليلة تؤوون حراس الليل".
بقيت اللوحة الثمينة تلك الليلة داخل الشاحنة، محاطة بفراغ المرآب. ورغم أنها كانت ليلة واحدة، فقد دوّن المرآب اسمه في سجل حكاية اللوحة الخالدة.
تفوق رحلة التخفي التي مرت بها لوحة رامبرانت ما حدث لمعظم الكنوز الفنية في العالم. بدأت رحلتها في سبتمبر/أيلول 1939، وانتقلت بين مواقع عدة لحمايتها من الدمار:
سبتمبر/أيلول 1939: نقلت من متحف الرايكس إلى قلعة "رادبود" في مدينة ميدمبليك، وخزّنت في قاعة الفرسان. يناير/كانون الثاني 1940: مع تزايد التهديدات، نقلت إلى مخبأ فني خاص بني بالقرب من كاستريكوم. عام 1941: نقلت إلى مخبأ آخر أكثر أمنا في هيمسكيرك. مارس/آذار 1942: نقلت إلى كهوف سانت بيترسبرغ بالقرب من ماستريخت في جنوب هولندا، حيث ساعدت البيئة الجافة والباردة على الحفاظ على حالتها. يونيو/حزيران 1945: بعد نهاية الحرب، أعيدت اللوحة إلى أمستردام عبر بلجيكا، وخضعت لعملية ترميم قبل عرضها للجمهور مجددا. إعلانتقول باولا: "كنت أعرف من الحكايات العائلية أن شيئا مميزا حدث في المرآب خلال الحرب، لكن العثور على الوثيقة الرسمية منحني الدليل القاطع". وعندما سئلت كيف عرف والدها ماهية الحمولة، أجابت نقلا عنه: "قالوا له: مرحبا أيها السادة، أنتم تؤوون قافلة الليل هذه الليلة… لم يكن والدي ثرثارا، بل على العكس. غادرت القافلة في اليوم التالي ولم يسمح له بالتحدث عن الأمر مع أي شخص".
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات دراسات تلک اللیلة
إقرأ أيضاً:
تكرار "اختفاء الآثار".. توجيه عاجل من السيسي وتحرك برلماني
تكررت مؤخرا في مصر وقائع سرقة واختفاء قطع أثرية نادرة، وهو ما استدعى تحرك المؤسسات المعنية وعلى رأسها مؤسسة الرئاسة، حيث وجه الرئيس عبد الفتاح السيسي وزارة السياحة والآثار بإنشاء مخزن آثار ضخم وجديد، مع تأمينه على أعلى مستوى.
وجاء التوجيه الرئاسي خلال لقاء جمع السيسي ووزير الآثار شريف فتحي، حيث تم تكليف الأخير بإنشاء هذا المخزن وتجهيزه بأحدث التكنولوجيا لمنع تكرار وقائع سرقة القطع الأثرية.
والأحد أعلنت وزارة السياحة والآثار المصرية، في بيان رسمي، اختفاء لوحة أثرية من الحجر الجيري من مقبرة "خنتي كا" بمنطقة سقارة.
وأكد الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار محمد إسماعيل، أنه تم اتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة وإحالة الواقعة إلى النيابة العامة للتحقيق، وتشكيل لجنة أثرية لجرد محتويات المقبرة والتحقق من القطع الموجودة بها.
وجاءت الواقعة بعد أيام من اكتشاف سرقة سوار ذهبي أثري، من المتحف المصري وسط القاهرة.
مؤشر خطير
واعتبر البرلمان المصري أن تكرار وقائع سرقة واختفاء القطع الأثرية مؤشر خطير على قصور مؤسسي، يتطلب إعادة النظر في البنية الإدارية والأمنية للمنظومة الأثرية برمتها.
وقالت عضو البرلمان مها عبد الناصر لموقع "سكاي نيوز عربية"، إن وقوع مثل هذه الحوادث داخل مواقع أثرية مغلقة وتحت إشراف مباشر من المجلس الأعلى للآثار "يشير إلى خلل مؤسسي في الرقابة والتأمين، ويستدعي وقفة حازمة لإعادة تقييم الإجراءات الداخلية والإدارية داخل الوزارة والمجلس الأعلى للآثار".
وأكدت أن خطورة الأمر تتضاعف بالنظر إلى أن "واقعة اختفاء اللوحة الأثرية ليست الأولى من نوعها خلال فترة قصيرة، إذ سبقها منذ أيام حادثة سرقة سوار أثري من داخل معمل ترميم المتحف المصري وسط القاهرة، وهو المكان الذي يفترض أنه الأعلى تأمينا والأكثر خضوعا للمراقبة المستمرة.
وأشارت إلى أن تكرار هذه الحوادث في فترات متقاربة يعكس وجود ثغرات هيكلية في منظومة الحماية والإشراف، ويدعو إلى التساؤل حول مدى فاعلية أنظمة المتابعة الداخلية ومدى التزامها بالمعايير الأمنية والإدارية المتعارف عليها في المؤسسات المتحفية العالمية.
وأضافت النائبة أن غياب قاعدة بيانات رقمية موحدة تضم جميع القطع الأثرية وتتابع حركتها منذ اكتشافها وحتى عرضها أو تخزينها، يجعل الحديث عن الرقمنة مجرد شعارات لا تعكس الواقع، موضحة أن "الرقمنة ليست رفاهية إدارية بل أداة أساسية للرقابة والشفافية، وأي تأخير في تطبيقها يفتح الباب أمام الفقد والعبث والسرقة دون إمكانية التتبع أو المساءلة".
وبحسب البرلمانية المصرية، فإن "المطلوب ليس تحقيقا في واقعة بعينها فقط، وإنما إصلاح جذري يبدأ من إعادة هيكلة منظومة التأمين والحصر الرقمي، وتدريب الكوادر البشرية، ووضع آليات رقابة فاعلة على مدار الساعة، بحيث ترصد أي حركة غير مأذون بها لأي قطعة أثرية فورا، وتوثق جميع البيانات إلكترونيا بشكل لا يقبل التلاعب أو التراخي".
بدائية طرق تأمين الآثار
وفي السياق ذاته، انتقد عالم الآثار المصري زاهي حواس طرق تأمين الآثار في البلاد، مؤكدا أن الجهات المعنية ما زالت تعتمد طرقا بدائية، مطالبا بتدريب العاملين في هذا المجال على تسجيل القطع الأثرية عبر الأجهزة الرقمية للحفاظ عليها وتأمينها.
وطالب حواس الجهات المسؤولة في الدولة باتخاذ خطوات فورية دولية، ومخاطبة الشرطة الدولية (إنتربول) بمواصفات اللوحة لملاحقتها، موضحا أن "اللوحة مرقمة، أي أن هناك صعوبة في بيعها لأي متحف، وهو ما يجعل احتمالات استردادها كبيرة".
ويقدر طول اللوحة المختفية من مقبرة "خانتي كا" بمنطقة سقارة 60 سنتيمتر وعرضها 40 سنتيمتر، وتعود إلى عصر الدولة القديمة، وهي من القطع النادرة التي توثق مشاهد من الحياة اليومية في مصر القديمة.
وذكرت مصادر حكومية أن مقبرة "خانتي كا" كانت مغلقة تماما وتستخدم كمخزن للآثار منذ اكتشافها في خمسينيات القرن الماضي، ولم تفتح منذ عام 2019.