اللامبالون في صالة بيتي.. لا مبالون في كل مكان
تاريخ النشر: 14th, October 2025 GMT
جلسنا في صالة البيت عندما قالت لي صديقة جزائرية فرنسية: إن تصوري عن العالم مثالي يوتيوبي وألحقتها برومانسي. بينما قال أصدقاء آخرون: إن تصوري عن العالم ناتج عن قراءتي للأدب وشاعريتي المفرطة. أكاد لا أصدق أن الناس حتى اليوم تستطيع ادعاء الموضوعية أو ما يُطلقون عليه «المنطقي»، وكان لديّ سؤال طرحته بصوت خفيض، هل تخيل الإنسان يومًا أنه سيطير ويصل إلى قارة أخرى في بضع ساعات؟ هل تخيل الإنسان الإنترنت وهو بالمناسبة اختراع جديد، لا أعرف كيف ننسى ذلك؟ وأسأل ذلك قادمة من منطقهم، مما هو محسوس لا حسي.
يفزعني أن هذه الأفكار هي استطراد للحديث عن الحرب، وانعدام العدالة الاجتماعية، فبينما يحاول الباحثون تأكيد أن الإنسان أقل عنفًا عما كان عليه في عصور سابقة كما في كتاب قرناء الخير لستيفن بنكر، أو النظر لأسطول الحرية الأسبوع الماضي فقط، ليتأكد أن الإنسان وطبيعته «المدعاة» خير ونبيلة.
يبدأ الاختلاف حول هذه المسألة منذ بداية الفلسفة، التي سألت سؤالًا مبدئيًّا قبل أن تقرر ما هو العقد الاجتماعي الذي يصلح للمجتمع الإنساني: ما هي طبيعة الإنسان؟ أو ما طبيعة إنسان الغابة، أي إنسان ما قبل المجتمع رأى جان جاك روسو أن الإنسان متعاون يتمتع بالإيثار ويحب الخير، أما توماس هوبز فرأى أن الإنسان أناني بطبيعته ومتوحش ويريد الاستحواذ على الآخرين وممتلكاتهم. كان آدم سميث مؤسس الليبرالية الكلاسيكية قد طوَّر نظرية سياسية تعتمد على السوق المفتوح والمنافسة والبقاء للأقوى، والتراتبية الاجتماعية، انطلاقًا مما سُمّي آنذاك «الداروينية الاجتماعية»، فالناس غير متساوين في فرصهم لتلقي المنح وينبغي أن يتنافسوا فحسب. أعرف بأنني أقدم تبسيطًا لأفكار أكثر تعقيدًا ثم أنني أتجاهل السياقات التي خرجت بها هذه الأفكار فحتى تلك التي تنظر للإنسان ككائن اجتماعي نبيل محب للخير، كثيرًا ما كانت عند فلاسفة التنوير تعني: الإنسان الأوروبي. الإنسان الأبيض فحسب، لكنني لا أرمي بهذه الأمثلة، إلا الإشارة لسؤال واحد ما زال ملحًّا: ما هي طبيعة الإنسان؟ ولماذا وكيف بات حتميًّا أن يكون الجواب محسومًا لصالح الشر والعنف؟
كتبتُ كثيرًا في هذا العمود الأسبوعي ومنذ سنوات عما كرسته الرأسمالية من ثم النيوليبرالية من حتمية واقعية، لا تتصوّر نظامًا آخر. عندما نُظر لهذا النظام بوصفه تمثيلًا لنهاية التاريخ. قدمتُ مراجعة لكتاب مهم «رغبة ما بعد الرأسمالية» لمارك فيشر الذي يرى أننا ممتثلون لحدود الواقعية الرأسمالية وسترة الأيديولوجيا المقيِدة لأننا عديمو الخيال، نجح هذا الغزو في تقييد عقولنا وأجسادنا وإدراكنا لذواتنا اليوم. دعا فيشر كثيرًا للتفكير في فشل الخيال الذي يعاني منه الجميع حتى اليساريون، قائلًا: إن التخيل يعبّر بصورة أفضل من التنظير عن طريقة للخروج من الرأسمالية. لا شك بأنني سأعود لقراءة هذا الكتاب الذي يقدم المحاضرات الأخيرة لهذا المنظر السياسي الأمريكي والفنان أيضًا.
لم تكن تلك المحادثة مع الأصدقاء جديدة عليّ، لقد رأيتُ أناسًا قلتُ مرارًا إنهم أكثر استفزازًا بالنسبة لي ممن يؤيدون كيان الاحتلال الإسرائيلي مثلًا أو أمريكا ووكلاءها، أولئك الذين يقولون إن طبيعة التاريخ تعني الحرب والقتل، هذا شيء لا يمكن تغييره، تخيّلوا الجرأة التي يمتلكها هؤلاء للتصريح بهذا بينما تبيدنا إسرائيل على الهواء مباشرة. لذلك صمّمتُ في ذكرى السابع من أكتوبر على قراءة كتاب «أكره اللامبالين» لأنطونير غرامشي الذي صدرت ترجمته حديثًا عن دار تكوين الكويتية بترجمة مينا شحاتة، يقدم الكتاب مقالات غرامشي في بداياته قبل كتابته ما اعتبره كثيرون أطروحته الأهم في «دفاتر السجن» وأحب أن أُسمّي هذه المقالات بالمانفيستو (البيان)، فإن كانت لا تقدم أفكارًا جديدة إلا أن لغتها وجذريتها مهمة في هذه اللحظة التاريخية.
قدّم الكاتب المغربي محمد آيت ترجمة الكتاب الذي حررها، وكتب عن الكتاب مقدمة رائعة، يشرح فيها أن كراهية غرامشي للامبالاة «ليست نفسًا أخلاقيًّا موتورًا فحسب بل هو الشرط الضروري لقيام أي سياسة جدية؟» مشيرًا لدعوة غرامشي لفهم الكيفية التي صُنع فيها هذا الواقع الذي نعيشه اليوم والذي يُعاد إنتاجه، لكن الأهم في هذه أطروحاته سؤال عن سر رضانا بهذا الواقع؟ مَن الذي حدّده، مَن الذي اختار القاموس والأدوار فيه؟ وكيف جُهزت الذهنية التي لا تصنع الحرب فحسب بل تلك التي جُهزت لتبريرها؟ يحلل غرامشي القبول الشعبي بالحرب، المتواطئ وغير المفكر فيه والذي هو بتعبير آيت حنا عن غرامشي «فشل في التربية السياسية!».
يقدم غرامشي اللامبالاة بوصفها بنية اجتماعية، وأن الحتمية التي تهيمن على التاريخ اليوم ما هي إلا مظهر لها، مشيرا لما يقاومها، وهو الخيال. إذ يعتبر غرامشي أن النشاط السياسي يعتمد في جزء منه على الخيال، بينما يطغى على حياتنا العامة انعدام الخيال الدرامي، وهذا ليس ضربًا أدبيًّا أو رومانسيًّا إذ إن «كل تدبير هو توقع للواقع» أليس كذلك؟ ويكتب في مقال آخر أن علينا أن لا نكف عن ترديد هذه الحقيقة، إذ يفضل بدوره تكرار حقيقة معروفة عن العالم الذي نعيش فيه والذي يحكمه إقطاعيون سياسيون واقتصاديون ودينيون، تكرار الحقيقة بدلًا من بهلوانيات لفظية لا تعدم التفكير فحسب، بل تكرس ما هو قائم لنية تافهة مثل الابتكار والجدة، وهما بوجهة نظري كما كتبتُ كثيرًا بدوري أيديولوجية ينبغي الوقوف عندها.
يشير غرامشي لا لهؤلاء الذين لا يبالون، بل لمَن يدعون المبالاة أيضًا، ممن يتمتعون بالفضول الفكري فحسب، ويخلون مسؤوليتهم كفاعلين في الحياة اليومية، ويسميهم بـ«أبناء الأزمات» الضعفاء الباحثين على موطئ قدم، والذين يتلقفون أول فكرة تُعرض لهم لضعفهم الفكري، والذي يوفر فرصة جديدة للرضا عن الذات فحسب. ولا يمكن الإشارة لفكرة غرامشي هذه دون النظر إلى الليبراليين التقدميين في أمريكا مثلًا، والذين باتوا يستخدمون السواد وأجساد النساء نحيلة كانت أم زائدة الوزن كعملة أخرى من عملات السوق. يفضلون الشعر المموج، يبحثون عن شركاء من إثنيات أخرى، وفي ظنهم أنهم بذلك يتجاوزون العنصرية مثلًا من بين أفكار أخرى. ألا يمكن هزيمة هؤلاء بسهولة؟ أولئك الذين ينكرون وجود الواقع التمييزي وراء قشرة التواصل وقبول الجميع، وينكرون أكثر من ذلك البنى التي تنتجها.
يتساءل غرامشي لماذا لا يعني التقدم في جوهره في توسيع نطاق المشاركة في الخير ليشمل البشر أجمعهم؟ أريد أن أعود لتلك الصالة نفسها لأقرأ مقطعًا من كتابة لغرامشي على جميع من كانوا هناك: «لم تعد تحمل تسميةَ الاشتراكيّة العلمية» عند كلاوديو تريفيس(12) التي لا تعدو أن تكون هراءً من هراء الحتميّة الوضعيّة، هراء يجِد شروطَ إمكانه في الطّاقات الاجتماعية للإنسان و«الإرادة»، شروط مجرّدةٌ أشدَّ ما يكون التّجريد: مبهمة، ولا معقولة: تصوّرٌ صوفيٌّ جافّ، يخلو من أيّ دفعةِ شعورٍ بالألم. تلكم رؤيةٌ ورقيَّة للحياة، رؤيةُ كتبٍ، ترى وحدةَ الأثر، ولا ترى تعدديّةَ الإنسان، ذلك الإنسان الذي لا تتحقّق وحدته إلا باعتباره تركيبًا حيًّا. عند هؤلاء، تبدو الحياة أشبه شيءٍ بانهيارٍ ثلجيّ، يسأل الإنسانُ الضّئيلُ: هل أستطيع إيقاف هذا الانهيار؟ لا؟ إذن هو لا يخضع إلى أيِّ إرادة. لأنّ «الانهيار البشري» لا يخضع إلى منطقٍ لا يتوافق دائمًا مع منطقي الشخصيّ، ولأنّني -أنا الفرد الأعزل- لا يستطيع أن أوقفه أو أغيّر مسارَه؛ فإنني أُقنع نفسي بأنّ ما من منطقٍ داخليٍّ يحكمُه، وأنّه لا يتبع إلّا قوانين طبيعية صارمة لا تُكسر».
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: أن الإنسان کثیر ا
إقرأ أيضاً:
عاجل | الملك يصل مكان انعقاد قمة شرم الشيخ
صراحة نيوز- وصل جلالة الملك عبدالله الثاني إلى المركز الدولي للمؤتمرات في مدينة شرم الشيخ بمصر، للمشاركة في قمة شرم الشيخ للسلام.