في تلك الصورة التي هزّت الوجدان العربي، انحنى الأسير المحرَّر ليقبّل قدم أمه. لم يكن مجرد ابنٍ يعود من غياب طويل، بل كان رمزا لجيل بأكمله خرج من ظلام الزنازين بخطوة بطيئة ولكن برأس مرفوع. كان وجهه شاحبا من أثر التعذيب، لكن يده كانت ثابتة وهو ينحني، لا خضوعا، بل اعترافا بأن الأم هي الوطن الأول والملاذ الأخير.



وفي اللحظة نفسها تقريبا، كانت الكاميرات تلتقط صورا أخرى: زعماء العالم في شرم الشيخ يجلسون حول طاولة دائرية، يوزعون البيانات الختامية كمن يوزع صكوك الغفران على الخراب. خلفهم بحر هادئ ومنتجعات مضاءة.. وأمامهم غزة تُطفئ أنفاسها الأخيرة تحت الركام.

قبلة الأسير كانت فعلا يفيض بالمعنى، بينما كانت مصافحات القادة في شرم الشيخ خاوية من الروح. هناك -على الأرض- أمٌّ تحتضن ابنها وتبكي كأنها تحتضن قبرا عاد للحياة. وهنا -في قاعات فندقية مكيفة- أمة كاملة تُختزل في "ملف إنساني" قابل للتفاوض
قبلة الأسير كانت فعلا يفيض بالمعنى، بينما كانت مصافحات القادة في شرم الشيخ خاوية من الروح. هناك -على الأرض- أمٌّ تحتضن ابنها وتبكي كأنها تحتضن قبرا عاد للحياة. وهنا -في قاعات فندقية مكيفة- أمة كاملة تُختزل في "ملف إنساني" قابل للتفاوض.

لقد اجتمعوا على أنقاض غزة، يتحدثون عن السلام بينما الدم لا يزال طريّا على حجارة المخيمات. عاد صليل السيوف إلى غمده لحظة واحدة، لكنهم لم يدركوا أن السيف العائد ليس استسلاما، بل هو التقاط أنفاس قبل جولة أخرى من التاريخ.

لم يكن الإفراج عن 20 رهينة إسرائيلي هو ما أثار دهشة الشعوب، بل المعادلة الفاضحة التي كشفت أرقامها عريَ الضمير العالمي: 20 مقابل 2000 أسير فلسطيني.

قالوا: "عودة الرهائن فرحة إنسانية". وقلنا: "عودة الأسرى الفلسطينيين مشاهد فرح مبللة بالدم والركام والدموع".

رهينة يعود إلى تل أبيب فتستقبله الشرفات المضيئة، أسير يعود إلى غزة فلا يجد إلا الأطلال، وبيتا صار سردابا، وأما إن بقيت حية فقد مات منها نصف الروح في طرقات السجن الطويلة.

ورغم ذلك، خرج الفلسطيني لا ليبكي، بل ليقول للعالم: نحن لا نُقاس بالأرقام، بل بالمعنى.

عشرون رهينة مقابل ألفي أسير؟ إذا هناك ألفان من الحكايات لم تُسمع بعد، وألفان من القلوب التي ستروي -كما روى هذا الأسير- كيف يُصنع الشرف خلف القضبان.

الفرح في غزة لم يكن لامعا ولا أنيقا، كان فرحا يخرج من تحت الأنقاض، يحمل في يده صورة شهيد وفي الأخرى يد أمٍ ترتجف. لم تُرفع الأعلام على منصات رسمية، بل رُفعت في الأزقة، على جدران مدمرة، بين أطفال يتامى وأمهات فقدن نصف ذريتهن في القصف.

لكن -وعلى الرغم من كل هذا الخراب- كان الفرح الفلسطيني أصدق من كل تصفيق دبلوماسي حدث في شرم الشيخ.

يظن العالم أن الحكاية انتهت بتلك الصفقة، وأن المشهد اكتمل. لكن الحقيقة أن التاريخ يبدأ من هنا، من قبلة أسير على قدم أم، من نظرة امرأة فقدت البيت والولد ولكنها لم تفقد اليقين.

..وتبقى الرسالة

الإنسان الفلسطيني لا يبحث عن شفقة، بل عن اعتراف بكرامته، أن الأم التي تُقبَّل قدمها على تراب غزة أصدق من كل بيانات الشرم السياسي المنعقد على شواطئ شرم الشيخ
تلك كانت الرسالة الأولى إلى العالم: أن الإنسان الفلسطيني لا يبحث عن شفقة، بل عن اعتراف بكرامته، أن الأم التي تُقبَّل قدمها على تراب غزة أصدق من كل بيانات الشرم السياسي المنعقد على شواطئ شرم الشيخ.

أما الرسالة الثانية، وهي الأهم، فهي موجهة إلى الداخل العربي والإسلامي؛ إلى الشعوب التي أنهكتها الخيبات، وإلى الأنظمة التي ظنت أن الهزيمة قدرٌ أبدي لا يُكسر. رسالة تقولها قبلة الأسير ببلاغة تفوق كل الخطب:

بين الحزن الراكع والموت الواقف أختار الموت
بين الصمت الهانئ والصوت الدامي
أختار الصوت
بينَ اللَّطْمَةِ والطَّلْقَةِ أختار الطلقة
بين السَّوْطِ وبينَ السَّيْف أختار السيف
هذا قدري

كما قال عبد العزيز المقالح، وكأنّه يكتب عن هذا الجيل الذي قرر ألا يموت جالسا في طوابير الانتظار، بل واقفا على أعتاب الحرية، ولو كانت الحرية شظية في يد أم وأثر قيد في معصم أسير.

هذه ليست نهاية المعركة، هذه لحظة استعادة المعنى، وهذه الأمة -التي تنحني للحب- فقط لا تُهزم.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه قضايا وآراء السلام إسرائيلي فلسطيني إسرائيل اسرى فلسطين كرامة سلام مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة مقالات صحافة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة فی شرم الشیخ

إقرأ أيضاً:

شرم الشيخ.. مدينة السلام التي تحتضن الأمل من جديد

من جديد تثبت مصر أنها قلب العروبة النابض وعنوان السلام الدائم، فها هي مدينة شرم الشيخ، مدينة السلام، تحتضن جولة جديدة من اتفاق وقف إطلاق النار في الحرب على غزة، لتعيد إلى الأذهان تاريخًا طويلًا من المواقف المصرية الثابتة، التي لا تتغير بتغيّر الزمن ولا بتبدّل الظروف.

منذ عقود، كانت مصر — ولا تزال — هي الوسيط النزيه، والضمير العربي الحي، الذي لا يسعى لمصلحةٍ ضيقة، بل يعمل من أجل إنقاذ الإنسان قبل أي شيء. من كامب ديفيد إلى اتفاقات الهدنة، ومن دعم القضية الفلسطينية في كل محفل دولي إلى استقبال المفاوضات على أرضها، أثبتت القاهرة أن السلام بالنسبة لها ليس شعارًا يُرفع، بل مسؤولية تاريخية وإنسانية.

وها هي اليوم، شرم الشيخ — المدينة التي شهدت مؤتمرات للسلام والتنمية والبيئة والسياحة — تفتح ذراعيها لتحتضن الأمل في وقف نزيف الدم، وإعادة الحقوق لأصحابها، وإنهاء معاناة الشعب الفلسطيني الذي دفع ثمن الحروب والدمار لسنوات طويلة.

دور مصر لم يكن يومًا عابرًا، بل متجذر في تاريخها الممتد منذ آلاف السنين، حين كانت أرضها مأوى للأنبياء وممرًا للرسل، ومهدًا للحضارة الإنسانية. واليوم، تواصل مصر هذا الدور بوعي قيادتها السياسية وحكمة الرئيس عبد الفتاح السيسي، الذي رفع دائمًا شعار “لا حل إلا بالسلام العادل والشامل، وبإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة”.

إن ما يجري في شرم الشيخ اليوم هو رسالة جديدة للعالم: أن السلام لا يولد إلا من أرضٍ تعرف معنى الحرب، وأن من ذاق مرارة الفقد هو الأقدر على تقدير قيمة الحياة.
فمصر التي خاضت الحروب من أجل كرامتها، تعرف كيف تبني الجسور من أجل إنقاذ الآخرين.

شرم الشيخ  إذا ليست مجرد مدينة ساحلية جميلة، بل هي رمزٌ متجدد لسلامٍ مصريٍّ أصيل، سلامٍ يصون الحقوق ولا يساوم على الكرامة، سلامٍ يُكتب اليوم بأيدٍ مصرية تحمل شرف التاريخ وأمانة المستقبل.

مقالات مشابهة

  • قمة شرم الشيخ.. ترامب يحول السياسة إلى عرض ستاند أب كوميدى عالمي
  • خالد أبو بكر: شرم الشيخ كانت محط أنظار العالم بتغطية إعلامية غير مسبوقة
  • دفاع النواب: قمة شرم الشيخ قبلة الحياة للسلام وجهود الداخلية في مكافحة الجريمة وصلت للعالمية
  • "دفاع النواب": قمة شرم الشيخ أعطت قبلة الحياة للسلام
  • حضور رئيس الفيفا بين قادة السياسة بقمة شرم الشيخ يثير الاستغراب
  • عاطف عبد اللطيف : شرم الشيخ مؤهلة لتكون قبلة سياحة المؤتمرات عالميا
  • محافظ جنوب سيناء : شرم الشيخ كانت وستظل مدينة السلام العالمي
  • ابو رمان يكتب: الأسير البطل مروان البرغوثي والملامح التي لا تُرى
  • شرم الشيخ.. مدينة السلام التي تحتضن الأمل من جديد