إقالة الشعب لتستريح الحكومة!
تاريخ النشر: 20th, October 2025 GMT
فى السادسة صباح الجمعة 17 أكتوبر 2025، قررت الحكومة رسميًا بكل هدوء وثبات رفع أسعار الوقود، متعللة بأسباب ليست بجديدة على مسامعنا أو خارج سياق مبررات مُعلبة تتماشى مع جميع الأزمات على اختلاف أنواعها، فقالت إن قرار«الرفع» جاء فى ضوء التطورات المحلية والإقليمية والعالمية وتأثيرها على أسعار الطاقة، ثم أتبعت سيناريو التعليل بما يخفف وطأة الصدمة على مسامع المواطنين ونفوسهم بأن تلك الزيادة قد تكون الأخيرة وسيتم تثبيت الأسعار لمدة عام كحد أدنى!
وطالما أن الحكومة لم تذكر أن «الرفع» جاء استجابة لتعليمات صندوق النقد، فلا داعى لتذكيرها بتصريحات الدكتور محمد معيط المدير التنفيذى فى الصندوق مارس الماضى، بأن مصر أعلنت عن أنها ملتزمة برفع إجمالى الدعم الكامل عن الوقود بحلول ديسمبر 2025، وأن الالتزام قائم، مؤكدًا ثم قاطعًا الطريق على إمكانية تأجيل هذا «الرفع» بأن هناك التزامًا من السلطات المصرية بالتاريخ المعلن، فمناقشة هذا السبب بعد استبعاده من قائمة التعليل،غير مُجدٍ، لأنها حكومة لا تسمع ولن تسمع!
المحزن، أنه فى ظل الصراخ الصامت الذى نعانيه بعد صدمة رفع البنزين 13% تقريبًا بكل هذا الثبات الحكومى، وما يتبعه من ارتفاع فى أسعار السلع والخدمات، تتفاجأ بنوعية من التصريحات تصيبك بالإحباط المزمن، على غرار تشكيل غرفة عمليات مركزية وفرعية لضمان انضباط الأسواق واستقرارها، والمتابعة اللحظية لضمان توافر المنتجات البترولية للمواطنين بصورة طبيعية!.
بعد هذا الصراخ الصامت والإحباط المزمن والدخول فى دائرة الإدراك المفقود، عُدت إلى الوراء قليلًا، حيث كلمة الدكتور مصطفى مدبولى، رئيس الوزراء، خلال مؤتمر «حكاية وطن» سبتمبر 2023، واستعراض حصاد تسع سنوات من الإنجازات، وقد ألهمنى الله الصبر ساعة و18 دقيقة و26 ثانية مدة الكلمة التى ألقاها سيادته، بداية من استعراض ما قامت به الحكومة لخدمة المواطن وتأكيدات سيادته بأنها إنجازات غير مسبوقة بكل المقاييس، لم تحدث منذ عقود طويلة، مرورًا بتجارب دول مماثلة احتاجت أكثر من عقدين من الزمان حتى تنهض وتحقق التقدم المنشود!
وبعد بيانات ومقارنات بين ماكان وما حدث، جاءت اللحظة الفارقة التى كاد أن يبكى فيها سيادته متأثرًا بعد هذا العرض وهو يقول: «أهم شىء الثقة فى المسار.. إحنا بنبنى بلد.. إحنا بنبنى بلد.. بلد ممكن مش لينا.. جايز يكون الأجيال الموجودة هى من تعانى من دفع فاتورة هذه الإصلاحات وبناء الدولة».. ففهمت ببساطة ووضوح أننا من الجيل الذى يدفع ثمن الإصلاح ولن يجنى ثماره!
هذا الجيل الذى ينتمى إلى شعب قالت عنه الحكومة أن 40% منه يعانى من «فقر الدم» ما يؤثر على إنتاجية الفرد وقدرته على العمل ويسبب عبء اقتصادى على الدولة ويمنع دوران عجلة التنمية.. متناسية أن زيادة أسعار الوقود تتبعها تلقائيًا موجة غلاء فى المعيشة ينتج عنها سوء تغذية، أحد أهم أسباب الإصابة بفقر الدم، أليس من حق هذا الجيل يا سيادة رئيس الوزراء أن يحصل على الحد الأدنى من تلبية احتياجاته دون ضغوط يومية سببها الأول الحكومة.. أليس من حق هذا الجيل يا حكومة أن يعرف كم عدد الفقراء الذين وقعوا ضحايا خطة الإصلاح لتحيا أجيال أخرى.
فى النهاية: التنمية التى تزيد الفقر ليست بتنمية.. النمو الذى لا يُترجم إلى زيادة فى دخل الفرد وتحسن قدرته الشرائية ليس نموًا.
والخلاصة: الإصلاح مستمر.. والغلاء أيضًا مستمر.. ولا جدوى من استعراض لماذا وكيف وما النتيجة؟ لأننا أمام حكومة لا ترى الضغط المعيشى الذى وصلنا إليه ولن تسمع أنينه، وعلى الحكومة أن تقيل هذا الشعب لتستريح من أعبائه لأنه لا فائدة من إقالة الحكومة!
وأخيرًا: إلى كل الأجيال القادمة وثقت هنا ما نعانيه.. لأنه قيل لنا إنكم من سيجنى ثمار الإصلاح.. فهل جنيتموه؟
حفظ الله مصر وشعبها من كل سوء
[email protected]
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: أشرف عزب الجمعة 17 أكتوبر 2025 صندوق النقد مؤتمر حكاية وطن رئيس الوزراء
إقرأ أيضاً:
فؤاد باشا سراج الدين .. الرجل الذى علم المصريين معنى الكرامة
منذ يومين مرت الذكرى الرابعة والعشرون لرحيل رجل من أعظم رجال مصر فى القرن العشرين؛ رجل لم يكن مجرد سياسي أو صاحب منصب، بل كان مدرسة كاملة فى الوطنية والعناد الشريف والإصرار على أن تبقى مصر واقفة مهما حاولت قوى الاحتلال أن تكسر إرادتها.
أتحدث هنا عن فؤاد باشا سراج الدين، الرجل الذى ترك بصمة لا تمحى فى الوجدان المصرى، والذى رحل عن عالمنا فى التاسع من أغسطس عام 2000، لكنه لم يرحل يوما عن ذاكرة الوطن.
فى كل مرة تمر فيها ذكرى رحيله، أشعر أن مصر تعيد اكتشاف جزء من تاريخها؛ تاريخ لا يمكن فهمه دون الوقوف أمام شخصية بهذا الثقل وبهذه القدرة على الصمود.
ولد فؤاد باشا سراج الدين سنة 1910 فى كفر الجرايدة بمحافظة كفر الشيخ، وبدأ مشواره شابا يحمل حلم الوطن فى قلبه قبل أن يحمله على كتفيه.
تخرج فى كلية الحقوق، ودخل معترك الحياة العامة صغيرا فى السن، لكنه كبير فى العقل والبصيرة، وفى سن لم تكن تسمح لغيره سوى بأن يتدرب أو يتعلم، أصبح أصغر نائب فى تاريخ الحياة البرلمانية المصرية، ثم أصغر وزير فى حكوماتها المتعاقبة، فى زمن لم يكن الوصول فيه إلى المناصب بالأمر السهل ولا بالمجاملات.
لكن ما يجعل الرجل يستحق التوقف أمامه ليس كثرة المناصب، بل طريقة أدائه فيها، فقد كان نموذجا للمسؤول الذى يعرف معنى الدولة، ويؤمن بأن خدمة الناس شرف لا يباع ولا يشترى.
ومن يعيش تفاصيل تاريخه يدرك أنه لم يكن مجرد جزء من الحياة السياسية، بل كان جزءا من الوعى العام للمصريين، وصوتا قويا فى مواجهة الاحتلال، وسندا لحركة الفدائيين فى القناة، وواحدا من الذين كتبوا بدموعهم وعرقهم تاريخ كفاح هذا الوطن.
ويكفى أن نذكر موقفه الأسطورى يوم 25 يناير 1952، حينما كان وزيرا للداخلية، ورفض الإنذار البريطانى الداعى لاستسلام رجال الشرطة فى الإسماعيلية.
وقتها لم يتردد لحظة، واختار الكرامة على السلامة، والوطن على الحسابات السياسية، ذلك اليوم لم يصنع فقط ملحمة بطولية، لكنه صنع وجدانا كاملا لأجيال من المصريين، وأصبح عيدا رسميا للشرطة تخليدا لشجاعة رجال رفضوا أن ينحنوا أمام الاحتلال، وهذه الروح لم تكن لتظهر لولا وزير آمن برجاله وبمصر أكثر مما آمن بنفسه.
كما لا يمكن نسيان دوره الحاسم فى إلغاء معاهدة 1936، ودعمه لحركة الكفاح المسلح ضد الإنجليز، ولا تمويله للفدائيين بالمال والسلاح، كان يعلم أن المستقبل لا يهدى، وإنما ينتزع انتزاعا، وأن السيادة لا تستعاد بالكلام، وإنما بالمواقف.
وفى الداخل، قدم سلسلة من القوانين التى شكلت تحولا اجتماعيا حقيقيا؛ فهو صاحب قانون الكسب غير المشروع، وصاحب قوانين تنظيم هيئات الشرطة، والنقابات العمالية، والضمان الاجتماعى، وعقد العمل الفردى، وقانون إنصاف الموظفين.
وهى تشريعات سبقت عصرها، وأثبتت أن الرجل يمتلك رؤية اجتماعية واقتصادية عميقة، وميلا دائما للعدل والمساواة، وفهما راقيا لطبيعة المجتمع المصرى.
ولم يكن خائفا من الاقتراب من الملفات الثقيلة؛ ففرض الضرائب التصاعدية على كبار ملاك الأراضى الزراعية حين كان وزيرا للمالية، وأمم البنك الأهلى الإنجليزى ليصبح بنكا مركزيا وطنيا، ونقل أرصدة الذهب إلى مصر للحفاظ على الأمن الاقتصادى للدولة، وكلها خطوات لا يقدم عليها إلا رجل يعرف معنى السيادة الحقيقية ويضع مصالح الوطن فوق كل اعتبار.
ورغم الصدامات المتتالية التى تعرض لها، والاعتقالات التى مر بها فى عهود متعددة، لم يتراجع ولم يساوم، ظل ثابتا فى المبدأ، مؤمنا بالوفد وبالحياة الحزبية، حتى أعاد إحياء حزب الوفد الجديد عام 1978، ليبقى رئيسا له حتى آخر يوم فى حياته، وقد كان ذلك الإحياء بمثابة إعادة الروح لمدرسة سياسية كاملة ترتبط بتاريخ النضال الوطنى الحديث.
إن استعادة ذكرى فؤاد باشا سراج الدين ليست مجرد استدعاء لصفحات من التاريخ، بل هى تذكير بأن مصر لم تبن بالكلام، وإنما صنعت رجالا مثل هذا الرجل، آمنوا أن الحرية حق، وأن الوطنية فعل، وأن الكرامة لا تقبل المساومة.
وفى زمن تكثر فيه الضوضاء وتختلط فيه الأصوات، يبقى صوت أمثال فؤاد باشا أكثر وضوحا، وأكثر قوة، لأنه صوت نابع من قلب مصر، من تربتها وأهلها ووجدانها.
رحل جسد الرجل، لكن أثره باق، وتاريخه شامخ، وسيرته تذكرنا دائما بأن الوطن لا ينسى أبناءه المخلصين وأن مصر، رغم كل ما تمر به، قادرة دائما على إنجاب رجال بحجم فؤاد باشا سراج الدين.