جريدة الرؤية العمانية:
2025-10-28@17:29:08 GMT

بين استنساخ التجارب وخصوصية المكان

تاريخ النشر: 28th, October 2025 GMT

بين استنساخ التجارب وخصوصية المكان

 

 

 

خالد بن حمد الرواحي

في زمنٍ تتسابق فيه المؤسسات نحو التحديث، يختلط أحيانًا بريق التجارب الأجنبية بسحر الواقع المحلي، فتضيع ملامح الهوية بين ما نستورده وما نملكه، حتى تتوارى روح المكان خلف قوالب لا تُشبهه.

ليست كل تجربة ناجحة قابلة للنسخ، ولا كل نموذج إداري صالحًا للتطبيق في أي مكان. فلكل بيئةٍ لغتها الخاصة، وثقافتها؛ ومواردها التي تُشكّل أسلوبها في العمل واتخاذ القرار.

ومع ذلك، تُسارع بعض الجهات الحكومية إلى استيراد نماذج جاهزة وتطبيقها كما هي، وكأن النجاح وصفةٌ يمكن اقتناؤها. فما يزدهر هناك قد يذبُل هنا؛ وما يصلح في بيئةٍ متقدمة قد يتحوّل في مؤسساتنا إلى عبءٍ يُربك الأداء ويشوّه الهوية.

وتظهر مظاهر الاستنساخ في أن تعتمد بعض المؤسسات أنظمة لتقييم الأداء أو مؤشرات قياسٍ لا تعبّر بدقة عن أولوياتها، فتتحوّل تلك الأدوات إلى عبءٍ إداري يرهق الموظفين دون أن يضيف قيمة حقيقية.

وتتعمق المشكلة حين تُترجم المصطلحات الأجنبية وتُزيَّن بالعناوين اللامعة، ظنًا أن تغيير المسميات كفيلٌ بإحداث التغيير. غير أن نجاح تلك التجارب لم يكن في الشكل أو الاسم؛ بل في الفكرة التي تقف وراءها والمنهج الذي صنع نجاحها، وهكذا، يتحوّل النقل الإداري من وسيلةٍ للتعلّم إلى تكرارٍ شكليٍّ يُغيّر المظهر ولا يُلامس الجوهر.

ويبرُز خلف هذا المشهد سؤالٌ جوهري: لماذا نلجأ إلى الاستنساخ بدل الابتكار؟

في العمق، يعود السبب إلى ضعف الثقة بالقدرات المحلية؛ وإلى السعي نحو إنجازٍ سريع المظهر لا عميق الأثر. فبدل دراسة الواقع وبناء حلولٍ تنبع من بيئتنا، يختار البعض الطريق الأسهل في ظاهرها: تجربة جاهزة تحمل وعود الحداثة وبريق الإنجاز السريع.

ويُضاف إلى ذلك أن بعض المسؤولين، بعد دراستهم في دولٍ متقدمة، يعودون بانبهارٍ شديد بثقافتها الإدارية، فيرون فيها النموذج الأمثل ويقيسون بها كلَّ ما حولهم. غير أن هذا الانبهار كثيرًا ما يتجاهل الفوارق في الموارد والثقافات المؤسسية والهياكل التنظيمية، فيتحول الإعجاب إلى تقليد، والتقليد إلى عبءٍ يُضعف الهوية ويُطفئ روح الابتكار في المؤسسة.

ويختل التوازن أكثر حين تُنقل تجربةٌ ناجحة من قطاعٍ إلى آخر من غير وعيٍ بالفروق الجوهرية بينهما. فما نجح في قطاع النفط مثلًا؛ قد يتعثر إذا استُنسخ في قطاع الصحة أو التعليم، لأن بيئة العمل ومعايير النجاح مختلفةٌ جذريًا. وتجاهل هذه الفروق الدقيقة يحوّل النجاح السابق إلى عبءٍ جديدٍ يهدر الموارد، ويُرهق الكوادر بلا جدوى، ويفقد الغاية التي أُنشئ من أجلها.

والأسوأ من ذلك، مكابرة صاحب القرار عند ظهور مؤشرات الفشل؛ إذ يصرّ على الاستمرار مهما كانت الكلفة على الموظفين والمراجعين؛ فيتحول الهدف من خدمة مصلحة المؤسسة إلى الحفاظ على صورة القرار، وتُستهلك الطاقات في تبرير التعثر بدل تصحيحه. وهكذا يُغلق باب المراجعة الذاتية؛ ذلك الباب الذي تمثّل شجاعته روح كل إصلاحٍ حقيقي.

في المقابل، تُثبت التجارب الرصينة دائمًا أن طريق التميّز يمر عبر الفهم والتكييف. فالمؤسسات التي تُدرك خصوصية بيئتها وتفهم جمهورها وخدماتها، هي الأقدر على بناء نماذج تُشبهها وتُعبّر عنها. والمطلوب ليس الانغلاق عن العالم، بل تحويل تجارب الآخرين إلى إلهامٍ، لا استنساخٍ؛ وإلى منهج تفكيرٍ، لا قالبٍ جاهز.

حين تُزرع الفكرة الوافدة في تربةٍ محليةٍ خصبة، وتُسقى بروح المكان وثقافة العمل الوطني؛ فإنها تزدهر وتُثمر نموذجًا عُمانيًا في جوهره، وإن تشابهت أدواته مع غيره.

ونجاح أي نموذجٍ إداري في عُمان يُقاس بمدى انسجامه مع القيم الحقيقية للمجتمع وثقافته وأولوياته، لا بمدى تشابهه مع الخارج.

وختامًا.. إنَّ استنساخ التجارب دون وعيٍ بخصوصية المكان يشبه زراعة نبتةٍ في تربةٍ غريبة؛ قد تنبت للحظة، لكنها لا تصمد طويلًا. فالمؤسسات التي تبحث عن التميّز الحقيقي تبني تجربتها على فهمٍ عميقٍ لواقعها واحتياجاتها. والابتكار الإداري ليس خيارًا تجميليًا؛ بل ضرورةٌ وطنية تصنع حلولًا أصيلةً تُناسب الإنسان والمكان، وتجسّد روح رؤية عُمان 2040 بتمكين المؤسسات من التطوير من داخلها؛ فالإدارة التي تُشبه وطنها لا تخشى المقارنةَ بأحد، لأنها تستمد نجاحها من جذورها لا من ظلال الآخرين. والمكان لا ينتظر من يُقلّد غيره، بل من يصنع تجربتَه بجرأةٍ تشبهه.

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

وزير الصحة: المملكة ستبدأ قريبًا التجارب السريرية لطبيب الذكاء الاصطناعي

قال وزير الصحة، فهد الجلاجل، إن المملكة ستبدأ قريبًا التجارب السريرية لطبيب الذكاء الاصطناعي، مشيرًا إلى أن ذلك يأتي في إطار توجه وطني نحو توظيف التقنيات الحديثة والذكاء الاصطناعي في خدمة الإنسان وتعزيز جودة الحياة.

وأضاف الجلاجل، خلال كلمة ألقاها في ملتقى الصحة العالمي، أن السعودية تدعم كل ما يجعل "صحة الإنسان أولاً"، سواء داخل البلاد أو في مختلف أنحاء العالم. 

وأشار إلى أن رؤية السعودية 2030 أحدثت نقلة نوعية في المشهد الصحي، عبر الانتقال من نهج "العلاج بعد المرض" إلى "الوقاية قبل المرض"، لافتًا إلى أن هذا التحول انعكس بشكل مباشر على مؤشرات الصحة العامة.

وأوضح الوزير أن 70% من حالات السرطان في المملكة تُكتشف في مراحلها المبكرة، فيما ارتفع متوسط العمر المتوقع من 74 عامًا في 2016 إلى 79 عامًا في 2025، ما يعكس نجاح نموذج الرعاية الجديد الذي يهدف إلى "رعاية الإنسان قبل أن يبدأ حياته".

وزير الصحةملتقى الصحة العالميالتجارب السريرية لطبيب الذكاء الاصطناعيقد يعجبك أيضاًNo stories found.

مقالات مشابهة

  • وزير الصحة: المملكة ستبدأ قريبًا التجارب السريرية لطبيب الذكاء الاصطناعي
  • خبراء يخترعون مصل قد يعالج تساقط الشعر في أقل من شهر
  • القيادة التي لا تسمع.. لا تتعلّم!
  • بوتين يعلن انتهاء التجارب على صاروخ نووي جديد “بوريفيستنيك”
  • "مصر المكان والمكانة" عنوان صالون الجراح الثقافي في مكتبة مصر الجديدة.. الثلاثاء
  • لاندو نوريس أول المنطلقين في سباق جائزة المكسيك الكبرى للفورميلا وان
  • نوريس «أول المنطلقين» في «جائزة المكسيك»
  • بعد سرقته.. متحف اللوفر ينقل أثمن مجوهراته لهذا المكان
  • في استنساخ تجربة المنتدى الاقتصادي