يقولون إن التاريخ خيط متصل، موصول أوله بآخره، وليس مجرد سنين تتراكم بعضها فوق بعض، بل هو تركيب حي مستمر في حركته، مستمر في تطوره، لأنه في حقيقته هو "الإنسان".. بكل ما تحمله هذه الصفة من حمولة ضخمة عن هذا المخلوق المختار، الذي جاء إلى الأرض بإرادة ومشيئة عليا لتحقيق غاية وقصد، وليكون "الحلقة الوسطى" في سلسلة الخلق الكبرى التي حدثنا عنها الأستاذ العقاد رحمه الله (ت: 1964) في كتابه المهم "الإنسان في القرآن".
الحركة والتطور في مسار التاريخ وإنسان التاريخ، محكومة بثوابت ومتغيرات، الثابت فيها هو الجوهري، والمتغير فيها هو الشكلي، لذلك سنجده يعود ويسترسل متجددا بجديد الأقدار، بشرا وحجرا وشجرا، ولن يتكشف هذا المسار إلا لمن يتبصر. والتبصر هو "الأب الروحي" للمعرفة والقراءة والدرس والبحث والسؤال المتجدد، وهي خصائص إسلامية خالصة.
* * *
تكرار التاريخ لنفسه موضوع تعدد فيه الحديث والجدل، رغم أن المسألة بسيطة للغاية، فهي تدور فقط بين جوهر ثابت ومظهر متغير.. لكن الإنسان بطبيعته محب للجدل والتنظير والتقعيد، وأيضا التعقيد.
وسنجد موقفا يحدث حولنا الآن، قريبا مما سبق، وهو غزة التي كانت طوال السنوات الماضية من 1967م إلى يومنا هذا "حالة" لها خصوصيتها البالغة لإسرائيل، ولولا أنها كانت الطريق إلى سيناء، لما احتلتها إسرائيل التي كانت تريد سيناء للضغط على مصر، في اتجاه ما سيكون لاحقا مما سيحدث من اتفاقات.
وستبقى معضلة غزة كما هي، بل زد على ذلك أنها أصبحت الآن، العنوان الأبرز أمام العالم كله لقضية "الشعب الفلسطيني"، حتى وإن تآمَر عليها الجميع؛ تآمُرَ إخوة يوسف على يوسف.
ورحم الله الشاعر محمود درويش (ت: 2008م) حين وصف الموقف العربي من القضية كلها، في قصيدته البليغة "أنا يوسف يا أبى".
* * *
الحاصل أننا سنجد أنفسنا أمام "تكرار" الموقف الذي حدث مع شارون في غزة عام 2005م، يتكرر في جوهره مع نتنياهو عام 2025م.. وما سيجمعهما في ذلك ليس فقط غزة، بل جانب مهم من جوانب المسكوت عنه في التفسيرات والشروحات، وهو جانب "المعاناة الشخصية"!!
فلأسباب تتعلق بمعاناته الشخصية، نتنياهو يريد للحرب في غزة أن تستمر، بل وتتمدد في المنطقة كلها، لكن غزة هي "جرح الجراح" بالنسبة له، بعد أن تمثلت فيها كل أكاذيبه وكل ألاعيبه، خلال العامين الماضيين.
وهذا موضوع مفتوح ومشروح ويعلمه الجميع، ليس فقط للملاحقات القضائية القديمة، والتورط في الفساد وما إلى ذلك، ولكن أيضا للتحقيق حول إخفاقات السابع من أكتوبر، وهو بسذاجة سياسية بلهاء، سارع إلى تكوين لجنة تحقيق حكومية! سيحاكم فيها نفسه! في مشهد مليء بالاستخفاف بفكرة "الدولة" ومؤسسات الدولة ومستقبل الدولة.
* * *
ولأسباب تتعلق بمعاناته الشخصية أخذ شارون (ت: 2014م) قرار الانسحاب من غزة.. لماذا..؟ للهروب من "تهم جنائية" شبه محققة، وفي سبيل ذلك أقدم على اتخاذ قرارات ذات صبغة استراتيجية، تقرر مصير الدولة برمتها.
هذا ما قاله لنا موشيه يعلون (75 سنة)، رئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلي الأسبق (2002-2005 م) في كتابه "طريق طويلة قصيرة" الذي صدر سنة 2008م.
ويضيف قائلا: "الموقف السياسي والداخلي لـشارون، ساهم إلى حد بعيد في اتخاذ هذا الموقف التاريخي، لا سيما في ظل التحقيقات التي كانت جارية معه حول قضايا الفساد، الأمر الذي دفعه لإعلان الخطة رسميا لأول مرة في مؤتمر هرتسيليا الخامس (2005م) دون الرجوع إلى الجهات الرسمية ذات الاختصاص، على الأقل في الجانبين الأمني والعسكري".
ويستطرد: "اللحظة التي قرر فيها شارون الانسحاب من غزة، لم يكن شارون الذي عرفناه طوال العقود الماضية، للدرجة التي شعرت فيها أنه يسير بخطى حثيثة لتنفيذ الخطة، لكنه في قرارة نفسه من الداخل غير مقتنع بها بصورة مطلقة وكاملة"!
ويضيف: "من أوائل عام 2004م بدأ شارون ينتهج بعض السلوكيات الغريبة بعض الشيء، فقد اعتدنا عليه سياسيا صارما متنبها مراعيا أدق السلوكيات، إلا أن عددا من العادات الجديدة بدأت تطغى على شخصيته".
* * *
ويشير يعلون أيضا إلى سلوكيات إدارية غير مقبولة أقدم عليها شارون، انطلاقا من كونه رئيسا للحكومة، من خلال استدعائه لعدد من الضباط الكبار في الجيش، ومحاولة استمالتهم لرأيه الداعي إلى الانسحاب من غزة، دون الرجوع إلى مرجعياتهم العسكرية في رئاسة الأركان. ويشن يعلون هجوما على عدد من الساسة الذين ساهموا في السنوات الأخيرة في اتخاذ قرارات خطيرة تخص أمن إسرائيل، ويقرر أن هؤلاء الساسة، أو بعضهم على الأقل، اتخذوا هذه القرارات بناء على حسابات "شخصية بحتة".
ويكشف يعلون أيضا عن نقطه مهمة تتعلق بالتداخل بين السياسي والعسكري في إسرائيل، وكيفية التأثير ببعضهما البعض، خاصة عند القرارات الهامة التي تتعلق بالدولة كالسلم والحرب، فيذكر أنه قال لشارون ذات مرة أنه لن يحول جيش الدفاع الإسرائيلي إلى شركة للقطاع الخاص ضمن شركات شارون وأبنائه.
* * *
لكنه سيقول لنا كلاما مهما للغاية، يتصل بما يجرى الترتيب له الآن بعد قرار مجلس الأمن الأخير رقم 2803: إن حل النزاع الفلسطيني الإسرائيلي من خلال إقامة دولة فلسطينية ذات قدرات اقتصادية متواضعة، ومقسمة جغرافيا وغير مترابطة، سيحولها في نهاية الأمر إلى دولة عدوانية، لأنها لن ترضي طموحات الفلسطينيين، وهو خير وصفة لقيام "حروب جديدة" في المنطقة!
وهو كلام خطير يتعرض لرفض فكرة حل الدولتين من منظور مختلف عما يقوله اليمين الحاكم، لكنه في كل الأحوال يلتقي معهم في النهاية.
أيا ما كان الأمر.. نحن أمام حالة تستدعى الانتباه والملاحظة، فإذا كان شارون دفعته معاناته الشخصية للانسحاب، فنتنياهو ستدفعه معاناته الشخصية للعدوان والاستمرار فيه، وخلفه جبال من التطرف والعدوانية في ائتلافه الحاكم وفي داخل المجتمع نفسه؛ وهو ما لن يسمح به العالم بعد "الطوفان".
x.com/helhamamy
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه قضايا وآراء غزة إسرائيل شارون نتنياهو الشخصية إسرائيل غزة نتنياهو شارون شخصية قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء مقالات مقالات مقالات اقتصاد سياسة سياسة اقتصاد رياضة اقتصاد صحافة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة
إقرأ أيضاً:
منة الله جمال تكتب: الرواد الرقميون استثمار فى المستقبل
فى خطوة نوعية تؤكد رؤية مصر نحو التحول الرقمى الشامل، شهدت العاصمة الإدارية الجديدة توقيع بروتوكول تعاون ثلاثى بين وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، والأكاديمية العسكرية المصرية، وصندوق تحيا مصر، لإطلاق المبادرة الرئاسية «الرواد الرقميون».
هذه المبادرة تمثل نموذجاً متقدماً لاستثمار الموارد البشرية الشابة فى مصر، وتؤكد على أن رأس المال البشرى هو العنصر الأهم لبناء اقتصاد رقمى مستدام.
تأتى «الرواد الرقميون» لتمنح الشباب المصرى فرصة ذهبية لاكتساب المهارات التكنولوجية المتقدمة التى باتت محور الطلب فى سوق العمل المحلى والدولى، فبرامج التدريب التى تقدمها المبادرة تغطى مجالات حيوية مثل الذكاء الاصطناعى، تحليل البيانات، الأمن السيبرانى، وتطوير البرمجيات، إلى جانب المهارات الشخصية واللغوية والقيادية الضرورية لمواجهة تحديات المستقبل.
كما أنها توفر تدريباً عملياً وميدانياً، ما يضمن أن يكون المتدرب مجهزاً ليس فقط بالمعرفة النظرية، بل بالخبرة العملية المطلوبة للنجاح فى بيئة عمل تنافسية.
ما يميز هذه المبادرة هو شموليتها وتنوع برامجها، حيث تشمل دبلوم مكثف لمدة 4 أشهر، دبلوم متخصص 9 أشهر، الماجستير المهنى 12 شهراً، والماجستير الأكاديمى 24 شهراً، هذه التدرجات تتيح للشباب اختيار المسار الأنسب لطموحاتهم ومستوى خبرتهم، مع ضمان الحصول على شهادات معتمدة من وزارة الاتصالات والأكاديمية العسكرية، إضافة إلى شهادات مهنية متخصصة، وشهادات ماجستير من الجامعة الدولية للبرامج المهنية.
ولا يقتصر الدور التعليمى على المهارات التقنية فقط، بل يشمل المبادرة تنمية روح الابتكار وريادة الأعمال والعمل الحر (freelancing)، وهو ما يجعل المشاركين فى المبادرة جاهزين لمواجهة تحديات سوق العمل المتغيرة بسرعة، مع تعزيز القدرة التنافسية للشباب المصرى على المستويين المحلى والدولى، إضافة إلى ذلك، توفر المبادرة بيئة متكاملة تشمل الأنشطة العلمية والثقافية والرياضية والاجتماعية، مما يضمن بناء شخصية متوازنة قادرة على الإبداع والابتكار.
الجانب الآخر الذى يعكس قوة المبادرة هو الشراكة الفعالة بين القطاع الحكومى، العسكرى، والمجتمع المدنى عبر صندوق تحيا مصر. فتمويل المبادرة مناصفة بين وزارة الاتصالات وصندوق تحيا مصر، مع استغلال منشآت الأكاديمية العسكرية لتوفير الإقامة والإعاشة للمتدربين، يعكس استراتيجية واضحة لضمان الجودة والاحترافية فى التدريب، ويعزز من قدرة المبادرة على الوصول لأكبر عدد ممكن من الشباب.
من منظور استراتيجى، تمثل «الرواد الرقميون» خطوة رائدة نحو بناء مصر الرقمية، ليس فقط كبرنامج تدريبى، بل كنموذج شامل للاستثمار فى القدرات البشرية، وربط التعليم بالتكنولوجيا وسوق العمل، إنها مبادرة تجسد التزام الدولة بالارتقاء بالشباب، وتأهيلهم ليكونوا قادة المستقبل فى قطاع التكنولوجيا والمعلومات، كما أنها تفتح الباب أمام دمج الشباب فى برامج ومشروعات استراتيجية تدعم التنمية المستدامة والابتكار المحلى.
باختصار، «الرواد الرقميون» ليست مجرد تدريب، بل هى تجربة متكاملة لبناء جيل قادر على قيادة التحول الرقمى فى مصر، إنها فرصة للشباب لصقل مهاراتهم، وتعزيز تنافسيتهم، والمساهمة الفعلية فى صناعة مستقبل رقمى متطور ومبتكر، من هذا المنطلق، يمكن القول أن المبادرة تمثل حجر الزاوية فى رؤية مصر لتأسيس قاعدة قوية لمجتمع رقمى متقدم ومستدام.