لَوْلَا أَخرْتَنِي.. حين يصبح التصدق أمنية متأخرة
تاريخ النشر: 27th, November 2025 GMT
الصدقة في الشريعة الإسلامية تمثل عمقًا روحيًا وأخلاقيًا يكشف عن صفاء النفس وصدق الإيمان، فهي شعيرة تعبدية لها جذورها المتينة في النصوص الشرعية، وتكاد تكون علامة فارقة على الإيمان الحق، فلا يقدم عليها إلا من امتلأ قلبه باليقين بالله والثقة بوعده، ولهذا جاءت في القرآن الكريم في مواضع عديدة تحمل دعوات صريحة إلى الإنفاق والبذل، وتربط بين الصدقة وبين التزكية الروحية للفرد وتحقيق التوازن الاجتماعي.
وإذا تأملنا الآيات القرآنية التي حثت على الصدقة، لأدركنا أن علاقة المسلم بالمال ليست علاقة تملك مطلق، بل هي علاقة استخلاف يتعهد فيها الإنسان بأن ينفق مما رزقه الله في وجوه الخير، فالقرآن الكريم حين يقول: " وَمِمَا رَزَقْنَاهمْ ينفِقونَ"، يذكّر الإنسان بأن المال ليس ملكًا ذاتيًا خالصًا، بل أمانة لله في يده، كما أن قوله تعالى: "وَمَن يوقَ شحَ نَفْسِهِ فَأولَٰئِكَ هم الْمفْلِحونَ"، يضع الصدقة في موضع الاختبار الحقيقي للنفس، فالمفلح ليس من كثرت أمواله، بل من نجح في تجاوز غريزة التمسك بما يملك وانتصر على شح النفس الذي يصد الإنسان عن الخير، وهكذا تتجلى الصدقة بوصفها تدريبًا يوميًا للنفس على التحرر من الأنانية وتنمية الشعور بالآخر، وبوصفها وسيلة عملية لتهذيب ملكات القلب.
ولو أمعنا التأمل في الآية الكريمة التي تكشف بعمق الحقيقة التي سيمر عليها كل من فوت هذه العبادة العظيمة، لوجدنا أنها لا تخاطب الإنسان بلهجة الأمر المباشر فحسب، بل ترسم أمامه مشهدا مستقبليا سيقف هو فيه حتما، مشهد الندم حين يقترب منه الموت، فهي تتحدث على الإنفاق والصدقة قبل أن تغلق الأبواب، وتنبه الإنسان إلى ألا يدع هذا الفضل العظيم يفلت من يده، لأنها تضعه أمام الحقيقة الصارخة التي تنتظره في اللحظة التي لا ينفع فيها مال ولا رجاء.
فعندما يأتي الموت إلى أحدهم، ويشعر بانقطاع الأسباب، ماذا يطلب من ربه؟ إنه لا يطلب مالا ولا يطلب عمرا طويلا للترف، بل يطلب فرصة قصيرة، وقتا قريبا فقط، من أجل ماذا؟! من أجل أن يتصدق ويكون من الصالحين، فالله تعالى يقول: "وَأَنفِقوا مِن ما رَزَقْنَاكم من قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكم الْمَوْت فَيَقولَ رَب لَوْلَا أَخرْتَنِي إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصدقَ وَأَكن منَ الصالِحِينَ (10) وَلَن يؤَخرَ الله نَفْسا إِذَا جَاءَ أَجَلهَا وَالله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلونَ"، فذلك الإنسان الذي كان يملك المال ولم ينفقه، ويملك الوقت ولم يستغله، يدرك بعد دخوله مرحلة البرزخ أن فضل الصدقة عظيم جدا، وأنها ربما من أعظم العبادات التي كان يمكن لها أن تنقذه، وأن ترفع درجته، وأن تخفف حسابه.
لكن ذلك الإدراك المتأخر لا ينفع، لأن طلبه لن يستجاب، فالله لا يؤخر نفسا إذا جاء أجلها، ولا يمنح الإنسان فرصة ثانية بعدما تنتهي المدة التي قدرت له، وهنا يبرز السؤال العميق الذي تطرحه الآية على كل قارئ: ماذا ينتظر الإنسان حتى يتصدق؟ هل ينتظر أن يفوته العمر؟ أم ينتظر تلك اللحظة التي يرى فيها الحقيقة واضحة؟ ولكن لا يعود قادرا على العمل، فهذه الآية تحاول أن توقظ في القلب إحساس الفوات قبل وقوعه.
وتأتي الأحاديث النبوية الشريفة لتؤكد أن الصدقة من أعظم العبادات المقربة إلى الله، فهي إلى جانب ثوابها الأخروي العظيم تصنع في حياته آثارا ملموسة من البركة والانشراح ودوام التوفيق، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أن "الصدقة تطفئ غضب الرب"، وأنها "تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار"، وهو ما يكشف عن بعدها التطهيري الذي يمحو آثار الذنب ويقرب الإنسان من الله، ومن أبلغ ما جاء في باب الصدقة حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "ما نقص مال من صدقة"، وهو قول يجمع بين البعد الإيماني والبعد النفسي، فهي تؤكد للمسلم أن العطاء لا ينقضي أثره، وأن المال الخارج في سبيل الله يعود إلى صاحبه مضاعفا، إما بركة أو رزقا أو دفع بلاء.
ومن أجمل صور الصدقة وأكثرها إخلاصا لله صدقة السر، وهي الصدقة التي يخفيها المتصدق حتى لا تعلم بها شماله ما أنفقت يمينه، كما ورد في الحديث الشريف، وصدقة السر مدرسة إيمانية تصقل القلب وتعلمه التوجه الخالص لله بلا رياء ولا رغبة في مدح الناس، وقد عدها العلماء من أعظم ما يطهر النفس من النفاق، لأن النفوس قد تميل أحيانا إلى طلب الثناء والمديح، فجاءت صدقة السر لتكون ميدانا تتبارى فيه الأرواح في الإخلاص، بعيدا عن الأعين، وبلا انتظار لأي مقابل، وهي بهذه الفكرة قيمة قلبية تعيد الإنسان إلى جوهر علاقته بربه.
وتتجاوز الصدقة حدود العبادة الفردية لتصبح مسؤولية مجتمعية تتكامل فيها أدوار الأفراد والمؤسسات، وتنعكس آثارها على حياة الأمة بأسرها، فالمجتمع الذي يعاني من الفجوة بين طبقاته يحتاج دائما إلى جسور تعيد التوازن، وهذه الجسور هي الصدقات والإنفاق في سبيل الله، فهي توجد مناخا من التراحم والتعاون، وتجعل الناس أقرب إلى بعضهم البعض، وتبني شعورا عاما بأن الجميع شركاء في حمل هم الوطن والإنسان، فحين يشعر الفقير أن هناك من يشاركه أعباء الحياة، وحين يدرك الغني أن وجوده لا يكتمل إلا بإعانة أخيه، حينها تتشكل نواة مجتمع متكافل يقيم علاقته على أسس العدالة والإنصاف.
ولعل من أبرز الأدلة على أثر الصدقة في إصلاح المجتمع ما ورد في الحديث الشريف: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا"، فالمجتمع الذي يقوم على التكافل هو بنيان متماسك، كل جزء منه يسند الآخر، وفي الحديث الآخر: "والله لا يؤمن من بات شبعان وجاره جائع"، يتجلى المعنى الأخلاقي العميق للصدقة، إذ يربط النبي صلى الله عليه وسلم بين الإيمان الحقيقي وبين الحس الاجتماعي، فالمؤمن ليس هو الذي يعبد الله في معزل عن الناس، بل هو من يحمل هم جاره، وينظر إلى من حوله بعين الرحمة والإنصاف، فلا يرضى أن يرى إنسانا يتألم وهو قادر على مواساته، وبهذا المبدأ نجد الصدقة تمثل الرفض القاطع لعدم المبالاة، وتجسد الإحساس العميق بأن الإنسان مسؤول عن الإنسان.
ولا يقتصر أثر الصدقة على المجتمع وحده، بل يترك آثارا عظيمة على النفس البشرية نفسها، سواء في الحياة الدنيا أو في الآخرة، فالإنسان حين يبذل، يشعر بأن قلبه أكثر خفة وهدوءا، وكأن جزءا من ثقل الحياة قد انزاح عنه، وهذا ليس شعورا متوهما، بل حقيقة نفسية أثبتها الواقع والتجربة، فالبذل يعيد ترتيب أولويات الروح، ويطهرها من التعلق المفرط بالماديات، ويشعر الإنسان بأن قيمته ليست بما يملك بل بما يعطي، كما أن الصدقة توسع دائرة التعاطف لدى المتصدق، وتزرع في قلبه شعورا متجددا بالإنسانية، فيرى الناس بعين الرحمة، ويشعر بأنهم شركاؤه في الرحلة، لا منافسون له فيها، وقد جاء في الحديث الشريف: "ثلاث أقسم عليهن"، ومنها أن "ما نقص مال من صدقة"، و"ما تواضع أحد لله إلا رفعه الله"، والصدقة شكل من أشكال التواضع عند الله، لأنها اعتراف بأن ما بين يدي الإنسان هو فضل من الله، وأنه لا يملك منه إلا بقدر ما كتب له.
أما على المستوى الروحي، فإن للصدقة أثرا لا يقاس بميزان الأموال، بل يقاس بميزان الطمأنينة التي تتدفق في قلب المتصدق، وقد أدرك كثير من الناس هذا الأثر دون أن يقرأوا فيه كتابا، بل عاشوه في مواقف الحياة، فمن تصدق في وقت ضيق شعر بأن الله فتح له أبوابا لم يكن يتوقعها، ومن أعان فقيرا وجد بركة في عمره أو صحته أو أهله.
وإذا كان الفرد يتحمل دورا كبيرا في الصدقة، فإن مؤسسات المجتمع بدورها تحتاج إلى هذا العطاء لتستمر وتؤدي رسالتها، فالصدقة هي شريان حياة لعمل خيري واسع تديره لجان الزكاة والصدقات، وصناديق الأوقاف، والمؤسسات الخيرية، هذه اللجان تقوم بدور كبير في تنظيم الإنفاق وتوجيهه نحو مستحقيه، وفي بناء مشاريع تنموية تسهم في تحسين جودة حياة الفقراء، فهي لا تقدم المال فقط، بل تبني مساكن، وتكفل الأيتام، وتعالج المرضى، وتدعم طلاب العلم، وتسد الفجوات الاجتماعية التي يعجز الأفراد وحدهم عن معالجتها، ولذلك يعد دعم هذه اللجان نوعا من الصدقة التي تتضاعف آثارها، لأن المال فيها لا يذهب مباشرة إلى فرد واحد، بل يتحول إلى مشاريع ثابتة
تمتد فائدتها لسنوات.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فی الحدیث
إقرأ أيضاً:
دراسة: تناول وجبة العشاء في وقت متأخرة يرفع مستويات السكر بنسبة 35%
كشفت دراسة طبية حديثة أجرتها جامعة جونز هوبكنز الأمريكية أن تناول وجبة العشاء في ساعات متأخرة من الليل قد يرفع مستويات السكر في الدم بنسبة تصل إلى 35%، حتى لدى الأشخاص غير المصابين بالسكري.
وأوضحت الدراسة أن الجسم يمتلك قدرة أضعف على معالجة الجلوكوز خلال ساعات الليل، مما يجعل الطعام المتأخر عبئًا على آلية الحرق الطبيعية، ويؤدي إلى تراكم السكر والدهون داخل الجسم.
ووفقًا للباحثين، فإن تناول العشاء بعد الساعة 10 مساءً يرتبط بخلل في حساسية الإنسولين، وهو الهرمون المسؤول عن تنظيم دخول السكر إلى الخلايا.
وهذا الضعف في الاستجابة يزيد من احتمالات ارتفاع السكر بعد الوجبة، خاصة إذا كانت غنية بالكربوهيدرات أو السكريات المصنعة، وأشارت الدراسة إلى أن الأشخاص الذين يتناولون وجبات متأخرة يعانون أيضًا من نوم متقطع، مما يزيد المشكلة سوءًا، لأن جودة النوم ترتبط بشكل مباشر بتنظيم هرمونات الحرق والشهية.
وأظهرت النتائج أن توقيت الوجبة قد يكون أهم من محتواها في بعض الحالات، حيث سجّل المشاركون الذين تناولوا نفس الوجبة مساءً مستويات سكر أعلى مقارنة بمن تناولوها في وقت باكر.
وبيّن الباحثون أن الجسم في الليل يدخل في وضعية الراحة الحيوية، وتتباطأ خلالها عمليات الأيض، وهو ما يجعل التعامل مع الطعام أكثر صعوبة.
كما أوضح الخبراء أن تناول العشاء المتأخر يساهم في زيادة الوزن، لأن الجسم لا يستطيع حرق السعرات كما يحدث خلال النهار، فترتفع فرص تخزين الطعام على شكل دهون، خاصة في منطقة البطن. وتزداد المشكلة إذا كان الشخص يعاني من السهر أو من عدم انتظام النوم، إذ يؤدي ذلك لاضطرابات إضافية في الهرمونات المسؤولة عن الجوع والشبع.
وأوصت الدراسة بتناول وجبة العشاء قبل الساعة 7 أو 8 مساءً على الأكثر، ويفضّل أن تكون خفيفة وتحتوي على بروتينات وألياف، مثل السلطة، الدجاج المشوي، الزبادي، أو الشوربة الخفيفة.
كما نصح الباحثون بتجنب الأطعمة الدسمة والسكريات في الليل، لأنها أكثر عرضة للتخزين في هذه الفترة