بينما كانت تسعينات القرن المنصرم تنزلق نحو أواسطها، راح القلق يستبدُّ بالحركة الاسلامويَّة في السُّودان، بسبب أزمة نظامها الذي أسَّسته على انقلاب يونيو 1989م، والمتمثِّلة في تفاقم عزلته الخارجيَّة عن العالم "الغرب بالذَّات"، دع تزايد الضُّغوط عليه من قِبَل "تجمُّع" المعارضة الدَّاخليَّة، بقيادة الميرغني آنذاك، وحصوله على منصَّةٍ لوجستيَّةٍ لدى مصر مبارك التي غيَّرت موقفها الأوَّل من ذلك النِّظام الاسلاموي.

وإزاء ذلك الوضع شديد التَّعقيد كان لا بُدَّ للجَّماعـة من اختراع مخـرج من مأزق تلك العزلة!
لم تكن لتغيب عن تقديرات التُّرابي صنوف المعيقات التي قد تعترض مسار أيَِّة خطة بذلك الاتِّجاه. فشرع يفكِّر في إبتداع آليَّة تحقِّق، أوَّلاً، التَّقارب المفقود مع الغرب، وتحصر، ثانياً، مبلغ همِّ مصر في ضرورة إبعاد نار التَّجمُّع الذي كان ناشطاً من القاهرة عن جلباب النِّظام الذي كان يرأسه البشير في الخرطوم. فكان منطقيَّاً أن يبلغ ذلك التَّفكير، تحت ضغط تلك الظروف، أنجع وأسرع الآليَّات: استرضاء رعاة إسرائيل الغربيِّين، من جهة، وتخويف مصر بإمكانيَّة التَّقارب مع غريمتها الرَّئيسة، من جهة أخرى!
هكذا انطلق التُّرابي يبذل أقصى جهده على الجَّبهتين الفكريَّة والعمليَّة، يسافر، ويحاضر، ويحاور، ويداور، ويناور، هنا وهناك، مقترباً، حيناً، مِن موضوعه الأساسي، ومبتعداً، أحياناً، عنه، ولكن بخطوات محسوبة في كلِّ الأحوال. فجاءت، في السِّياق، أبرز زياراته، وخطاباته، وحواراته، من الفاتيكان، إلى واشنطـن، إلى أوتاوا، إلى مدريد، إلى باريس، وغيرهـا.
كان مضمون تلك الخطة عدم الاقتصار على تقديم الأطروحة الجَّديدة في مستوى "السِّياسة العمليَّة"، فحسب، وإنَّما تجاوز ذلك، بالضَّرورة، إلى دلق "مدلولات دينيَّة" قويَّة التَّأثير على سطحها! لكن نقطتي ضعف جدِّيَّتين احتوشتا تلك الخطة من جهتين:
فمن الجِّهة الأولى هدفت الخطة إلى تقديم الإسلام إلى الذِّهنيَّتين الغربيَّتين، المسيحيَّة واليهوديَّة، بما ينفي عنه التَّشدُّد في معاداة "الآخر الدِّيني"، تركيزاً على تصديقه لما أنزل على عيسى وموسى. غير أن المشكلة الأساسيَّة هي أن هاتين الدِّيانتين لا تعترفان بالإسلام، أصلاً، فلا فائدة مِن أن يقال لجُمهورَيْهما إنه يعترف بموسى وعيسى!
أمَّا من الجِّهة الأخرى فإن من شأن تلك الخطة، إنْ لم تجر جراحة تنفيذها بحذر كبير، أن تفضي إلى وضع في غاية الخطورة، مؤدَّاه الاصطدام، داخليَّاً، بنعرة الاستعلاء الدِّيني التي تحتاج، حتماً، إلى معجزة، كيما تتجرَّع مثل تلك الجُّرعة!
إزاء ذلك جرى "الانقلاب الأكبر"، على ظهر مغامرة "فقهوفكريَّة" غير مسبوقة بكلِّ المعايير، وبلا مثيل في أدبيَّات الإسلام السِّياسي في كلِّ المنطقة (!) إذ لم يجد التُّرابي ما يواجه به ذلك التَّحدِّي، سوى خطة مفادها أنه، طالما أن المسلمين يعترفون بجميع الأنبياء، في تسلسل رجوعيٍّ إلى أبيهم إبراهيم، فلماذا يصرُّون على الانتساب "الضَّيِّق" إلى محمَّد، لا الانتساب "الواسع" إلى إبراهيم، ما أسميناه "الإبراهيميَّة السِّياسيَّة"؟!
في الإطار نشر التُّرابي على أتباعه، بالأساس، مقالة توجيهيَّة من جزئين، بعنوان "مرتكزات الحوار مع الغرب"، بمجلة "دراسات أفريقيَّة" المُحكِّمة، الصادرة عن "مركز البحوث والتَّرجمة بجامعة أفريقيا العالميَّة". وفي ما يلي نورد هذا المقتطف المطوَّل مِن "الجزء الثَّاني" منها، والذي يختزل، برأينا، مجمل الخطَّة، على النَّحو الآتي:
"إن غالب الأوربيِّين، وقد غفلوا عن دينهم، قد يستفزُّهم المسلم إذا خاطبهم من خلال المشترك الفكري للأديان الكتابيَّة، لأنهم، أصلاً، لا يعترفون بالإسلام، ولهذا نرى أن يكون الخطاب مدرجاً في سياق المقارنة من خلال الحدث الإبراهيمي، لأنه هو الأصل المشترك للأديان جميعاً، ويمكن للمسلم ألا ينسب نفسه إلى محمد النَّبي، بل يمكن أن يقول، تلطُّفاً، إنه لا يريد أن يُسمَّى (محمَّديَّاً)، ليخاطبهم كأنه يريد التَّحدُّث عن هذا التَّقليد الدِّيني الواحد في السِّلسلة النَّبويَّة منذ إبراهيم، وأن تتابع الأنبياء جميعاً ليس إلا تجديداً في تنزيل ذات القيم والمعاني خطاباً لأقوام مختلفين، وفي ظروف وابتلاءات مختلفة. هذا هو منهج القرآن في الحوار بين المسلمين والكتابيِّين في (سورة البقرة)، إذ بعد أن بيَّن العلل التي طرأت على الدِّيانة الكتابيَّة بعد الرِّسالة، ردَّهم كافَّة إلى أصول الدِّين الإبراهيمي، وهو الإسلام. ومن هذا الأساس ندعو إلى أن يتحوَّل الخطاب الإسلامي إلى هذا المشترك الرِّسالي الذي تبدأ به السِّلسلة النَّبويَّة، وكيف أنه لم يقتصر على المحليَّة الجُّغرافيَّة، ولا على الجُّغرافيَّة الزَّمانيَّة، وإنَّما تحرَّك برسالته في كلِّ الشَّرق الأوسط، من العراق إلى فلسطين، فهناك زرع أبناءه وخلافته التي حملت سنَّته، ومن ثمَّ إلى أطراف مصر، ثمَّ إلى مكَّة حيث ترك هناك تراثه وخلافته أيضاً، وبعد ذلك كان إبراهيم عليه السَّلام أوَّل من بدأ يوسِّع دعوة الدِّين السَّماوي الكتابي، لا لقومه خاصَّة مثل الأنبياء من قبله، ولكنه أوَّل نبي وسَّع امتداد الجُّغرافيا على سياق خطابه العالمي، ففتح آفاقاً عالميَّة لرسالته. إننا بمثل هذا السِّياق العلمي في الطرح نستطيع أن ندخل على الغرب الذي يتأثَّر بالعالميَّة" (ع/12، يناير 1995م، ص 18 ـــ 19).
***

[email protected]  

المصدر: سودانايل

إقرأ أيضاً:

كمال الدالي بمؤتمر الجبهة الوطنية: الرئيس السيسي لم يختر الطريق السهل بل الصحيح.. والمواطن أساس برنامج الجبهة الوطنية

وجه كمال الدالي، أمين حزب الجبهة الوطنية بمحافظة الجيزة، التحية لأهالي المحافظة، مؤكدًا أنهم دائمًا في مقدمة المشهد الانتخابي، مشددًا على أن الحزب يحرص على التواصل الدائم مع الشعب المصري للاستماع إلى همومه والعمل على طرح حلول واقعية.

وأشاد الدالي بالنائب محمد أبو العينين، نائب رئيس الحزب ووكيل مجلس النواب، مؤكدا أنه الصوت الوطني العاقل الذي لم يتخل عن مصر يومًا، وصاحب المواقف المشهودة والجهود الملموسة داخل مصر وخارجها.

أبو العينين: حزب الجبهة الوطنية يتبنى رؤية متكاملة تتماشى مع مبادرات الرئيس السيسيبالسلام الجمهوري ومشاركة النائب أبو العينين .. انطلاق فعاليات مؤتمر حزب الجبهة الوطنية بالجيزةمؤتمر جماهيري حاشد بالقليوبية لدعم مرشح حزب الجبهة الوطنية لمجلس الشيوخحزب الجبهة الوطنية يشيد بجهود الدولة المصرية في إعادة إدخال المساعدات إلى قطاع غزة

وأكد الدالي أن الوطن يمر بلحظة حساسة ويتعرض لمحاولات استهداف في شكل موجات متتالية من الحروب النفسية التي تسعى لإشاعة الإحباط.

وقال : «الرئيس لم يختر الطريق السهل، لكنه اختار الطريق الصحيح لإنقاذ الدولة، والمنطقة من حولنا تنهار وتتساقط الدول كأوراق الخريف، لكن وعي المواطن هو الركيزة الأساسية لعبور هذه المرحلة».

وأضاف: «السياسة مواقف، والموقف الآن هو دعم الدولة والاصطفاف خلفها. نحن لا نرفع شعارات زائفة، بل نعمل على تحقيق واقع ملموس يشهد به المواطن المصري، لذلك أدعو الجميع للمشاركة الواعية، لكن قبل أن تختار افهم ما يحدث وإلى أين تسير دولتنا».

وأوضح أمين الحزب أن برنامج الجبهة الوطنية يرتكز على ثلاث ركائز أساسية: اعتبار المواطن شريكًا في عملية التنمية، وتحقيق نهضة حقيقية لكل مدن مصر وقراها، ودعم الدور الفعال للشباب والمرأة، مؤكدًا أن مستقبل الوطن لا يصنعه المتفرجون، بل المشاركون الفاعلون.

ويستهدف مؤتمر الحزب بالجيزة دعم مرشحيه بالمحافظة، وهم: أحمد الحمامصي وحسام سعيد، مرشحي الحزب ضمن "القائمة الوطنية من أجل مصر"، ومحمود علي عبد الله مرجان، مرشح الحزب على المقعد الفردي، الذين أكد الدالي أنهم يدركون طبيعة المسؤولية والتحديات، وأن مرجان يتمتع بسيرة مشهودة داخل الجيزة.

طباعة شارك حزب الجبهة الوطنية كمال الدالي محافظة الجيزة المشهد الانتخابي محمد أبو العينين

مقالات مشابهة

  • بنك الخرطوم يعين، لمياء كمال ساتي رئيسًا تنفيذيًا
  • أسامة كمال ينفي اتهامات الحصار ويؤكد دعم مصر المتواصل لغزة
  • كمال الدالي بمؤتمر الجبهة الوطنية: الرئيس السيسي لم يختر الطريق السهل بل الصحيح.. والمواطن أساس برنامج الجبهة الوطنية
  • كمال الدالي بمؤتمر الجيزة: أبو العينين صوت وطني عاقل لم يتخل عن مصر يوما
  • كمال ريان: الرئيس السيسي قال ما يعجز عنه الآخرون.. ومصر تقف في الصف الأول لنصرة فلسطين
  • الاقتصاد الإبداعي لم يعد ترفا فكريّا
  • عمر كمال يقلق متابعيه برسالة: مش دايما في بكرة