الروائي الأردني جلال برجس

لم يكن للإعلان العالمي لحقوق الإنسان أن يرى النور لولا ويلات الحرب العالمية الثانية، وما خلفته على الإنسان من موت، وخسارات، وتصدعات، وانهيارات على مختلف الصعد، والذي اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة في العاشر من كانون الأول عام 1948م، وقد تعهد المجتمع الدولي آنذاك على ألا تتكرر المآسي، والفظائع، والويلات التي ارتكبت بحق البشر، وتلاها في عام 1949م الملحق الرابع لاتفاقية جنيف التي تتطرق إلى ضرورة حماية حقوق الإنسان في الحرب، من عناية بالجرحى والمرضى وأسرى الحرب، بالإضافة إلى كيفية تجنب المدنيين الموجودين في ساحة المعركة، أو في أي منطقة محتلة.

لكن المسافة بين هذا الإعلان، وتلك الاتفاقيات، وتطبيقها على أرض الواقع، بدت مسافة هائلة منذ زمن، وبدا أن السياسة والمصالح الدولية تحكمها، وتسيطر عليها، من دون أي تراجع عما يمكن أن تؤدي إليه، ضاربة بعرض الحائط كل ما يتعلق بالإنسان وحقوقه الطبيعية، وسبل عيشه بحرية، وكرامة. وقد تبدى ذلك بشكل أكثر وضوحًا، وسفورًا، وفجاجة في (قطاع غزة) الذي تعرض المدنيون الأبرياء فيه منذ الثامن من أكتوبر إلى هجمات شنها الجيش الإسرائيلي بوحشية مطلقة، تستهدف البيوت، والمواطنين العزل، بكل أشكال الأسلحة والصواريخ، من دون أي اعتبار إلى كل تلك القيم، والمواثيق، والمبادئ التي بقي العالم لردح من الزمن يصعّد إعلاميًا بضرورة الالتزام بها، لكن بدت الصورة هذه المرة أكثر بشاعة، ووحشية، وأكثر خسارة للقيم الإنسانية التي يمكن أن يقوم عليها العالم، وتستمر في مساراتها حضاريةُ الإنسان.

لقد غض العالم المتحضر الطرفَ عما يتعرض له الفلسطينيون في غزة هذه الأيام، وراح يتعامل مع ما يحدث بعيدًا عن المرجعية التاريخية في حق الإنسان ببلاده، بل إنهم أخذوا يتعاملون مع تلك الهجمة الوحشية، كحدث آني مبتور الجذور عما جرى سابقًا من احتلال وتنكيل. وفوق ذلك سعى بكل قوته عبر المنابر السياسية، والإعلامية، والثقافية، إلى التعتيم على الجانب الذي يكشف ما يرتكب بحق المدنيين في غزة، ويبتكر جانبًا مزورًا يخالف الحقيقة؛ فقد هدمت البيوت، وشرد أهلها، واستشهد الأطفال، والنساء، والعجائز، بل أبيدت عائلات بأكملها، بحيث أخذت المعطيات تشير إلى تفريغ غزة من ساكنيها بلا رحمة.

والبارحة تجاوزت الوحشيةُ إلى مستويات يصعب حتى تسميتها فيما يحدث للبشر بأن قصف مستشفى المعمداني؛ فاستشهد ما يفوق الـ 700 إنسان جلهم مرضى، وأصيب أكثر من 600 شخص تحت أعذار واهية، لا أصل لها، وانخراطًا في أبشع عمليات التصفية والإبادة. كل ذلك يحدث على مرأى من عالم لم يتوقف عن ترديد سردية حقوق الإنسان، والحرية، والعدالة، والديموقراطية، وكأن الإنسان في غزة خارج السياق البشري.

عالم ما يزال يسعى إلى الحضارية وتصعيدها من دون توقف، لكن بوعي منفصم، ومعايير مزدوجة، الأمر الذي جعل العربي منذ زمن يفقد ثقته بكل ما يطرح على الساحة العالمية من مفاهيم بدت له وهمية بما أن طرقها إليه مغلقة ولا مجال لفتحها.

لقد سقطت في غزة كل المواثيق الدولية، وتهاوى ما تبقى من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، واتفاقية جنيف، وكل ما يتعلق بالبشر من قوانين تحمي آدميته، وبات الحديث عن مفردات مثل هذه أمر يصعب تصديقه، لأن الواقع يشير إلى ما هو أفظع مما تراه الأعين؛ فقد لعبت الآلة الإعلامية العالمية دورًا لا إنسانيًا في تشويه الصورة، وقتل الحقيقة، ولوي العنق إلى مسارات في غاية التوحش.

ليس هناك من شعب عانى مثلما عانى الشعب الفلسطيني، الذي يرى في هذه المرحلة ألا حلول على وجه الأرض، إلا ما يمكن أن تأتي به السماء، إشارة قصوى إلى فقدان عميق للثقة بالسائد، رغم الأمل الذي لم يغادر قواميسهم، بل إنه من أهم الطريق إلى حقهم في العيش في بلادهم بكرامة، مثلهم مثل باقي أبناء هذه البسيطة.

لقد تجاوز الكيان الإسرائيلي المحتل كل المستويات المعروفة على مر التاريخ للتوحش، وباتت غزة على حافة إبادة جماعية؛ فهل نشهد إعلانًا عالميًا جديدًا لحقوق الإنسان في هذه المرحلة التي يحدث فيها للغزيين ما يصعب وصفه؟

المصدر: صحيفة أثير

كلمات دلالية: لحقوق الإنسان فی غزة

إقرأ أيضاً:

أعضاء بمجلس الشيوخ يدعون ترامب للتحقيق بانتهاك الاحتلال لحقوق الإنسان

حثّ اثنا عشر سيناتورا أمريكيا إدارة الرئيس دونالد ترامب على البتّ في مئات الانتهاكات المحتملة للقانون الأمريكي لحقوق الإنسان التي نُسبت إلى قوات جيش الاحتلال الإسرائيلي في حربه على غزة.

وقاد المبادرة الديمقراطيان كريس فان هولن وجاك ريد، اللذان طلبا من الرئيس مراجعة تقرير صدر في أيلول/سبتمبر الماضي عن مكتب المفتش العام في وزارة الخارجية الأمريكية.

وأفاد التقرير بأن "وحدات عسكرية إسرائيلية ارتكبت مئات عديدة من الانتهاكات المحتملة للقانون الأمريكي لحقوق الإنسان في قطاع غزة، وهي انتهاكات ستستغرق وزارة الخارجية سنوات عدّة لمراجعتها"، وقال السيناتورات في رسالتهم إلى إدارة ترامب إن التقرير "يمثل أحدث تأكيد من سلسلة تقارير مختلفة، وصفت كلٌّ منها إخفاقات في الالتزام بالقوانين والسياسات الأمريكية التي تحكم استخدام الأسلحة الأمريكية".


ونشرت صحيفة "واشنطن بوست" تقريرًا أعدّه جون هدسون كشف فيه عن نتائج سرية لمفتش وزارة الخارجية تشير إلى وجود مئات الانتهاكات التي ارتكبها جيش الاحتلال لحقوق الإنسان، والتي لا تزال بانتظار مراجعة من الحكومة الأمريكية، وقال هدسون إن عددًا من أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكيين حثّوا وزير الخارجية ماركو روبيو على التحقيق في التقرير السري.

New: Several Democratic senators are urging Marco Rubio to quickly investigate what a classified government watchdog report has described as “hundreds” of potential human rights violations allegedly committed by the Israeli military in Gaza https://t.co/umKzRTjX79 — John Hudson (@John_Hudson) November 26, 2025
وقدّم السيناتوران الديمقراطيان عن ميريلاند وجاك ريد عن رود آيلاند عريضة موجّهة إلى روبيو، حذّرا فيها من أن التأخير في التدقيق في حوادث القتل والتعذيب والإساءة في غزة يقوّض القوانين التي تحظر تقديم المساعدة الأمنية الأمريكية للوحدات العسكرية الأجنبية المتهمة بشكل مؤكد بارتكاب مثل هذه المخالفات. كما وقع تسعة أعضاء ديمقراطيين آخرين في مجلس الشيوخ على هذه العريضة. وكتب أعضاء المجلس: "من دون آليات تطبيق فعّالة، تصبح هذه القوانين والسياسات بلا معنى".

ووقع على الرسالة كل من السيناتور الديمقراطي عن أوريغون جيف ميركلي، واليزابيث وارن عن ماساشوستس، وإدوارد ماركي عن الولاية نفسها، وبيتر ويلتش عن فيرمونت، وتيم كين عن فرجينيا، وباتي مواري عن واشنطن، وتينا سميث عن مينيسوتا، وبيرني ساندرز عن فيرمونت، وبريان شاتز عن هاواي.

وأصدر مكتب المفتش العام لوزارة الخارجية التقرير السري الذي استشهد به المشرّعون، والذي وجد أن تعدد الحوادث المتعلقة بالوحدات العسكرية الإسرائيلية قد يستغرق من وزارة الخارجية سنوات لفحصها بالكامل.
 
وقال أعضاء المجلس: "في ضوء النتائج، ندعو وبشكل عاجل إلى تنفيذ توصيات مكتب المفتش العام بسرعة والبت في هذه القضايا في الوقت المناسب لضمان الامتثال للقانون الأمريكي"، وعندما سُئل مسؤول في وزارة الخارجية عن الرسالة، قال إن “الوزارة على دراية بالتزاماتها القانونية وتلتزم بها”، فيما لم يستجب جيش الاحتلال الإسرائيلي لطلب التعليق.

وفي حين أقرّ الرئيس دونالد ترامب ومبعوثه الخاص ستيف ويتكوف بحدوث خسائر بشرية ومجازر واسعة النطاق في غزة، فإن وزارة الخارجية لم تعلن بعد عدم أهلية أي وحدة إسرائيلية للحصول على المساعدة الأمريكية بموجب قوانين ليهي، التي تحظر تمويل الوحدات العسكرية الأجنبية المتهمة بشكل موثوق بارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان.

وتشمل الحوادث البارزة في غزة، والتي لا تزال بانتظار قرار أمريكي، استشهاد سبعة من عمال “وورلد سنترال كيتشن” في نيسان/أبريل 2024، واستشهاد أكثر من 100 فلسطيني وإصابة 760 آخرين كانوا متجمعين حول شاحنات إغاثة قرب مدينة غزة في شباط/فبراير 2024، وفقًا لأرقام جمعتها السلطات الصحية المحلية هناك، فضلا عن استشهاد ما يقرب من 70,000 فلسطيني على يد إسرائيل منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023.

ويشرح التقرير السري بروتوكول مراجعة انتهاكات حقوق الإنسان المشتبه بها من قبل الجيوش الأجنبية، ويشير إلى أن هذه العملية تمنح إسرائيل أفضلية على الدول الأخرى التي تواجه ادعاءات مماثلة، وقال أعضاء مجلس الشيوخ إن العملية المصممة خصيصًا "تتطلب مشاورات أكثر تعقيدًا، مما يسمح باستمرار المراجعة، ربما إلى أجل غير مسمى"، وسألوا روبيو عمّا إذا كان يحتاج إلى المزيد من الموارد لفحص تراكم الحوادث.

وبحسب تشارلز بلاها، المسؤول السابق في وزارة الخارجية والمسؤول عن المكتب المعني بتطبيق قوانين ليهي، فإن نقص الموارد ليس ما يمنع المساءلة، مضيفًا: "ما ينقصنا هو الإرادة السياسية للوقوف في وجه إسرائيل وإيجاد حل"، وفي الوقت الذي نظّم فيه قادة ديمقراطيون في مجلس الشيوخ رسالة الثلاثاء، يتعرض البيت الأبيض في المقابل لضغوط من التيار المحافظ بسبب العلاقة مع إسرائيل.


فقد انتقد ستيفن ك. بانون، مساعد ترامب السابق، ومقدم البودكاست تاكر كارلسون، مبلغ 3.8 مليار دولار الذي تقدّمه الولايات المتحدة لإسرائيل سنويًا، وتساءلا عن كيفية استفادة المصالح الأمريكية من دعم العمليات العسكرية الإسرائيلية في الضفة الغربية وغزة، وقال كارلسون مؤخرًا: “من الرائع انتقاد علاقتنا بإسرائيل والتشكيك فيها، لأنها جنونية وتضر بنا، لا نستفيد منها شيئًا”.

وكشفت مؤسسات استطلاع الرأي، بما فيها مركز بيو للأبحاث، أن المحافظين الذين تقل أعمارهم عن 50 عامًا يتزايد تشككهم في إسرائيل، وقد ارتفعت نسبة المواقف الناقدة لإسرائيل بينهم إلى 50 بالمئة بعدما كانت 35 بالمئة سابقًا، نتيجة الحرب المستمرة منذ ثلاثة أعوام.

مقالات مشابهة

  • 7 منظمات دولية تطالب بتنفيذ مذكرات الاعتقال بحق قادة إسرائيل
  • القومي لحقوق الإنسان يفتتح دورة تدريبية حول حماية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية
  • القومي لحقوق الإنسان يشارك في منتدى الأمم المتحدة حول الحقوق التجارية بجنيف
  • القومي لحقوق الإنسان يشارك بمنتدي الأمم المتحدة حول الحقوق التجارية بجنيف
  • قومي حقوق الإنسان يشارك في لقاء إقليمي بالأردن لتعزيز حقوق المرأة ومنع العنف
  • القومي لحقوق الإنسان يناقش جهود الحد من العنف القائم على النوع الإجتماعي
  • «الوطنية لحقوق الإنسان» تحتفي بعيد الاتحاد عبر فعاليات متنوعة
  • الهيئة الوطنية لحقوق الإنسان تدين التدخلات الأجنبية في شؤون القضاء اليمني
  • هل يمكن للعسل الأردني تحقيق نقلة اقتصادية رغم التحديات؟
  • أعضاء بمجلس الشيوخ يدعون ترامب للتحقيق بانتهاك الاحتلال لحقوق الإنسان