والده عاتبه بسببه.. «في الشعر الجاهلي» يحاكم طه حسين بالصحف والبرلمان
تاريخ النشر: 28th, October 2023 GMT
حياة عميد الأدب العربي كانت مليئة بالمعارك الفكرية والثقافية طوال سنوات حياته، إذ تفجرت مبكرا جدا، بعد عودته من باريس مباشرة، عبر صفحات مجلة السفور، فضلا عن «كوكب الشرق»، مشتبكا مع العديد من المفكرين والأدباء، بدأت بالرافعي، وانتهت بتوفيق الحكيم وغيرهما الكثير، غير أن معركة «في الشعر الجاهلي»، كانت الأشرس.
صدر كتاب طه حسين سنة 1926، ومما جاء فيه: «أن الأدب العربي في الخمسين سنة الأخيرة، انحدر وأصابه المسخ والتشويه بسبب مجموعة احتكرت اللغة العربية وآدابها بحكم القانون، وهذا أمر ليس خليقًا بأمة كالأمة المصرية، كانت منذ عرفها التاريخ ملجأ الأدب وموئل الحضارة، عصمت الأدب اليوناني من الضياع، وحمت الأدب العربي من سطوة العجمة وبأس الترك والتتر».. وغير ذلك الكثير من الأطروحات التي أثارت الدنيا على العميد.
ويسرد محمد حسن الزيات زوج السيدة أمينة ابنة طه حسين، بداية الأزمة في كتابه «ما بعد الأيام»، إذ يقول: ويخرج كتاب «في الشعر الجاهلي» من المطبعة، فتثور زوبعة لم يكن المؤلف يقدِّر أن تثور، فكل الجهات التي خاصمها طه حسين تهاجمه الآن لتنال منه مَقْتَلًا لم يُتَح لها من قبل، لا يتردد المهاجمون في استعمال أشد الأسلحة إيذاء لمؤلف الكتاب.
وقال طه حسين في الكتاب: «لقد أغلق أنصار القديم على أنفسهم في الأدب باب الاجتهاد، كما أغلقه الفقهاء في الفقه، والمتكلمون في الكلام، فما زال العرب ينقسمون إلى بائدة وباقية، وإلى عاربة ومستعربة، وما زال أولئك من جرهم، وهؤلاء من ولد إسماعيل، وما زال امرؤ القيس صاحبَ قصيدة (قفا نبك)، وطرفة صاحبَ (لخولة أطلال)، وعمرُ بن كلثوم (ألا هبى)، لكنني شككت في قيمة الأدب الجاهلي، وألححت في الشك، وانتهيت إلى أن الكثرة المطلقة مما نسميه أدباً جاهليا، ليست من الجاهلية في شيء، إنما هي منحولة بعد ظهور الإسلام».
ويصيف «الزيات» أن هذا الكتاب يصدر عن مؤلف هاجم الإنجليز وهاجم القصر، ولم يتحرج عن انتقاد زعيم البلاد سعد زغلول.. هذا الكتاب يظهر بعد أن نشر الشيخ علي عبد الرازق كتابه «الإسلام وأصول الحكم» الذي أسخط الملك لأنه جاء عقبة في طريق مطامعه في الخلافة، وأسخط معه رجال الدين وأثار ثائرة المحافظين ضد كل «المجددين» المتأثرين بالفكر الغربي وبطريقة الدراسة في الغرب.
ويقول إن هذا الكتاب يصدر عن محرر الصفحة الأدبية في جريدة السياسة الذي سبق أن انتقد بعنف كاتبًا كبيرًا مثل الأستاذ مصطفى صادق الرافعي، والذي هاجم كذلك كاتبًا كبيرًا آخر وهو الشيخ رشيد رضا صاحب جريدة المنار.
رشيد رضا: مؤلفات طه حسين كلها حرب على الدين والأمةويواصل: الآن يهاجمه الرافعي بكتاب يختار له عنوانًا مثيرًا وهو «تحت راية القرآن»، ويهاجمه الشيخ محمد عرفة بعنوان مثير أيضًا، وهو «نقض مطاعن في القرآن الكريم»، وتنشر مجلة المنار لصاحبها الشيخ رشيد رضا أن «مؤلفات طه حسين كلها حرب على الدين والأمة، سواء في ذلك ما كتبه عن أبي العلاء أو ما نشره بعنوان حديث الأربعاء أو ما كتبه عن الشعر الجاهلي».
ويسمع والد طه حسين بهذا فيرسل إليه رسائل قلقة يتساءل فيها عن هذا الذي يقرأ، فيرد عليه طه حسين وهو يكتم آلامه: «أبي: أنت أوصيتني ألَّا أصدق كل ما أسمع، وأنا أوصيك ألَّا تصدق كل ما تقرأ.. ولك من زوجتي ومني أطيب التمنيات».
وينتقل الهجوم من الصحف والكتب إلى مجلس النواب، ويُقدَّم اقتراح من النائب عبد الحميد البنان بأن يكلف المجلس الحكومة بثلاثة أمور:
أولًا- مصادرة وإعدام كتاب طه حسين المسمى «في الشعر الجاهلي».
ثانيًا- بتكليف النيابة العمومية برفع الدعوى على طه حسين مؤلف الكتاب لطعنه في الدين الإسلامي، دين الدولة.
ثالثًا- بإلغاء وظيفته من الجامعة.
وتدور في مجلس النواب مناقشة يشترك فيها وزير المعارف ووزير الحقانية ورئيس الوزراء عبد الخالق ثروت باشا، ويشترك فيها من جهة أخرى رئيس المجلس الزعيم سعد زغلول باشا.
وتتصاعد المناقشة حتى يقول رئيس الوزراء إنه سوف يطلب طرح الثقة بالوزارة، إذا لم يكتفِ المجلس بما فعلته الحكومة في موضوع الكتاب، وينهض النائب الوفدي عباس محمود العقاد للحديث، لا يمنعه انحيازه للوفد من الدفاع عن طه حسين، يقول: «إن اللجان التي تلا حضرة النائب بعض فقرات من قراراتها لا يمكن أن تبلغ شأن الأستاذ الذي وضع الكتاب من حيث المعرفة بالآداب العربية، ولا يمكن أن نجد بسهولة رجلًا يقوم بتدريس الأدب العربي مثلما يقوم به صاحب الكتاب ولو على درجة قريبة منه».
محاكمة طه حسين تحت قبة البرلمانويجري الاتفاق بين رئيس المجلس سعد باشا، ورئيس الوزراء عدلي باشا، على الاكتفاء بأن يقوم النائب صاحب الاقتراح بإبلاغ النيابة إن شاء.
ويستكمل المؤلف قائلا: إن طه حسين مدعوٌّ الآن إلى الصمت، إن هجوم المهاجمين لم يكن مقصورًا عليه بل كان يمتد إلى الجامعة نفسها، وهي ناشئة لم تقف على قدميها بعد، سكوت طه حسين في ذلك الوقت كان يتطلب من القوة أكثر مما يتطلبه النضال بالقلم واللسان.
ويأتي صيف 1926، ويسافر طه حسين مع أسرته كعادته، وهو يقول لزوجته: «لو أردت أن أقارن نفسي بشيء ما لقارنتها بهذه الأرض الرطبة على شاطئ النيل في صعيد مصر؛ ما إن يمسها المرء حتى يتفجر منها الماء».
ونفس طه حسين لم تمس في ذلك العام فحسب، بل أُثخنت بالطعان؛ لقد تصاعدت الصرخات بأنه جاهل، زنديق، كافر، ملحد، مفسد للشباب، من الضالِّين، من المضللين، تهم يلقيها في ذلك الوقت من لم يدرس، بل لم يقرأ كتبه في أغلب الأحيان، وهي تهم سوف يعود ليلقيها بعد وفاته من يدفعه الجهل والتطاول إلى مهاجمة الرجل وهو في قبره، ممن يغريهم البحر الزاخر بإلقاء الحجارة فيه.
ولكن رجالًا مثل عبد العزيز فهمي، مصطفى عبد الرازق، علي عبد الرازق، عبد الخالق ثروت، أحمد لطفي السيد، محمد حسين هيكل، عباس محمود العقاد، حافظ إبراهيم، دسوقي أباظة، إسماعيل صدقي، وآخرين مثل علي الشمسي باشا، الذي كان من أقرب المقربين إلى سعد زغلول، قد وقفوا إلى جانب أستاذ الأدب العربي الشاب، كما وقف إلى جانبه طلابه وقراؤه المعجبون به في كل مكان.
المصدر: الوطن
كلمات دلالية: طه حسين الهجرة الجماعية الأدب العربی طه حسین فی ذلک
إقرأ أيضاً:
الحدود وإشكاليّة دخول الكتاب
نعيش اليوم في عالم رقميّ متداخل على بعضه، وبضغطة زر يمكن أن تحصل على أيّ كتاب تريده، وبأيّ لغة شئت، وممكن أن تترجمه بسهولة؛ فلم يعد الكتاب ولا الحصول عليه ولا التّعامل مع لغته حاجزا عن المشتغل بالثّقافة والمعرفة، أو حتّى على مستوى العاشق الهاوي لها، أو لجمع الكتاب. ومع هذا الانفتاح العالميّ والرّقميّ إلّا أنّ التّفكير الوظيفيّ في الحدود يتعامل مع حامل الكتب وكأنّه قبل ثلاثين أو أربعين سنة خلت، ولا أتحدّث هنا عن التّاجر أو الموزع، لكنّي أتحدّث عن الفرد الّذي يخرج من بلده بصفة شخصيّة، ويرجع محمّلا بمجموعة من الكتب لأغراض شخصيّة وليست تجاريّة، والثّانية فيها لائحة منظمة قديما وحديثا، والّذي يدخل ضمن قانون المطبوعات والنّشر الّذي صدر قديما برقم (49) لعام 1984م، وعدّل حديثا برقم (95) لعام 2011م، ووفق المادّة (16) «لا يجوز لأحد أن يزاول مهنة استيراد أو بيع أو توزيع أو نشر مطبوعات أو إنشاء دار نشر أو دار توزيع أو مكتبة قبل الحصول على ترخيص بذلك من الجهة المختصّة بوزارة الإعلام متضمّنا البيانات اللّازمة الّتي تحدّدها اللّائحة التّنفيذيّة لهذا القانون».
ورغم ما نشرته أثير في موقعها الإلكتروني عن وزارة الإعلام بتأريخ 18 فبراير 2021م «بأنّ استيراد الكتب للاستخدام الشّخصيّ لا يحتاج إلى موافقات مُسبقة أو تصريح من الوزارة»، «وأكدت الوزارة في تنبيه لها رصدته أثير بأنّ التصريح المُسبق يسري فقط على استيراد الكتب لغرض النّشر والتّوزيع»؛ ففي الواقع اليوم نجد عكس ذلك تماما، فلي مثلا سفرات خمس أخيرة إحداها جوّا، وأربع منها برّا، ففي الجو رفضوا إدخالها، وكانت لا تصل عشرين كتابا في الأديان، وأخبرتهم أن هذه الكتب لا تصل إلى عُمان، وأحتاج إليها في اهتمامي بفلسفة الأديان، وكانت غير مكرّرة، وللاستعمال الفرديّ، لكنّهم يحتجّون بتوجيهات تمنع دخول الكتب بدون تصريح عن طريق وزارة الإعلام. وأمّا برّا فمعاناتها أشدّ؛ فقد تحتاج الانتظار لساعات في أماكن غير مهيأة للانتظار، وصلت إحداها أربع ساعات لأجل بضعة كتب، وهم يستخدمون ذات الحجّة.
الإشكاليّة أنه لا يوجد قانون منظّم - حسب علمي-، ولمّا تناقش أدنى حججهم «هناك توجيهات بعدم إدخال الكتب بدون ترخيص مسبق من جهة الإعلام»، وبعضهم يقول: إذا جاوزت خمسة عشر كتابا، وأحيانا من يعمل هناك من الجهات الشّرطيّة لا علاقة له بالكتب، لا قراءة ولا هواية، ولا يوجد مسؤول مختصّ من الإعلام يمكن أن يعالج الموضوع في حينه، وأحيانا تضطر إلى تغيير معبر الدّخول، وتجد الوضع أسهل من غيره، وقد يكون بنفس التّشديد أو أشدّ. هذا الوضع يحتاج إلى معالجة من قبل الجهات المختصّة؛ فهذا التّشديد لم أكن أعهده سابقا، وإن كان لابدّ من إفصاح عن الكتب فالمسألة ليست صعبة اليوم إذا نظّمت في الأماكن الحدوديّة وبشكل سريع، مع توفر الأجهزة الرّقميّة، ووجود عاملين مختصّين من جهة الإعلام.
وبعض حججهم - كما أسلفت - كثرة الكتب، مع أني في إحداها كنت حاملا مع أحد الإخوة أقلّ من خمسة كتب، واشتريتها من عُمان مسبقا، وحملتها معي، لكنّي تأخرت لسببها، ثمّ لا يمكن مثلا عند الذّهاب لمعارض مجاورة برّا كمعرض الشّارقة، أو أبو ظبيّ، أو الرّياض، أو الدّوحة مثلا أن تقطع هذا الطّريق وترجع بكتاب أو كتابين، وإذا كان معك من يرافقك؛ فإن قلنا كلّ واحد يشتري عشرين كتابا، ونحن أربعة فجميع ما نحمله ثمانون كتابا على الأقل. كذلك إذا ذهبت إلى معارض دوليّة كالقاهرة وتونس والرّباط وغيرها، فلا يمكن عقلا أن ترجع بكتاب أو كتابين، وأنت قطعت وقتك وجهدك للوصول إليها. كذلك من الطّبيعيّ أن تزور كتّابا ومؤلفين، فتكون حاملا من تأليفاتك لإهدائهم، ويبادلونك بإهداء كتبهم، فترجع محمّلا بالكتب؛ لهذا اضطررنا في بعض الفترات الأخيرة أن نرجعها شحنا جوّا أو بحرا أو برّا، ليس لعدم وجود مكان، بل لمنع دخولها، فهناك مشقّة لإدخالها عند الحدود -وهي كتب شخصيّة- ليست للبيع أو التّوزيع.
في السّابق كان الوضع أسهل بكثير، وكنّا نفخر بتيسير الأمر في منافذنا مقارنة بغيرها، لكن اشتدّ هذا الأمر في السّنوات الأخيرة، وليس منضبطا أو مقننا، فأحيانا تحمل كتبا عديدة، وتدخل بسهولة، ولا تسأل عنها، ولماذا حملتها، وعن ماذا تتحدّث، وأحيانا تحمل أقلّ منها بكثير، فتنظر لساعتين أو أكثر حتى يأتيك ردّ بدخولها أو عدمه، فإن كان هناك توجيه مانع فلا أقل من أن ينظّم في تطبيقه في وقت سهل التّنظيم، فلا يحتاج معرفة الكتاب المسموح به من غيره لهذا الوقت، وممكن فتح نافذة رقميّة تشعرهم مسبقا بذلك، ويكون الرّدّ سريعا. كما ينبغي أن يكون هناك تعاون خليجيّ على مستوى الأمن أو الإعلام لعلاج هذا الوضع وتقنينه.
على أنّ الحصول على الكتاب اليوم أسهل بكثير، والمعرفة أصبحت متاحة، ولا أحد يستطيع حدّها، وممكن أن تشتريه رقميّا، وتخرجه ورقيّا وأنت لا تفارق منزلك، فلا معنى من الخوف من الكتاب، وكأنّه سوف يغيّر فكر المجتمع، فلأفكار المجتمعات اقتضاءات تغيّرها وتطوّرها؛ فإن كانت معرفيّة فالمعرفة مشاعة اليوم للجميع، والتّفكير بلغة المنع دلالة ضعف، لكن التّفكير بلغة التّفاعل والتّنظيم والتّدافع عنصر قوّة، وما يطرح معرفيّا اليوم كان مرئيّا أو مسموعا أشدّ تأثيرا ممّا تبطنه هذه الكتب من معارف.