رحلة في عالم «الكفتجية».. من وحي تحف متحف الفن الإسلامي
تاريخ النشر: 8th, November 2023 GMT
يُعد متحف الفن الإسلامي أحد أكبر المتاحف المتخصصة في العالم، حيث يضم ما يزيد عن 100 ألف قطعة أثرية تخص حضارة واحدة، وتلك القطع تعبر عن تطور الفنون في فترة زومنية تزيد عن الألف عام، وتضم مختلف الفنون والعلوم، ويستطيع المتحف أن يأخذك في رحلة طويلة تبدأ من العصر الأموي وحتى عصر أسرة محمد علي باشا.
ومن نوادر متحف الفن الإسلامي التحف التي استطاع فيها الفنان أن يُظهر قدراته في فن "التكفيت"، وهو الفن الذي فيه يضيف الصانع معدنًا أرقى على معدن أدنى منه، لكي يصنع مزيجًا فريدأ ما بين القوة والمتانة، والقيمة الفنية الجمالية والمادية، حيث يستطيع من يحترف فن التكفيت والذي يُلقب بالمكفت أن يزرع خيوط الذهب والفضة فوق النحاس مما يجعل التحفة ذات قيمة عالية.
ويزخر متحف الفن الإسلامي بعدد من التحف المكفتة الرائعة الجمال إحداها تخص عائلة أو قبيلة بني رسول اليمنية، وهي عبارة عن صينية تقديم، وتشير الكتابات عليها إلى أنها صُنعت للسلطان مالك مظفر محمد شمس الدين يوسف الذي حكم اليمن بين عامي 648 – 695هـ/ 1250 -1295 هـ، وبالطبع التحفة وصلت إلى مصر قد يكون عن طريق الشراء أو الإهداء.
مشاهد متعددة
نجد أن تلك التحفة عليها زخارف رائعة تمثل مشاهد من الحياة اليومية، وزخارف حيوانية، وزخارف كتابية وزخارف نباتية، حيث نقش الفنان زهرة اللوتس الخماسية فهي شعار بني رسول الذين ينتمي إليهم السلطان مالك مظفر، حيث استطاع الفنان بدقة شديدة أن ينقش تلك الرسومات على النحاس ثم يزينها بالذهب والفضة.
والحقيقة أن فن التكفيت من الفنون الراقية والصعبة والتي تتطلب دقة واحترافية عالية، وقبلهما موهبة عميقة متمكنة، حيث يقوم الفنان الصانع برسم ما يتخيله من نقوش على النحاس أولًا، وهنا لنا وقفة، فكل ما نراه من تصاوير على الفنون الإسلامية هي من إبداع قريحة الفنان الصانع، الذي استطاع أن يبتكر أشكل لا حصر لها من الزخارف سواء نباتية أو حيوانية أو هندسية أو إنسانية.
الحفر الغائر
بعد أن يُتم الفنان الرسم يبدأ بأدواته الدقيقة مرحلة الحفر الغائر على سطح التحفة النحاسية، ويجب أن يكون النحاس جيدًا قليل الشوائب، حتى يتقبل الدق والطرق ثم الحفر، وهنا يصنع الفنان على الخطوط التي رسمها مجاري دقيقة غائرة بعمق مناسب، أصبحت أنامله الحساسة تجيدها، وتجيد تقدير عمقها اللازم.
وبعد أن يفرغ من حفر كامل الرسمة أو النقوش يبدأ في مرحلة تنزيل الذهب والفضة داخل تلك المجاري، حيث يأتي بخيوط الذهب والفضة، وتكون من عيار مرتفع حتى تتقبل أن ترقد في تلك المجاري، ولا تتسب الشوائب المرتفعة في أن تسقط من فراغاتها، ثم يدق بشكل دقيق محترف على تلك الخيوط فتندمج مع الرسومات المحفورة، ويصبح هنا المعدن مكفت بمعدن آخر.
وهنا لدينا في تلك الصينية التي تخص السلطان مالك، نموذج راق من تكفيت النحاس بالذهب والفضة، ومن أشهر الصناع الذين سجلوا أسمائهم على التحف المكفتة هو محمد بن سنقر البغدادي السنكري، حيث صنع كرسي عشاء يخص السلطان المملوكي المنصور قلاوون.
الـ "سنكري" والـ "تكفيت"
هي كلمة يعود أصلها إلى مهنة "السنكرة"، وهي تساوي كلمة "التكفيت"، حيث أن تطويع السطح بالدق والطرق يسمى "سنكرة"، ويُطلق على الصانع "سنكري".
وعن أصل كلمة التكفيت نجد ذلك في كتاب الدكتور عبد العزيز صلاح أستاذ الفنون الإسلامية بجامعة القاهرة، حيث يقول، إن كلمة «تكفيت» مشتقة من الكلمة الفارسية «كفتن»، والتي تعني الدق، وهي أصل المهنة، وكان يُلقب ممتهن التكفيت أيضًا بكلمة المُطَعِم.
وعن المثل الدارج «دا يعرف الكفت»، أوردت الدكتور شادية الدسوقي في كتابها عن الفنون العثمانية، إن هذا المثل كان يُطلق على ممتهن مهنة التكفيت، حيث صارت نادرة في العصر العثماني في مصر وهو عصر تميز بالتدهور الاقتصادي، واقتصرت التحف المكفتة على قصور الحكام وبيوت الأمراء.
ولمهارة هؤلاء الصناع صار من يحترف مهنة التكفيت مضربًا للمثل، «دا يعرف الكفت»، ويُطلق على الجمع من المكفتين كلمة «كوفتجية» وكان لهم سوقًا مشهورة في القاهرة وهي "سوق الكوفتجية".
ومفرد الكلمة كوفتجي، و"جي" هنا للملكية فصانع الكفت "كفتجي"، وصانع الأويمة "أويمجي"، وحامل البلطة السلطانية" بلطجي" وهكذا.
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: متحف الفن الإسلامي التحف اسرة محمد علي متحف الفن الإسلامی
إقرأ أيضاً:
أغلى ثوب في العالم.. الجزيرة نت داخل مجمع الملك عبد العزيز لكسوة الكعبة
مكة المكرمةـ على مقربة من أطهر بقاع الأرض في مكة المكرمة، تقف أياد بوقار وخشوع وهي تنسج خيوط الحرير الأسود وتطرزها بخيوط الذهب والفضة الخالصة، في عمل يستغرق أشهرا ويخضع لمراحل دقيقة، ليصنع "أقدس وأغلى ثوب"، إنه ثوب الكعبة المشرفة.
فداخل مجمع الملك عبد العزيز لكسوة الكعبة المشرفة، الذي أسس عام 1397هـ (1977)، تسير مراحل تصنيع الكسوة بإشراف مباشر من وزارة الحج والعمرة السعودية، لتنتقل هذه الصناعة من يد إلى يد، محاطة بالتقدير والرهبة، ولتبقى رمزا من رموز العناية بالحرمين الشريفين.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2شاهد.. أعمال يوم الترويةlist 2 of 2بين الشوق والمشقة والتوجيه.. أغاني الحج الشعبية تُوثق رحلة الروح والبدن عبر التاريخend of listويتربع المجمع على مساحة تزيد على 100 ألف متر مربع، ويضم بين جدرانه أكثر من 200 موظف وفني وإداري، يعملون في أقسام متعددة بدءا من النسيج والصباغة، ووصولا إلى الطباعة والتطريز والتركيب. ويعد هذا الصرح امتدادا لتاريخ طويل في صناعة الكسوة.
تبدأ صناعة الكسوة باختيار أجود أنواع الحرير الطبيعي المستورد خصيصا من إيطاليا، والذي يفحص بدقة قبل صباغته باللون الأسود في قسم خاص داخل المجمع، وبعد الصباغة ينتقل الحرير إلى مرحلة النسيج الآلي واليدوي، حيث تُحاك قطع القماش في نول مبرمج لإنتاج شرائط طولية تُكوّن الكسوة الكاملة.
ثم تأتي مرحلة الطباعة التي تنقل فيها الآيات القرآنية والتصاميم الزخرفية إلى القماش باستخدام تقنية "السلك سكرين"، تمهيدا لتطريزها بخيوط الذهب والفضة، وهي من أكثر المراحل دقة وتستغرق وقتا وجهدا كبيرا.
إعلانوتُطرّز كسوة الكعبة باستخدام نحو 120 كيلوغراما من الذهب والفضة، ويُستهلك في صناعتها نحو 670 كيلوغراما من الحرير الطبيعي، وتبلغ تكلفتها السنوية أكثر من 25 مليون ريال سعودي (نحو 6.7 ملايين دولار)، وذلك ما يجعلها الثوب الأغلى في العالم من حيث المواد والقيمة المعنوية والدينية.
ويؤكد مدير إدارة الإعلام في مجمع الملك عبد العزيز لكسوة الكعبة، أحمد السويهرى، أن المجمع يُعد من أبرز المعالم التي تُجسد عناية المملكة العربية السعودية بالحرمين الشريفين، مشيرا إلى أن الكعبة تكسى سنويا بأجمل الحلل منذ أكثر من 100 عام.
وقال السويهري إن تكلفة كسوة الكعبة بلغت 25 مليون ريال سعودي، تتحملها الحكومة السعودية وتغيّر الكسوة مرة واحدة كل عام، في يوم عرفة.
ووصف السويهري الكسوة بأنها تحفة فنية فريدة، تصنع من أجود المواد في العالم، تستخدم فيها خيوط الذهب والفضة المستوردة من ألمانيا، والتي تعد من أنقى الأنواع، إضافة إلى الحرير الطبيعي الخالص المستورد من إيطاليا.
وأوضح في حديث للجزيرة نت أن الكسوة تبقى طوال العام في وجه عوامل الطبيعة كالحرارة، والرياح، والأمطار، والغبار، من دون أن تتأثر أو تفقد بريقها، بفضل جودة الصناعة ودقة التنفيذ، وهو ما يُعزى إلى المواد الفاخرة المستخدمة.
وأشار إلى أن المجمع يضم 54 منسجا تدار جميعها بالأيدي الماهرة، حيث تنفذ الأعمال بدقة يدوية فائقة، بما في ذلك القناديل المطرزة على الكسوة. وأكد السويهري أن المجمع يضم 159 صانعا، وصفهم بأنهم من خيرة الصناع في العالم، لما يتمتعون به من خبرة ومهارة في نسج خيوط الذهب والفضة.
وقال السويهري إن المجمع لا يكتفي بصناعة كسوة الكعبة من الخارج فقط، بل يهتم أيضا بتجهيز الكسوة الداخلية التي تأتي باللون الأخضر، وتحمل عبارات مثل "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، و"يا ذا الجلال والإكرام"، بالإضافة إلى بعض الآيات القرآنية الكريمة، كما يتولى المجمع أيضا صناعة ستارة الحجرة النبوية في المسجد النبوي الشريف بالجودة ذاتها والاهتمام ذاته.
إعلانوختم السويهري تصريحه بقوله إن حياكة الكسوة تستغرق 10 أشهر من العمل المتواصل، استعدادا لتغييرها في كل عام.
وبعد الانتهاء من كل مراحل الحياكة والتطريز، تأتي مرحلة "إحرام الكعبة" بإنزال الكسوة القديمة ووضع الجديدة إذ تُجمع القطع الأربع (التي تغطي أضلاع الكعبة) وتربط بالستار الذهبي المعروف "بالبرقع" الذي يُثبّت على باب الكعبة.
وقبيل يوم عرفة من كل عام، وفي مشهد روحاني مهيب، تُستبدل الكسوة القديمة بالجديدة في عملية تتطلب تضافر جهود العشرات من الفنيين والتقنيين، ليشهد العالم مرة أخرى مراسم "إحرام الكعبة".
ويشكل مجمع الملك عبد العزيز لكسوة الكعبة جزءًا من الهوية الدينية والثقافية في السعودية، ويعكس اهتمامها برعاية الحرمين الشريفين وخدمة ضيوف الرحمن، كما يفتح المجمع أبوابه للزوار من مختلف دول العالم للاطلاع على مراحل هذا العمل الاستثنائي.
وبحسب مسؤولي المجمع، فإن الكسوة القديمة لا تُهمل بعد استبدالها، بل تُقصّ وتُهدى في شكل قطع صغيرة إلى الشخصيات الرسمية والمراكز الإسلامية في أنحاء العالم، في رسالة روحية ودبلوماسية.
ولا تُعد كسوة الكعبة مجرد قطعة قماش مطرزة، بل تمثل رمزية عميقة في وجدان المسلمين. إنها مرآة لروح العبادة والتوحيد، وتعبير عن وحدة الأمة حول قبلة واحدة، وفي كل خيط من خيوطها يمتزج التاريخ بالإيمان، والفن بالإتقان، ليخرج للعالم "أقدس وأغلى ثوب"، يلفّ بيت الله الحرام بخشوع وهيبة.