المقاومة الميدانية فعلت وتفعل… ما دور المقاومة المدنية؟
تاريخ النشر: 20th, November 2023 GMT
ابتدعت المقاومة الفلسطينية بقيادة حركة حماس ملحمة طوفان الأقصى، فحققت في فجأتها أعظم حدث ثوري ميداني في تاريخ العرب، وفجّرت وألهمت على مستوى العالم كله أضخم حشود ومسيرات شعبية ضد الظلم والاستبداد والهمجية الصهيونية في التاريخ المعاصر. فعلت ذلك وما زالت تفعل طوال أكثر من 45 يوماً من القتال الضاري المتواصل ليلَ نهار بلا ماء ولا غذاء ولا دواء ولا غطاء جوي، بصبر وصمود منقطعي النظير.
شاركتُ أخيراً في ندوةٍ تضامنية مع المقاومة، تناولت بالبحث ملحمةَ طوفان الأقصى، حاضراً ومستقبلاً، بكل أبعادها فوجدتُ أن المهمة الأهم والأخطر للأمة في هذه المرحلة العصيبة هي ممارسة المقاومة المدنية لدورها الرديف والحصيف في دعم المقاومة الميدانية المتصاعدة. قلتُ للمشاركين في الندوة أن الدور المركزي للمقاومة المدنية في هذه المرحلة هو تصعيد العمل الشعبي بكل أبعاده وميادينه السياسية والاقتصادية والثقافية والأممية.
في الميدان السياسي، أرى أن المهمة المحورية الأولى للمقاومة المدنية، هي تأجيج التظاهرات والاحتجاجات في كل بلاد العرب، تواصلاً وتكاملاً مع مثيلاتها في كل بلاد العالم. ولعل الفائدة المرجوة من هذه التحركات الشعبية تتحصل بالتركيز على الأجيال الشابة البعيدة عن أمراض الفساد والعصبيات الفئوية، والمترعة غالباً بمشاعر الغضب الساطع ضد أهل السلطة من ذوي الضمائر العفنة والمعطّلة والمعادية لحقوق المرأة والطفولة وذوي الحاجات الخاصة، وبالتالي إزاء ضرورة الكشف والتنديد العاجلين بالممارسات الوحشية للعدو الصهيوني في قطاع غزة وضفة فلسطين الغربية. في هذا السياق يقتضي أن يكون المطلب الأول للمتظاهرين والمحتجين الضغط على «إسرائيل» لوقف حربها الوحشية فوراً على قطاع غزة وفتح جميع المعابر لتسهيل وصول المساعدات الإنسانية، ولاسيما المستلزمات الطبية والغذاء والدواء والوقود. إلى ذلك أرى أن قيادات العمل الشعبي في بلاد العرب، ولاسيما في البُلدان المحيطة بفلسطين المحتلة، مطالَبون بتطوير عملاني للتظاهرات والاحتجاجات، فلا تبقى في معظمها، كما هي اليوم، ذات طابع احتفالي ولفظي قوامه هتافات وشعارات ويافطات في مسيرات، وخطابات في اجتماعات، بل يقتضي أن تتجاوز هذا الطابع التقليدي المحدود الفعالية إلى مقاربات عملانية كأن يقوم المتظاهرون والمحتجون بمحاصرة مقار ومنازل الحاكمين المتهاونين في صون الأمن القومي محليّاً، وفي نصرة قضية فلسطين والمقاومة الصاعدة عربياً وعالمياً، وبفضح المتواطئين والمتحالفين مع العدو الصهيوني الممعن في انتهاك حقوق الإنسان، كذلك بمحاصرة مقار ومنازل سفراء الدول المتواطئة والمتحالفة مع الكيان العنصري المحتلّ، وعدم فك الحصار عنهم، إلاّ بعد استجابة مطالب المحتجين أو قطع العلاقات الدبلوماسية مع الدول المتواطئة والمتحالفة مع العدو.
كلُ ما سبق بيانه من حصار واعتصامات يجب أن يجري ويتمّ بشكلٍ سلمي لاعنفي اقتداءً بممارسات قادة ملهمين في هذا المجال كغاندي (الهند) ومارتن لوثر كينغ (الولايات المتحدة) ومانديلا (جنوب افريقيا) القائل: «نحن لسنا أحراراً طالما فلسطين غير حرّةً». في الميدان الاقتصادي ـ الاجتماعي، أرى أن يحرص قادة العمل الشعبي في الدول العربية على إعداد قوائم بالسلع والبضائع والأجهزة المصنّعة في دولٍ وشركات متواطئة ومتعاونة مع العدو أو داعمة له مالياً، ودعوة الشعب إلى مقاطعة كل هذه المنتوجات. ولعل غالبية شعبنا تجهل أن ثمة شركات أجنبية عملاقة تنتج سلعاً وأجهزة ومواد غذائية فائقة الشهرة والرواج، وتقوم مباشرةً بتقديم دعم مالي سنوي للعدو الصهيوني، بالإضافة إلى تلك المساعدات المالية الضخمة التي تقدمها له الدول المتواطئة حاملة جنسيتها. إلى ذلك، يُستحسن أن تضع هيئات العمل الشعبي قوائم بالسلع والبضائع والأجهزة المصنّعة وطنياً ومحلياً، التي تشكّل بدائل معادلة أو متناسبة مع تلك المصنّعة في الدول المعادية والمتواطئة مع العدو الصهيوني، بذلك يؤدي قادة العمل الشعبي خدمة جلّى للاقتصاد الوطني الذي يعاني حالياً من تواطؤ بعض الحاكمين مع الشركات الأجنبية الداعمة بسخاء للعدو الصهيوني.
غير أن الخدمة الأكبر والأجدى التي بمقدور أهل الفكر والعلم والاختصاص والخبرة تقديمها إلى الأمة وفلسطين والمقاومة والاقتصاد الوطني في معظم البُلدان العربية هي كشف الدول العربية النفطية، التي يقوم زعماؤها النافذون بتسهيل توظيف فوائضها المالية الضخمة في حقولٍ ومجالات اقتصادية لدولٍ متواطئة ومتعاونة وداعمة مالياً للعدو الصهيوني. إن كشف هذه الوقائع والتجاوزات من شأنه مساعدة القوى الوطنية في الدول النفطية على ممارسة الضغوط اللازمة لإلغاء، أو في الأقل، لعدم تمديد آجال تلك التوظيفات المالية الضخمة في دول معادية، أو متواطئة أو متعاونة مع العدو الصهيوني، وإعادة توظيفها تالياً في دول عربية أو صديقة.
في الميدان الثقافي، يستطيع المثقفون، أفراداً وهيئات، وضع الدراسات والمخططات والبرامج التي من شأنها خدمة قضايا تحرير الأمة وفلسطين ودعم المقاومة وتعميق وعي الأجيال الشابة بالتحديات السياسية والأمنية التي تواجهها، كما تعميق الوعي وتشديد المطالبة بالتنسيق والتعاون بين قواها الوطنية الحيّة من جهة، ومع القوى المنادية بالحرية وحقوق الإنسان والعدالة في العالم من جهة أخرى. وفي هذا المجال، يمكن تفعيل العمل في مؤسسات المؤتمر العربي العام الذي يضمّ أحزاباً وهيئات وطلائع ناشطة في سبيل الحرية والوحدة والنهضة على مستوى الأمة كلها، كما في مختلف اقطارها. ولعل أهم ما تستطيع أطراف المؤتمر العربي العام ومؤسساته القيام به هو التواصل مع القوى والتنظيمات العاملة في سبيل الحرية والعدالة والدفاع عن حقوق الإنسان في شتى دول العالم ،من أجل عقد مؤتمر عالمي جامع يتولى فضح تواطؤ دول الغرب الأطلسي مع الكيان الصهيوني ودعمه في وجه قوى المقاومة الفلسطينية والعربية، الأمر الذي يستوجب العمل مجدداً لإعادة تثبيت واعتماد المعادلة القائلة بأن الصهيونية هي حركة مرادفة للنازية والتطهير العرقي والتمييز العنصري، وبناء جبهة أممية على مستوى العالم لمواجهة هذه الظاهرة الفاشية المناهضة لحقوق الإنسان وحق تقرير المصير.
بكلمة، ثمة تحديات جمّة وخطيرة تواجه الفلسطينيين والعرب والمكافحين من أجل الحرية والعدالة وحقوق الإنسان في العالم، ما يستوجب النهوض إلى مواجهتها محليّاً وعربياً وعالمياً بلا إبطاء وبلا هوادة.
(القدس العربي)
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الفلسطينية غزة فلسطين غزة طوفان الاقصي مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة للعدو الصهیونی مع العدو
إقرأ أيضاً:
سيادة العامل من ماركس إلى النظرية النقدية
علي بن سليمان الرواحي -
«يا عُمال العالم، اتحدوا» - البيان الشيوعي.
لم يكن هذا النداء، أو هذه الصرخة التي وجهها البيان الشيوعي عام 1848م، مجرد دعوة للعصيان، والتمرد المجاني، بل كانت دعوة واقعية للتغيير، ولاتحاد العمال من أجل الحصول على حقوقهم، من سيطرة أصحاب رؤوس الأموال البرجوازيين الجشعين، المالكين لوسائل الإنتاج، والمسيطرين على حياة وقوة العُمال، الذين لا يرون في العامل غير تسليع قوة عمله مقابل مبلغ مالي، يُراكم أرباح صاحب رأس المال ويوسعه. وبالرغم من الفترة الزمنية بين تاريخ البيان الشيوعي ومكتسباته على المستويات الاقتصادية والاجتماعية بما فيها الحقوقية، غير أن الوضع الحالي يتكرر بطريقة مشابهة، وإن لم تكن متطابقة بطبيعة الحال.
لا يحدث التغيير بشكلٍ عشوائي، بل يحدث بطرق منظمة، ولأهداف عملية واضحة. وهذا ما قام به العُمال في مناطق الثورة الصناعية آنذاك في سبيل تحسين شروط عملهم، والحصول على حقوقهم، وانتزاعها من أنياب أصحاب العمل الرأسماليين. لذلك تزامن تأسيس وإنشاء النقابات العُمالية في العالم، مع إرهاصات الثورة الصناعية، في إنجلترا 1840-1760م، وأمريكا، وبقية الدول الأوروبية، وظهور التصنيع جول العالم وانتشاره، الأمر الذي أسهم في حدوث تحولات هائلة في التاريخ البشري، وبالتحديد في الانتقال الهيكلي من المجتمعات الزراعية إلى المجتمعات الصناعية، التي تعتمد على الآلات بديلًا عن الجهد البدني التقليدي.
ارتبط تاريخ النقابات بتاريخ العمل، ومنها ظهرت وتبلورت حقوق العُمال، وذلك من خلال المقاومة، والصراع، والضغوطات العُمالية المختلفة؛ حيث بدأ تشكيل نقابة الحرف اليدوية في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1794م، والتي أعلنت عن بدايات مختلفة لحماية حقوق العُمال، وزيادة الحد الأدنى للأجور، وتقليص ساعات العمل، والإصلاحات التشريعية والقانونية للعُمال، وغيرها من الحقوق التي أصبحت مع مرور الوقت من البديهيات للعمل والعُمال. أسهمت النقابات العمالية عبر تاريخها الطويل، في التضامن والتفاوض بشكل جماعي مع صاحب العمل لحماية وتعزيز حقوق ومصالح العمال، وعدم تركه وحيدًا، يصارع مصيره المغلوب عليه بين مطرقة الرأسمالي وسندان الفقر والحاجة.
ظهر العمل بالمعنى المعاصر للمفهوم، بما يشمل ساعات العمل، عقود العمل، الحقوق والواجبات التي على العامل القيام بها، بشكلٍ تدريجي وعلى فترات زمنية متدرجة، وتحديدا في المجتمعات الصناعية الأولى، التي تبلورت، وتشكلت فيها التحولات الكبرى من عصر إقطاعي لعصر صناعي مغاير، ليس في المفاهيم والرؤى فقط، بل أيضًا في السلوك والفعل وتنظيم الوقت والحرص على حقوق العامل في وجه أصحاب رؤوس الأموال وجشعهم المتزايد المتمثل في العمل لساعات زمنية طويلة، تصل إلى 12 ساعة عمل في اليوم، بأجور متواضعة، وغير ثابتة.
ففي فصل يوم العمل من رأس المال لكارل ماركس (الترجمة العربية، ص294)، يروي لنا تاريخ هذه التحولات التي عرفها سوق العمل الحالي، وقوانينه، والقوة المادية والمعنوية التي يمثلها العامل، وذلك عن طريق الإضرابات التي قام بها العُمال، بعد تدهور صحتهم الجسدية والنفسية، جراء يوم العمل الطويل الذي يصل إلى 12 ساعة يوميًا بدون توقف، أو في أفضل الحالات بوجود استراحات ضئيلة، بدون شروط صحية جيدة. فمع صدور قانون المصانع عام 1850م في إنجلترا، والذي ينص على ساعات عمل طويلة، أصبح وضع العمال سيئًا، وحياتهم داخل المصانع وخارجها في حالة يرثى لها. تزايدت بعد ذلك الكوارث الصحية للعمال، واستغلال أصحاب المصانع لهذه القوانين، لذلك كان لا بد للعُمال من تأسيس هيئة أو مؤسسات تدافع عن حقوقهم، وتطالب بمصالحهم، لتعديل أوضاعهم المزرية والرثة كما يقول ماركس. ناهيك عن استغلال الأطفال والنساء في بيئات عمل أكثر سوءًا، وبأجور زهيدة ومتواضعة جدًا، وعدم وجود أجر إضافي في ساعات العمل الإضافية، والمناوبات المستمرة والطويلة، صباح مساء. لم تقتصر هذه الإضرابات والحركات العُمالية على دولة واحدة في تلك الفترة، حيث شملت أيرلندا، واسكوتلندا، والولايات المتحدة الأمريكية، والكثير من الدول الأوروبية في تلك الفترة. حيث لم تكن هذه الضغوطات العُمالية ممكنة بدون وعي طبيعي، وقيادات تدير هذه المفاوضات من جهة، وبدون وجود مؤسسات نقابية من الجهة الأخرى، وهي التي أصبح لاحقًا لها كيان سياسي مؤثر وفاعل، يوازن بين حقوق العامل ومصلحة صاحب العمل. الأمر الذي انسحب على الكثير من الجوانب الإدارية المختلفة في بيئة العمل، وظهور مؤسسات، وأقسام داخل المؤسسات السياسية والعُمالية لإدارة هذه العملية المعقدة، وجعلها متوازنة بين الطرفين. شمل هذا التحول الجوانب الأخرى الموازية، بما فيها التصورات البشرية عن العمل، وتنظيمه، وطرق التعامل مع الطبيعة، وتحويلها من مادة خام، لعلاقة تفاعلية معها. وبالرغم من أن العمل مرّ بمراحل زمنية كثيرة، ومختلفة، تعتمد على السياق والظروف، إلا أن الأنواع غير البشرية تؤدي مهام عملية كل يوم، كالنمل، والنحل، والطيور، وغيرها في بناء مساكن لها، وتوفير الغذاء، والتكاثر. غير أن الفارق الأساسي هنا يتمثل في القدرة البشرية على تحويل، وتغيير، الطبيعة بما يتناسب مع الأهداف والأغراض البشرية. لذلك كان لابد من توفر ثلاثة عناصر أساسية في العمل: العامل، الأداة، الموضوع أو الهدف من العمل، الذي يتحول لاحقًا إلى منُتج، له قيمة استعمالية، وقيمة تبادلية.
تشير الأدبيات المختلفة في هذا المجال، إلى أن العمل يتضمن ذلك «الجهد المتكرر والهادف الذي يقوم به الفرد في حياته اليومية بمقابل مادي»، وبهذا المعنى لا تعتبر الكثير من الأنشطة اليومية التي يزاولها المرء ضمن مفهوم العمل، بل من الممكن النظر إليها على إنها قضاء أوقات ترفيهية، أو لمزاولة هوايات معينة. كما يبرز الزمن كعامل أساسي مهم في هذا الجانب؛ حيث إن المشاريع والمهام العملية، ترتبط بفترة زمنية محددة لإنجازها، وقياسها، وتقييمها، ومدة سنوات العمل التي يقضيها المرء في عمله، ناهيك عن الساعات المحسوبة بنفس القدر. وبهذا المعنى، فالزمن أصبح سلعة، يباع ويشترى في سوق الإنجازات، ولم يعد هلاميًا، أو بدون قيمة، بل يقابله أجر، ومردود مادي للعامل، ولتحقيق أهداف المؤسسة التي يعمل بها.
تعود أهمية العمل، وسيادة العامل، في خضم الأعداد الكبيرة والمتزايدة للباحثين عن عمل، والمسرحين من أعمالهم على المستوى المحلي، وعلى المستوى العالمي ككل من جهة، وبروز الأنماط المختلفة وغير المألوفة للعمل في أنحاء العالم، من الجهة الأخرى، حيث تتزايد الأسئلة الملحة عن أهمية وسيادة العمل والعامل ليس على الصعيد الشخصي للعامل فقط، بل وتأثير ذلك على الحياة السياسية في الدولة بشكل ٍ أكبر. ومن ضمنها، وربما أهمها: ما هي العلاقة الأساسية بين الاستقرار في العمل والحصول على الحقوق، والحياة السياسية في الدولة؟ وهل تكافؤ فرص الحصول على عمل أو عدمه يُعد مؤشراً على العدالة الاجتماعية في الدولة؟
في هذا الجانب، تشير منظمة العمل الدولية في تقريرها المنشور عام 2024م، حول التشغيل والآفاق الاجتماعية في الدول العربية، إلى أن الدول العربية لم تنجح في خفض مستويات البطالة، بعد كورونا، كما يشير التقرير إلى أن إنتاجية العمالة في الدول الخليجية شهدت ركودًا بين عامي 1993-2023م، مصحوبًا بانتشار الوظائف غير المنظمة والمنخفضة الإنتاجية. الأمر الذي جعل الكثير من الأفراد -وتحديدًا في الدول الخليجية- يتجهون إلى الأعمال الحرة، وهو اتجاه تغذيه إلى حد كبير محدودية توافر فرص العمل المنظمة. بالإضافة لذلك، وبحسب التقرير فإن المرأة تعاني في الدول العربية من تهميش في الوظائف، مقارنة مع الرجل. ومع ظهور الاتجاهات الجديدة في العمل، مثل اقتصاد المنصات، من الممكن أن تساهم بطريقة غير مباشرة في تفاقم القضايا المتعلقة بالأمن الوظيفي، والأجور العادلة، وساعات العمل، والحصول على مصدر للدخل لدى الأجيال الجديدة.
فالعمل لم يعد نشاطًا ثانويًا في حياة الإنسان، كما لم يصبح موضوعًا هامشيًا في النظرية الاجتماعية والسياسية، بل أصبح من المواضيع المركزية في الحياة المعاصرة، ليس في حياة الفرد فقط، بل وفي مسار الدول والمجتمعات على حدٍ سواء. حيث يستهلك العمل معظم حياة الفرد، إن لم يكن الجزء الأكبر منها، وينقسم ذلك على مستويات مباشرة، مثل ساعات العمل، أو في الأوقات التي يقضيها الفرد للوصول إلى العمل، وتهيئة مهاراته العملية، أو غير مباشرة كالعلاقات الاجتماعية والالتزامات الكثيرة المختلفة التي يبذلها للارتقاء بمستواه ومكانته العملية والوظيفية.
ففي هذا السياق، لا يقتصر العمل أو الشغل كما يُستخدم في الكثير من البلدان العربية، على الدخل المالي، بالرغم من مركزية وأهمية هذا الجانب، بل كان في مرحلة من مراحله ولا يزال عاملًا من عوامل الاستقلالية الفردية وبشكل خاص للمرأة ولبعض الطبقات والأعراق التي عانت لفترة طويلة من الكثير من المظالم والاضطهاد والاستعباد،
كما كان يُنظر للعمل على أنه المحرك الأساسي في التغيير الناعم للكثير من المجتمعات، وعاملًا من عوامل الإنتاجية التي يقاس بها تقدم الشعوب من عدمها. فالعمل بهذا المعنى تتقاسمه رغبات مختلفة: جمع المال، الوصول للمناصب، الوجاهة الاجتماعية، تغيير النمط الفكري للمجتمع. لذلك يرى جان لوكاسين في كتابه: قصة العمل: تاريخ جديد للبشرية، 2021، بأننا نعمل ليس لأننا مضطرون لذلك، ولكن أيضًا لأننا نحب ذلك: فمن أزمنة الصيد وجمع الثمار منذ أكثر من الآلاف السنين إلى العصر الحالي حتى العمل عن بُعد، عمل البشر دائمًا على جعل العالم من حولهم يخدم احتياجاتهم. يساهم العمل في الانضباط وتقدير قيمة الوقت والتركيز على القيمة الإنتاجية، كما يساهم في الجانب الآخر، في وضع تراتبية عميقة، ونشوء مظالم كثيرة، واستغلال غير منصف للكثير من الفئات البشرية العاملة.
النظرية النقدية وسيادة العامل
في كتابه الصادر حديثًا بعنوان «سيادة العامل: نظرية معيارية للعمل» Der arbeitende Souverän Eine normative Theorie der Arbeit، 2024م، يناقش الفيلسوف الألماني أكسل هُنيث مفهوم العمل في ضوء النظرية النقدية، ويتطرق لأعمال هيجل، وماركس، والتحولات المفاهيمية، وليست الواقعية فقط، التي طرأت على هذا المفهوم، وعلاقته كمفهوم سيادي، وليس كنشاط ثانوي في حياة البشر؛ حيث يذهب إلى أنه «نقطة عمياء» في النظرية السياسية، التي لم تهتم به بشكل ٍ كبير، ومفصل. لذلك تعود النظرية النقدية لوضعه ضمن المشاغل الرئيسية التي تؤثر بدورها على الحياة السياسية، والديمقراطية بشكل ٍ عام.
يُحدد هُنيث سلسلة من الأبعاد التي يُمكن من خلالها تقييم علاقات العمل في الحياة الواقعية، وبشكل ٍ خاص علاقتها بالديمقراطية، حيث يُجادل بأن الحياة العملية تحتاج إلى (1) ضمان الاستقلال الاقتصادي؛ (2) إتاحة وقت فراغ كافٍ للنشاط السياسي؛ (3) المساعدة في ضمان قدر من احترام الذات وتقديرها؛ (4) توفير بيئة عملية لممارسة الديمقراطية والمساعدة في توفير المهارات اللازمة لها؛ و(5) تضمين مجموعة متنوعة كافية من الأنشطة لتجنب الإرهاق النفسي.
الفكرة الأساسية في هذا العمل، هي أن الديمقراطية يجب أن تكون راسخة وأن المجتمعات الديمقراطية يجب أن تفهم حكوماتها كوكالات مفوضة من قبل الشعوب، لضمان استمرار الظروف الداخلية والخارجية المقبولة علناً. وهكذا فإن ركائز الديمقراطية، أي أولئك الذين نسميهم السادة، هم كل من يتأثر بقرارات مجتمع سياسي أصبح غامضا ً بشكل متزايد، والقلق هنا يتعلق بالاندماج في هذا المجتمع الديمقراطي.
كما يركز هذا العمل بالإضافة لذلك، في الحد من سيطرة القطاع الخاص على سوق العمل، وهذا يعني إعادة تصميم سوق العمل لخلق ظروف عمل أكثر تعاونية، وكلما أمكن، تصميم الوظائف على النحو الذي يجعلها لا تتكون من أنشطة ممكنة التحقيق. وهي تفترض جميعها الحد من سيطرة أصحاب القطاع الخاص، وتفويض الهيئات العامة بدلاً من أصحاب رؤوس المال لتحديد شروط العمل. والهدف هو تمكين أكبر قدر ممكن من مشاركة العمال، بدلا من خلق شعارات فارغة تعلن عن تقرير المصير. وأصبح في هذه الأيام، من الشائع جداً أن تفهم النقابات المشاركة من خلال امتلاك موظفيها حق التصويت في القرارات الأساسية التي تتخذها المجالس الإشرافية. وعلى العكس من ذلك، يرى هُنيث أن المشاركة لكي تكون ذات معنى يجب أن تبدأ على أدنى مستوى ممكن، والذي سيكون على مستوى ما كان يسمى «مجموعات العمل شبه المستقلة»، بحيث يجب على المجموعة الموجودة في مكان العمل أن تقرر كيفية العمل معا، وما هو أفضل شكل لتقسيم العمل؟ وأفضل طريقة لتنظيم الوقت؟ وما إلى ذلك.
علي بن سليمان الرواحي باحث ومترجم في القضايا الفلسفية المعاصرة