لم يكن المشاركون الرئيسيون في معرض دبي للطيران في حاجة إلى الكثير من إجراءات النقل أو التخزين للطائرات والمعدات والتقنيات التي عُرضت. فثمة موعدان مهمّان آخران لصناعة الطيران والسلاح في أبوظبي، أحدهما يسبق معرض دبي هو إيدكس-نافيدكس في ربيع 2023 والآخر معرض أبوظبي للطيران في خريف 2024. الإمارات على موعد أو موعدين سنوياً مع معارض الطيران والسلاح.
القراءة التجارية لهذه المعارض مهمة وضرورية. العالم يتجمّع في معارض دولة الإمارات ليبيع ويشتري الطائرات والسلاح. هذه شهادة لأهمية الدولة على خارطة التجارة العالمية، ليس فقط كزبون، ولكن كملتقى موثوق للآخرين يعقدون في معارضها صفقاتهم الكبرى والأهم.
لكن القراءة التجارية لم تعد تكفي لتفسير هذه الأحداث والمناسبات المرتبطة بالإمارات. فالعالم تغير منذ اندلاع حرب أوكرانيا عام 2022، وسيتغير أكثر مع استمرار الحرب في غزة. لم تعد معارض الإمارات جذابة تجاريا فقط، بل صار الأمر يرتبط بالمدى الذي بلغته استقلالية القرار السياسي الإماراتي، وانعكاس هذه الاستقلالية على الكثير من أوجه العلاقات السياسية والاقتصادية عالميا.
كانت زيارة رئيس دولة الإمارات الشيخ محمد بن زايد آل نهيان إلى معرض دبي للطيران تحمل الكثير من الرسائل للعالم والإقليم. تجول الشيخ محمد بن زايد ونائبه الشيخ منصور بن زايد بين أجنحة الشركات المشاركة. كان لافتا حضور شركات الطيران والسلاح الروسية جنباً إلى جنب مع شركات الطيران والسلاح الأمريكية. الغرب، بقيادة الولايات المتحدة، يشتبك من خلال الجيش الأوكراني بحرب مع روسيا. راجمات صواريخ هيمارس الأمريكية، التي تركت أثراً بالغاً على الدفاعات الروسية في أوكرانيا، تعرض ليس بعيدا عن منصات العرض الروسية. فريق الفرسان الروسي للاستعراضات الجوية يحلق بطائرات سوخوي أس يو–35، ثم يأتي دور المقاتلة الأمريكية الشبح أف–35 لايتنينغ في الاستعراض. لم تكن مشاركة شركات السلاح الصينية بأقل أهمية. منذ بداية المعرض، حلقت مقاتلات جي–10 الصينية أسوة بالمقاتلات الأمريكية والغربية. وفي عالم يشهد انقلاباً بطرق الحرب، كانت الأعين على المسيّرات الصينية.
عندما ترى هذه الشركات والأسلحة وهي تتنافس في المعرض على اجتذاب الاهتمام والمشترين، يمكن أن تقول إنه معرض على أرض محايدة. لكن عندما تراجع وتجد أن أعداداً مهمة من الشركات الروسية المشاركة على قائمة العقوبات الأمريكية، وأن حربا لا تزال مشتعلة في أوروبا، لا يعود الأمر قضية حياد، بل إرادة سياسية تستطيع أن تجمع هؤلاء الأعداء في مكان واحد.
في مراحل مبكّرة من إرساء ملامح السياسة الإماراتية المستقلة، كانت القراءة تذهب إلى أن الإمارات تنوع في علاقاتها وتسليحها وتجارتها. بلد ثري ومحوري في المنطقة واجه إحباطات مختلفة في علاقته مع الولايات المتحدة، يجد أن من اللازم اللجوء إلى التنويع والانفتاح على الآخرين. الخيار الفرنسي كان حاضرا، لكن القيادة في الإمارات لم تحصر خياراتها بالغرب ولا بالسلاح، بل ذهبت بعيدا في تعزيز علاقاتها مع القوى العالمية الصاعدة، الصين والهند وكوريا الجنوبية، ونسقت سياسياً واقتصادياً، خصوصا في مجال إنتاج النفط، مع روسيا. تنويع الخيارات بدأ قبل عقد وأكثر، فمحطات الطاقة النووية التي أنشأتها الشركات الكورية في الإمارات، على سبيل المثال، دخلت الخدمة منذ أكثر من سنة. والشراكات الإنتاجية الحربية مع روسيا والصين سبقت اندلاع حرب اليمن.
لهذا يصبح من الضروري إعادة قراءة السياسة الإماراتية وعدم حصرها بفكرة الانفتاح على الآخرين والبحث عن البدائل. عالم اليوم هو عالم يعيد رسم خرائطه الجيوسياسية. فكرة النفوذ الغربي المطلق التي تشكلت بعد انهيار جدار برلين، وانتهاء الحرب الباردة لم تعد قادرة على الصمود. حرب أوكرانيا في وجه من أوجهها هي تمرد روسي على القالب الذي قرّر الغرب وضع موسكو فيه. الاحتكاكات بين الصين وتايوان ليست جديدة، لكنها تأخذ الآن بعدا آخر في وجه منه الاستعداء الأمريكي للصين وإطلاق واشنطن سياسة احتواء بكين آسيوياً وعالمياً، ووجه آخر هو تغير نظرة الصين لدورها في العالم. ثمة صعود لقوى إقليمية بمعطيات سياسية مثل إيران أو سياسية اقتصادية مثل تركيا أو كقوى عالمية متعددة الحضور السياسي والاقتصادي والبشري والثقافي مثل الهند، وإندونيسيا، وكوريا الجنوبية. ذهب زمان السماح لصعود بلد مثل اليابان اقتصادياً، من دون أثر يذكر سياسياً أو ثقافياً. العالم متعدد الأقطاب حقيقة، والإمارات ترى نفسها جزءاً من هذا العالم بحصة مستقلة فيه.
هذا الإحساس بالاستقلال في الموقف والقرار، تتلمّسه دول على خلاف متصاعد مع الولايات المتحدة. من الصعب تخيّل أن تعود المقاتلات الروسية للاستعراض في معارض الطيران في الغرب في وقت قريب. وستجد الكثير من الشركات الصينية صعوبات متزايدة في حضور المناسبات التجارية الأمريكية. هذا يجعل الإمارات، بمعارضها البعيدة عن الاستقطابات السياسية، أماكن مثالية للمنتجات والمعدات الروسية والصينية. موسكو وبكين من ينفتح الآن على أبوظبي ودبي. كل التعليقات الغربية عن المال الروسي، والمنتجات الصينية ذوت أمام انعدام التجاوب الإماراتي. الضغوط الغربية، طالما لم ترتبط بقرارات أممية، لا تلزم الإمارات بأيّ شيء.
ثم هناك البعد السعودي. فلسنوات، حرصت أبوظبي على تبني سياسة التوافق السياسي شبه التام مع الرياض. واجه البلدان فوضى الربيع العربي، وطموحات الإخوان، وإيران معاً، وقاتلا من خندق واحد في اليمن. العلاقة الخاصة بين البلدين بلغت مديات مهمة من التنسيق، وصعد بوجودهما معا محور الاعتدال ليصبح المحور الأهم في المنطقة. لكنّ العامين الماضيين شهدا خياراً سعودياً متزايداً في التراجع عن العلاقة الخاصة نحو علاقة أخوّة وتفاهم بعيدة عن التقاطعات لكنها ليست بصيغة التحالف التي كانت سائدة لسنوات. وسواء كانت المسببات مرتبطة بمسيرة حرب اليمن، أو بضغوط تعرضت لها السعودية من قوى إقليمية مثل قطر وتركيا وإيران، فإن الود بقي قائما لكن المسارات صارت منفصلة.
لا يبدو أن هذه المسارات المنفصلة أثارت تحفظا إماراتيا محسوسا. تعاملت أبوظبي ودبي مع طموحات الرياض في أن تصبح مركزا إقليميا للنشاط الاقتصادي بأريحية. من يريد أن يبقي مقر شركته في الإمارات، سواء أطلق على المقر مسمّى المقر الإقليمي أم لم يفعل، أهلا به. من يريد المغادرة، فهذا خياره. الشركات من يقرر من دون ضغوط. سياسياً، كان للإمارات مسارها في “تصفير المشاكل” وكان للسعودية مسار. سارعت الرياض في خطى المصالحة مع الدوحة، في حين تريثت أبوظبي. بادرت الإمارات بقيادة ملف الاتفاق الإبراهيمي، في حين كانت السعودية تسعى لصفقة علاقات وحماية أوسع مع الولايات المتحدة ثمنا للتطبيع مع إسرائيل. تشابه مساراً المصالحة مع تركيا وإيران دون أن يكونا ببادرة مشتركة.
لعل ما يميّز الاستقلالية الإماراتية هو إدراك عميق بأن استقلالية القرار وحجز موقع في عالم متعدد الأقطاب لا يعنيان مواقف انعزالية لا تراعي حقيقة أن البلد جزء من نسيج إقليمي ودولي واسع، بكل معطياته ومشاكله. لا شك أن للإمارات أولوياتها الذاتية، لكنها أولويات يجب أن تكون متناغمة مع واقع سياسي واقتصادي وثقافي إقليمي ودولي. الموقع في عالم متعدد القطبية أول ما يلزمه هو الابتعاد عن العزف النشاز.
فهم المشاركون في معرض دبي للطيران رسائل المعرض السياسية والاقتصادية. الشركات الروسية والصينية والأمريكية تعرض جنبا إلى جنب، وشركات الطيران السعودية توقّع صفقاتها لشراء الطائرات في المعرض وليس في الرياض. الإمارات بلد القرار المستقل وبلد الخيارات الأريحية.
المصدر: موقع 24
كلمات دلالية: التغير المناخي محاكمة ترامب أحداث السودان سلطان النيادي مانشستر سيتي غزة وإسرائيل الحرب الأوكرانية عام الاستدامة دبي معرض دبي للطيران الولایات المتحدة معرض دبی للطیران الکثیر من
إقرأ أيضاً:
مصر للطيران تعزز شراكتها مع «رولز رويس» الإنجليزية
قام الطيار أحمد عادل، رئيس الشركة القابضة لمصر للطيران، بزيارة رسمية إلى مقر شركة رولز رويس العالمية بمدينة دربي بالمملكة المتحدة، يرافقه المهندس إبراهيم فتحي رئيس شركة مصر للطيران للصيانة والأعمال الفنية، أحمد مرعي رئيس قطاع التخطيط بالشركة القابضة لمصر للطيران، حيث شملت الزيارة جولة تفقدية داخل المصنع الرئيسي لشركة رولز رويس، بالإضافة إلى مراكز البحث والتطوير المتخصصة في تكنولوجيا المحركات، حيث تم الاطلاع على أحدث الابتكارات والتقنيات المستخدمة في صناعة محركات الطائرات.
وكان في استقبالهم وفد من شركة رولز رويس ضم، «إوين ماكدونالد نائب رئيس شركة رولز رويس لخدمة العملاء، والمهندس عمر علي أديب نائب الرئيس الأول لمنطقة الشرق الأوسط وأفريقيا، والمهندس جورج أبو نصر المدير التنفيذي لخدمة العملاء في أفريقيا، أندرو رولينج، كبير مهندسي محرك XWB.
كما عقد الطيار أحمد عادل اجتماعات ثنائية مع كبار المسؤولين في شركة رولز رويس تناولت سبل تعزيز التعاون في الموضوعات ذات الاهتمام المشترك في مجالات صيانة وإصلاح وتحديث محركات الطائرات، والاطلاع على أحدث المستجدات والتقنيات المستخدمة في مجال صناعة وصيانة محركات الطائرات، خاصةً تلك التي تعمل بها طائرات أسطول مصر للطيران، وكذلك استكشاف مجالات جديدة للتعاون المستقبلي في ضوء خطة تحديث الأسطول.
خلال الزيارة، تم استعراض أخر التطورات الحالية والمستقبلية المتعلقة بمحركات «رولز رويس» من طراز Trent 700، المشغلة لعدد «11» طائرة من طراز Airbus A330، وكذلك محركات Trent 1000، المشغلة لعدد «8» طائرات من طراز Boeing 787-9 Dreamliner.
كما شملت المناقشات أخر المستجدات الخاصة بتزويد 16 طائرة من طراز Airbus A350 بمحركات XWB وهى من أحدث محركات «رولز رويس» من طراز Trent XWB، والتي تتميز بكفاءتها العالية وانخفاض استهلاكها للوقود، حيث من المخطط انضمام أول طائرة من هذا الطراز «Airbus 350» خلال شهر ديسمبر 2025.
كمــا قدم فريق «رولز رويس» عرضًا تقديميًا شاملاً استعرض خلاله أحدث الابتكارات التقنية التي تبنتها الشركة، مع التركيز على مجالات الصيانة والتحول الرقمي لأنظمة التشغيل، بالإضافة إلى سبل تحسين كفاءة الأداء التشغيلي وتقليل الانبعاثات الكربونية، كما سلط العرض الضوء على الحلول الذكية التي تسهم في تعزيز الاستدامة ودعم مستقبل أكثر بيئيًا في قطاع الطيران.
وعلى صعيد متصل، أثنى الطيار أحمد عادل على هذه الزيارة المثمرة للاطلاع عن قرب على أحدث ما توصلت إليه شركة رولز رويس من تقنيات متقدمة في كفاءة المحركات، وخطط التحول الرقمي وسبل تحسين الأداء البيئي وأضاف أننا نعتز بعلاقتنا الممتدة مع رواد صناعة المحركات عالميًا، وعلى رأسهم شركة رولز رويس والتي بدأت منذ عام 2004 واستمرت لأكثر من عشرين عامًا من التعاون المثمر في تشغيل وصيانة محركات أسطول الناقل الوطني مصر للطيران من طرازات A330 وB787، ونحن نخطو بثبات نحو تحديث أسطول الشركة وزيادة قدرته التشغيلية، فإننا نعتبر شركة رولز رويس شريكاً استراتيجيًا رئيسيًا في هذه الخطة.
وأضاف، ونُرحب بتوسيع هذه الشراكة في ضوء الاستراتيجية التي تنفذها مصر للطيران لتشمل محركات XWB المخصصة لطائرات A350 الجديدة والتي يصل عددها إلي 16 طائرة من هذا الطراز، وأضاف عادل أن مستقبل صناعة النقل الجوي يعتمد بشكل متزايد على التحديث المستمر ومواكبة التكنولوجيا في هذه الصناعة مشيرًا إلى أن التعاون بين الجانبين يعكس التزام مصر للطيران بتبني أحدث التكنولوجيا لضمان أعلى مستويات الأداء والسلامة والاستدامة.
اقرأ أيضاًمصر للطيران تنظم ورشة عمل لـ تطوير خدمات ذوي الهمم
أكاديمية مصر للطيران للتدريب تنجح في تجديد إعتماد المعهد القومي للجودة
شراكة استراتيجية بين مصر للطيران و«ترو» لإتاحة خطط تقسيط مرنة على تذاكر السفر