غزة وناميبيا: متوازيات من تاريخ الإبادة
تاريخ النشر: 25th, November 2023 GMT
لم يسبق لأي من حروب إسرائيل العدوانية أن أثارت في المجلات الفكرية الغربية تفكيرا أعمق وجدلا أجرأ مما يثيره العدوان الهمجي المستمر على شعب غزة. بل إن هذه الجرأة الجديدة في التفكير والتعبير قد شملت بعض أهم الصحف الغربية الجادة التي عادة ما تطيل التفكير والتقدير قبل أن تنشر أي جملة قد يشتمّ منها عدم التضامن الكافي مع دولة إسرائيل أو عدم التوقير اللازم للوبيات الصهيونية ذات السطوة الرادعة.
من ذلك أن الـ«نيويورك تايمز» فتحت صفحات الرأي، طيلة الأسابيع الماضية، لعدد لافت من الكتاب الفلسطينيين والعرب الذين خاطب معظمهم الأمريكان بما يفهمون، فعرضوا وقائع المظلمة الكبرى وشرحوا حيثيات الحق العربي بفطنة ولباقة وحس إنساني رفيع. كما أن لوموند تجرأت على القول في افتتاحية بعنوان «ينبغي لتدمير غزة أن يتوقف»: إن الحقيقة التي يراها الجميع هو أن فلسطينيّي غزة لا يحسب لهم أي حساب. فلا قيمة لحياتهم في أعين إسرائيل ولا في أعين حلفائها الغربيين الذين يرون أن تعريض مصير مليوني فلسطيني لغوائل التقتيل و«التشريد التراجيدي» بما يعيد للأذهان نكبة 1948، إنما هو ثمن مقبول طالما أن الغاية هي القضاء على حماس.
ومن أبرز ما لفت انتباهي، ضمن كثير من المقالات الشجاعة في المجلات الفكرية، مقال لعالم الأنثروبولوجيا ديديه فاسن يقول في توطئته إن القضاء على حماس، الذي يعدّه معظم الخبراء هدفا غير واقعي، قد تجسم فعليا في مذبحة للمدنيين الغزاويين يخيم عليها شبح الإبادة. ثم يقول رأسا في مستهل المقال: «في بداية عام 1904 انتفض أهالي الهيريرو في مستعمرة جنوب غرب إفريقيا (ناميبيا) الألمانية، فقتلوا أكثر من مائة من المستعمرين في هجوم مباغت». وبعد ذلك يقيم فاسن مقارنة بين هذا الهجوم الذي قلما يتذكره أحد وبين هجوم حماس في 7 أكتوبر.
الحقيقة التي يراها الجميع هو أن فلسطينيّي غزة لا يحسب لهم أي حساب. فلا قيمة لحياتهم في أعين إسرائيل ولا في أعين حلفائها الغربيين
وكان الألمان الذين استعمروا ناميبيا عام 1884 قد سلبوا الهيريرو أراضيهم واتخذوهم عبيدا. أما هجوم 1904 فقد ردوا عليه بأن أبادوا ثلاثة أرباع شعب الهيريرو! وقد رأى المؤرخون في جريمة الإبادة هذه تمرينا تحضيريا (بروفة) لجريمة الإبادة الكبرى التي مثلها الهولوكوست. أما فاسن فإنه يرى «تشابهات مقلقة» بين ما حدث في ناميبيا وبين ما يحدث حاليا في غزة: إذ مثلما أن المستعمرين الألمان في جنوب غرب إفريقيا اقترفوا أول جريمة إبادة في القرن العشرين، فإن الإسرائيليين آخذون في ارتكاب أول جريمة إبادة في القرن الحادي والعشرين. وقد ردت الباحثة الاجتماعية الفرنسية-الإسرائيلية إيفا اللوز على فاسن، معتبرة أن مقاله مثال على المواقف اللاّسامية التي تتخفى خلف قناع مناهضة الصهيونية، منكرة على اليهود ما تمنحه لكل شعب آخر. وتبدأ اللوز بانتقاد عبارة «التشابهات المقلقة» فتذكّر بأن العلوم الاجتماعية تأسست تحديدا حول المشكلة الإبستمولوجية المتمثلة في التشابه.
حيث إن غابريال طارد استنتج أن العلم لا يستطيع تجاوز مشكلة التعقيد والعشوائية إلا بتحديد التشابهات في صلب الاختلافات. ولهذا انتقد أميل دوركهايم المؤرخين الذين لا يتمكنون من تجاوز تعددية الأحداث التي يبدو كل منها في الظاهر فريدا. ذلك أن العلوم الاجتماعية لا تكون علوما أصيلة بحق إلا إذا تمكنت من استخراج عناصر التواتر، أي التشابهات بين أحداث يكون في ظاهرها اختلاف.
وتنتقد اللوز قلة عدد الحالات والظاهرات التي ينطلق منها فاسن، وتتهمه بتعمّد بناء موازاة بين حالتين فريدتين. وحكمها أنه لا يصدر عن المقارنة، بما هي منهج معرفي حديث، بل عن المقارنة بما هي مجرد وجه قديم من وجوه البلاغة.
وقد رد فاسن على اللوز بأن ما توخاه هو محاولة فهم ما يقع في فلسطين باستخلاص العبر الكفيلة بوقف المذبحة المستمرة في غزة، في ظل رفض جميع الحكومات الغربية المطالبة بوقف إطلاق النار. وشرح أنه عقد لهذا الغرض علاقة تواز مع أحداث وقعت في ناميبيا أوائل القرن العشرين، وأنه لم يقصد انتهاج المقارنيّة، أي التقريب الممنهج بين حالتين، على غرار ما فعل آخرون عندما تساءلوا إن كان يجدر المماثلة بين الوضع في الأراضي الفلسطينية ووضع الأبارتهايد في جنوب إفريقيا. وأضاف أنه إنما استخدم ما سماه المؤرخ بول فان بـ«المقارنة التأويلية» التي تستخدم حالة تاريخية لإضاءة أخرى. أي أن الأمر لا يتعلق بالمساواة والمماهاة بين الحالتين، بل بالاستنارة بالأولى في تأويل الثانية.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه إسرائيل غزة الفلسطينيين الإبادة إسرائيل فلسطين غزة الإبادة مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة مقالات سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة فی أعین
إقرأ أيضاً:
اتهامات لبنك فرنسا المركزي بالتواطؤ في إبادة التوتسي في رواندا
قدّم كلّ من دافـروزا وآلان غوتييه، المعروفين بملاحقتهما للمسؤولين عن الإبادة الجماعية في رواندا على الأراضي الفرنسية، و"الائتلاف المدني لرواندا" شكوى جديدة أمام قضاة مكافحة الجرائم ضد الإنسانية في باريس تتهم بنك فرنسا بـ"التواطؤ في الإبادة الجماعية وجرائم ضد الإنسانية"، بعد 31 عاما على إبادة التوتسي.
وبحسب المعلومات التي جمعتها صحيفة ليبراسيون الفرنسية ووحدة التحقيقات في إذاعة فرنسا، فإن شكوى جديدة قدمت في 4 ديسمبر/كانون الأول الحالي إلى كبير قضاة التحقيق في قسم الجرائم ضد الإنسانية بمحكمة باريس، تستهدف هذه الشكوى المؤسسة المالية الرئيسية في البلاد: بنك فرنسا المركزي.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2وثيقة سرية أميركية: الصين قد تدمر القوات الأميركية في أي حرب على تايوانlist 2 of 2صحف عالمية: غزة تتعرض لوصاية استعمارية غير قانونية بقيادة ترامبend of listوترتكز الشكوى على 7 تحويلات مالية صادرة عن حساب البنك الوطني الرواندي في بنك فرنسا بين مايو/أيار وأغسطس/آب 1994 بقيمة 3.17 ملايين فرنك فرنسي أي نحو (486 ألف يورو)، ويُشتبه في أنها استُخدمت لشراء معدات اتصالات وأسلحة رغم حظر الأمم المتحدة الذي فرض اعتبارا من 17 مايو/أيار 1994.
التحقيق يعتمد على شهادة الخبيرة الدولية كاثي لين أوستن التي أكدت أن «تعليمات دقيقة» وُجهت للبنوك لتحويل الأموال إلى حساب البنك الوطني الرواندي في باريس، مضيفة:
"عندما سهّل البنك المركزي الفرنسي (Banque de France) هذه المعاملات السبع… كان يفترض أن تثير شكوكا لديه بشأنها".
كما شددت على أن التغطية الإعلامية الواسعة للإبادة وهيمنة حكومة انتقالية غير دستورية على الحسابات العامة كانتا كافيتين لجعل تلك التحويلات "مشبوهة أو غير قانونية".
وقد رد بنك فرنسا بأنه لا أثر في أرشيفه لأي من هذه التحويلات، موضحا أن الوثائق تُتلف بعد 10 سنوات، وأن مبالغ التحويلات "قد تكون متسقة مع نفقات تشغيل"، أمّا آلان غوتييه فانتقد "البطء الشديد في القضايا المرتبطة بالإبادة"، ملمحا إلى أن قضايا مشابهة، مثل الشكوى ضد "بي إن بي باريباس" (BNP Paribas) عام 2017 "نائمة في الأدراج"، وتشير مارياما كيتا، المقرّبة من فرانسوا كزافييه فيرشاف، إلى أنها تواصل الوفاء بـ"الوعد الذي قطعته" بالتحقيق في دور بنوك فرنسية أخرى.
إعلانيشار إلى أن فيرشاف هو من كشف مخالفات ما يعرف بـ"فرانس أفريك" وأحد أوائل من سلطوا الضوء على مسؤولية فرنسا وبعض بنوكها في الإبادة الجماعية في رواندا.
وكانت رواندا قد شهدت مجازر مروعة بدأت في أبريل/نيسان 1994 بعد إسقاط طائرة الرئيس هابياريمانا، حيث نفذت مليشيات الهوتو المتطرفة حملة قتل منهجية ضد أقلية التوتسي ومعارضين هوتو، مما أدى إلى مقتل نحو 800 ألف شخص خلال 100 يوم.
وتؤكد تغطية الجزيرة أن المجتمع الدولي تأخر في التدخل، وأن شبكات تمويل وتسليح محلية وخارجية سهّلت استمرار عمليات القتل، مما جعل مساءلة الأطراف الضالعة -بما فيها مؤسسات مالية- جزءا مركزيا من معارك العدالة اللاحقة.