محكمة تصدر حكماً بملايين الدولارات لصالح مواطن يمني شغلت قضيته الرأي العام
تاريخ النشر: 26th, November 2023 GMT
محكمة تصدر حكماً بملايين الدولارات لصالح مواطن يمني شغلت قضيته الرأي العام.
المصدر: المشهد اليمني
إقرأ أيضاً:
لا يُنقض الرأي بالإلغاء
تحمل التعددية في الآراء في المجتمع الواحد قيمة حضارية تؤثر في تطور المجتمعات، حيث إنها تنشأ على التدافع الفكري الذي يصل بها في مرحلة ما إلى فكرة أفضل ثم تتدافع مع أفكار أخرى، ولذلك فإن العديد من الفلاسفة والمفكرين حول العالم قديمهم وحديثهم قد اهتموا بمسألة التعبير عن الرأي وقيمته الحضارية للمجتمع، فيذكر مالك بن نبي أن «غنى المجتمع لا يُقاس بكمية ما يملك من أشياء، بل بمقدار ما فيه من أفكار» ولا تتشكل هذه الأفكار إلا نتيجة الحوار والنقد المستمر.
شكّلت حالة الهجوم المبالغ فيه على شخصٍ عماني كان قد صرّح في وسيلة إعلامية خاصة برأي سياسي مجتزأ صورة يُمكن من خلالها النظر إلى أن مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي في كثير من الأحيان لا ينقضون الرأي بالرأي بل ينقضونه بمحاولة الإسكات، وإذا افترضنا جدلا صحة هذا النهج في التعامل مع الآراء، فإن المحصلة تكون صفرية، إذ كلّ فكرة لا تلائم مجموعة معينة من الأشخاص يطالبون بإسكاتها، وهكذا يصبح الجميع أخرسَ لا لسان له؛ لأن الجميع أسكت نفسه بنفسه، أما في حالة التدافع الفكري فإن وقوع النتيجة الإيجابية على المدى البعيد أكثر احتمالية ونجاعة؛ لأن هذا مما يزيد من فرص تنمية العقلية النقدية عند المجتمع، فينشأ الصغير على نهج الحوار لا نهج الإسكات، وعلى الحرية المسؤولة لا على الفوضى، حتى يكون هو قدوة لأشخاص آخرين في مجتمعه فينشأون على ذات القيم أيضا.
وبالحديث عن الحرية المسؤولة والفوضى، فإن التعبير كذلك إما أن يكون مطلقًا وهي الفكرة المثالية للحرية، وإما أن يكون مقيّدًا وهو الواقع الحاصل، وهذا التقييد إما أن يكون داخليًّا وإما أن يكون خارجيًّا، وبين التقييدين جدال وصراع، إذ يحاول التقييد الخارجي أن يوائم التعبير بما يتوافق مع إطاراته، السياسية والدينية والفكرية والاجتماعية وغيره، ويحاول التقييد الداخلي أن يوائم ذاته والمبادئ التي وضعها المرء لنفسه، وفي كل الحالين يكون الحاكم إما بفعل التجربة المتراكمة وإما بفعل القانون الموضوع، وهكذا تحصل خلاصة أن التعبير محكوم بعدة أحكام، تشكّله بحسب ما تشكّلت هي، ولذلك يتباين في مضمونه وطريقة طرحه، وهذا التباين لا يُتعامل معه بالإلجام -ومن الطريف أن كثيرا من عناوين الكتب تستخدم مصطلحات مثل اللجم أو الصرع- فالتعامل الحضاري والبنّاء هو تعامل الحوار والنقاش.
من ضمن هذه القيود التي تحكم التعبير عن الآراء هو عدم الإضرار بالآخرين شخصيًّا، فمتى تحول الرأي إلى ضرّ شخصي بآخرين فإنه متوقف لا يعوّل عليه ولا يجب الإنصات له؛ لأنه تعدى الأفكار إلى الشخوص، وهذا التعدي محكوم بالفوضى في النهاية، فمن استمرأ المضرة في القول، لم تكن عنه المضرة في الفعل ببعيدة، وهكذا في النهاية يصبح القتل حرية أيضًا، لكن إذا توفّر هذا القيد في الأول، وكان النقاش في الأفكار فقط، توفّرت المساحة القادرة على بناء أفكار أفضل والتطور المستمر للوعي المجتمعي والمعرفة الإنسانية، وهذا ديدن الخلق منذ بدء التاريخ حتى اليوم، فلولا التدافع الفكري لما وصلنا إلى الكتابة بلوحة المفاتيح التي أكتب بها هذا المقال الآن.
من هنا يتجلى الدور المركزي لوسائل الإعلام والصحافة، حيث إنها تمثل الوسيط الذي ينقل الآراء من القائل إلى المستمع، فيجب كما أن القائل مقيَّدٌ بمبادئه واحترامه لذاته والآخر، أن يكون الإعلام أيضًا يمشي على مبادئ أخلاقية تضعه في موضع المعزز للتعددية في الرأي، فينشر الفكرة ونقيضها -وهنا الحديث بالطبع عن الأصل العمومي، على الرغم من أن كثيرًا من المنصات الإعلامية تعيش حالة التوجّه أو الأدلجة- فالاكتفاء بالفكرة الواحدة مضرّ أكثر من عرض الآراء المتعددة، فالإعلام الأمريكي إبّان غزو العراق، قد ساهم في الغزو بشكل مباشر في التحشيد له وتبنّي الرواية الرسمية والاعتماد الكامل عليها مع تحييد الآراء المناهضة، وهكذا تكبّدت المنطقة أولا والولايات المتحدة ذاتها ثانيا والناس خصوصا ويلات هذه الحرب العبثية.
ومن أشكال تعزيز التعددية في الآراء من خلال الإعلام، ألا يكرّس شخصية واحدة أو رأيًا واحدًا، بل يكون وسيطًا قادرًا على إبراز القدر الأكبر من الآراء الموجودة ليكون لدى المستمع قدرة على الموازنة واختيار ما يناسبه له، وعلى الرغم من أن «حارس البوابة» في المؤسسة الإعلامية قد يكون مهمًّا، إلا أنه لو استخدم سلطته لنشر سردية واحدة فقط لكان مضرًّا بالمؤسسة والمجتمع والمستقبل وذاته في المقام الأول؛ لأنه بذلك قد بدأ حالة النظر بتعالي على المجتمع على اعتبار أنه يعلم ما يصح أن يتلقوه وما لا يصح، وهي ليست وظيفته، بل الحكم للمتلقي في الأخير، يختار ما يناسبه وينافح عنه حواريًّا، ويترك ما لا يناسبه وينقضه حواريًّا كذلك. وهكذا يراعي التعددية الموجودة في الآراء والمجتمع، ويكون قد فتح بابًا للتطور المعرفي المستمر مستخدمًا المؤسسة وسيطًا ومنظِّما لحالة التدفق المعلوماتي من أصحاب الآراء للمتلقين الذين بدورهم يناقشون المسائل مع غيرهم.
إن المجتمع العماني متعدد بطبيعته، وعلى الرغم من أنه تعامل في أحيان كثيرة من الأفكار بالإلجام، إلا أنه في أحيان كثيرة أخرى تعامل بالحوار، وهذا النوع الثاني هو الذي أنتج تطوّرًا لكثير من الأفكار التي نعيشها أو نجدها حاضرة اليوم، لكن إذا سمحنا بعودة ثقافة التخوين والإلغاء بدلا من النقد العقلاني فإننا نعود للخلف خطوات لا جدوى منها في عالم متغير؛ لأن العودة إلى حالة التخوين والإلغاء تعني الضعف، أما القوة فتكمن في الحوار والنقد والتدافع الفكري، وعلى الرغم من أن هذا لا يُمكن قياسه أو إسقاطه على مواقع التواصل الاجتماعي في العموم لأنها سائلة، والمعلومات فيها لا تفتقد للدقة فحسب، بل تفتقد أحيانا للقيمة، لكن أفترض أن دور الجميع هو محاولة عدم الانجرار إلى النزعات الإلغائية تأثُّرًا بتحشيد إعلامي معين أو لعدم القدرة على سماع الرأي المخالف، فبما أن جميع أهل هذه البلاد يعملون من أجلها، ويهمهم ألا يضروا بها، فإن كل فرد كذلك يمثل قيمة بذاته ما لم يضر الآخرين، وعليه فالإضرار به أو تخوينه أو إلغاؤه لمجرد قول رأيه لا نفع فيه للمجتمع أو للناس، بل ضرره أكبر وأوضح، وكذلك تكريس شخصية أو سردية واحدة من وسيلة / وسائل الإعلام ضرٌّ لا نفع فيه، فالوصول إلى الحالة التي يعيش فيها الجميع دون خوف من إلغائه لمجرد التصريح بآرائه هي الحالة التي من خلالها يُمكن أن يتطور المجتمع للصورة الأكثر خيريّة في جميع جوانبه.