مراجعة كتاب: البحر في أدب الرحلة تجربة أحمد بن ناصر في «أتلانتس بحر العرب»
تاريخ النشر: 29th, November 2023 GMT
تتداخل فنون كتابية مختلفة في تشكّل وبناء نصِّ أدب الرّحلة. إن كانت هذه ملاحظة أولية لما يمكن اعتباره إجابة لسؤال حول أسباب تزايد إصدارات أدب الرّحلة في عُمان فإننا أمام ملاحظة ثانية، هي أن عددًا من كتّاب هذا النوع الأدبي جمعوا اليوميات والسيرة في كتابة رحلاتهم، فكلُّ ما كتبوه ونشروه كان نوعًا من المشاهدات الوصفيّة، آنية كانت، أم مستعادة من الذاكرة القديمة أحيانًا، عن رحلة كانت هناك، قبل عقد أو أكثر من ذلك.
في رصد تجارب أدب الرّحلة العربية من عُمان سيجد القارئ إصدارات متنوِّعة لكتّاب من الجنسين، لدى أكثرهم إصدار واحدٌ، أُمثِّلُ بذكر محمد الشحري في كتابه «الطرف المرتحل»، ومحمد المحروقي في كتابه «من الفرضاني، يوميات رحلة إلى زنجبار وممباسا والبرّ الإفريقي، ومحمد الحراصي في كتابه «التّسكع على حواف الخارطة»، ومحمد الراشدي في كتابه «ترانيم الديم» وسلامة العوفية في كتابها «مذكرات سال، عُمانية في أرض الهنود الحُمر» وليلى الحضرمية في كتابها «السماء تمطر سمكًا».
لم يعن كتّاب تلك النماذج بالاشتغال على تطوير مشروعهم الكتابي بنشر عمل آخر؛ لتأصيل التجربة والبناء عليها، للانتقال من تجربة المشاهدة الوصفيّة إلى ما هو أعمق منها، أي من يوميات رحلاتهم وسيرهم إلى ما هو أعمق بالمتخيل، ولعل هذا قد لا يحدث، كون أن بعض ما نُشِر كان عند البعض خلاصة تجربة ابتعاث دراسيٍّ كما في تجربتي «ترانيم الديم» و«مذكرات سال»، يختلف الحال تماما إن ذُكِر اسم محمد الحارثي الذي كرّس سنوات عمره في تقديم تجربة مختلفة عربيًّا، ليس لأنه صاحب مشروع ريادي في أدب الرحلة الحديثة، إنما لاختلاف المشروع بقدرة كاتبها على تحويل المشاهدات الوصفيّة للمكان إلى حفريات عميقة، سواء عبر استنطاق تاريخ المكان ومحاورة رموزه، ومرافقة الشخصيات التاريخية وتحويلها إلى شخصيات فنية، بالبناء عليها من متخيله ورفدها بقراءاته، وكل ما يمكن أن يجده قارئ لتجربته في ثلاثية إصداراته الوازنة، أو ما يلاحظه القارئ من تطوّر التجربة بين عمل وآخر.
يأتي اسم محمد الحارثي أحد أبرز الأسماء المؤسِّسة والمؤصّلة لأدب الرحلة، فله ثلاثة إصدارات، هي: «عين وجناح» و«محيط كتمندو» و«فلفل أزرق» ثم من بعده يؤسس اليوم أحمد بن ناصر تجربته المختلفة في هذا الفن، أجزم أنه الوحيد ممن كتبوا أدب الرحلة ظلّت بلده عُمان المكان الذي يؤسس عليه مشروعه، فقد أغرته بطبيعتها، اتّحد مع مكانها متأمِّلًا ومستكشفًا ومتعلِّمًا، فله في أدب الرحلة حتى اللحظة ثلاثة إصدارات، أولها: «قواعد الرحلة الأربعون» دار نثر 2020 و«أتلانتس بحر العرب، تدوينات من الرحلة إلى جزيرة مصيرة» كتاب «مجلة نزوى 2022» و«السحر الأزرق، صيد في بحر عُمان» دار نثر 2024. إن كانت عُمان قد أغرت ولو قليلا محمد الحارثي في كتابه الأول «عين وجناح» إلا أنه حلّق عنها بعيدًا؛ ليكتب في فصول أخرى من كتابه رحلات في «الجزر العذراء، زنجبار، تايلند، فيتنام، الأندلس، الربع الخالي». والحال نفسه في آخر كتابيه، فقد تردد مرّات على النيبال وسيرلانكا، وكتاباه الأخيران كانا عنهما.
في تجربة أحمد بن ناصر الأولى «قواعد الرحلة الأربعون» يؤصِّل قواعد للرِّحلة، يذكّر بها الذين قرروا أن يجعلوا من وجودهم على الأرض رحلة، وما حياتنا إلا كذلك! كتب أربعين قاعدة بلغة سهلة بسيطة، عذبة تخلو من أي إغراق في المجاز، صريحة مباشرة. لغة تبدو موجّهة إليه أولًا، بصفته رحالًا، أو هذا ما أصبح عليه بعد إصداريه اللاحقين.
قواعده كما يشير إليها في كتابه هذا بأنها «محصّلة تأمّلات في رحلة استمرت ثلاثة عشر عامًا» لهذا يجد قارئ القواعد الأربعين فكرة في كل جملة، وفي الفكرة مذهب إنساني. حافظ على نسق قواعده جميعها في أنه بدأ بها بجملة واحدة، وهي «إذا خرجت في رحلة أيها الإنسان» وهو بها يذكّرنا بالداخل غير المرئي فينا، الضمير الإنساني. لكأنه ينبّه مع كل رحلة بتلك القواعد، ليستمتع المرتحلُ بالوقت وبالتفاصيل، يدعو كتابه «قواعد الرحلة الأربعون» إلى تأصيل ما غاب عنّا ونحن في طريقنا إلى أي رحلة، يحبِّبنا في أفعال تصدر منّا ولا ننتبه أحيانًا إليها؛ لنؤصّلها حتى تظل الفكرة قاعدة في أية رحلة.
إن بدا أحمد بن ناصر في كتابه الأول بقواعده الأربعين كما أشرت سابقًا مذكرًا ومنبِّهًا إلا أنه في كتابه الثاني «أتلانتس بحر العرب، تدوينات من الرحلة إلى جزيرة مصيرة» اختار لقرائه جزيرة نائية، مكانًا بحريًّا، ليكشف لهم عن أرضها ومعالمها القديمة، دوّن ما استطاع أن يعرفه عنها، مستفيدًا من القليل جدًّا مما وجده مكتوبًا في الأدبيات التي قرأها أثناء الاشتغال على كتابه، لهذا فإنه يشير في آخر كتابه إلى مراجع استفاد منها، ولو بمعلومة في كتابه.
أجزم أنّ من لم يزر جزيرة مصيرة قبل هذا الكتاب سيشدّ الرحال إليها. ولعل هذا ما يمكن ملاحظته عبر إشارات وردت عن الكتاب أكثر من مرة في مواقع التواصل الاجتماعي، أثناء وجود أولئك في جزيرة مصيرة يشيرون إلى كتاب «أتلانتس بحر العرب، تدوينات من الرحلة إلى جزيرة مصيرة».
إن كان البحر بصفته فضاء ممتدًا إلى ما لا يُرى في الضفة الأخرى قد أغرى أحمد بن ناصر ليكشف ما في الجزيرة المهملة على جميع المستويات الثقافية (سياحة واقتصادا) بدا من كتابه هذا أن البحر ناداه وأغراه؛ ليقترب منه أكثر، وهو فيه ومعه يكتشفُ قواه البدنيّة والروحيّة، هذا ما حدث في إصداره الحديث «السِّحرُ الأزرق، صيدٌ في بحر عُمان» ففيه غادر وضع الساكن «المشاهد المتأمل المدوِّن»، بقدرة عجيبة ورغبة دفينة ينتقل الواقف على الشاطئ إلى الراوي الشخصيّة، الصياد الفرح يكتب تجربة إنجازات على المستوى الذاتي بما يحققه من إنجازات في بناء مشروع أدب رحلة مختلف، فمن يقرأ كتابه ويتابع تجربته المتصاعدة جماليًّا بين كتاب وآخر لن يشكّ في ذلك، ولعمري مرتبة صعبة ليس في الكتابة إنما في قرار التجديف والإبحار، مرتبة ينالها الصابرون المصرّون على تعلّم حرفة هجرها كثيرون من أبناء البحر.
السفر إلى أعماق البحر حيث الأمواج العالية والهدير الصاخب يحتاج إلى صيّاد ومدرّب، هكذا جرت العادة، هناك بشر يمكن أن يتعلّموا كل شيء إن أحبوه. الحب والرغبة تجعل الإنسان مصرًّا على نيل الأشياء الصعبة.
إن تعلم حرفة الصيد في حاجة إلى استعداد أوليٍّ، نفسيًّا في تقبّل أيٍ من مخاطر البحر، الموت غرقًا أحد تلك التوقّعات، لهذا فإن بداية كتابه «السحر الأزرق، صيد في بحر عُمان» تأخذنا إلى ما يمكن أن يحدث في أعماق البحر، خلاصة هذا الكتاب تبدأ بتأكيد يصرّ عليه أحمد بن ناصر، ويكتبه في هذه الجملة العميقة «الإنسان لا يختار النهايات، بل يخوضها» جملة تخبر أن من يذهب إلى البحر كل يوم فإنه يعانق حتفه كل ساعة، ماذا لو وقع حادث في عرض البحر وأنت وحيد إلا من الصبر والعزيمة وضبط خيط التصرف لملامسة النجاة؟ هذا ما حدث لقاسم الفارسي، قضى يوما وليلة يعانق الموت، أما القارب بعد أن قلبه الموج العالي ظلّ يطبطب عليه في قصة غريبة سيكشف عنها الكتابُ.
إن توقّعًا كمثل تلك الخلاصة التي افتتح بها الكتاب سرديته لابد أن يظل حاضرا في أي من رحلات الصيد، وفي متخيل الصياد. الصبر ضروري ومطلب حتى لحظة الفرح بسحب سمكة أولى، في أي من وسائل الصيد ( قارب التجديف أو قارب الماكينة) من ذا الذي يمكنه أن يصبر على تعلّم حرفة عفى عليها الزمن؟ وتجاوزتها حياة الرفاهية والراحة؟ هل الشاب الخليجي اليوم نفسه الذي قرأنا عنه وعشنا معه في نصوص أدبية تؤكد ما كان عليه من تجارب رحلات صيد اللؤلؤ والمحار والسمك؟ ألم يبق الإنسان معتمدًا على سمك الأسواق؟ لكن ماذا لو انقرض الصيادون؟ كثيرة هي الأسئلة التي سيكتشفها قراء كتاب «السحر الأزرق، صيد في بحر عُمان».
بقي أحمد بن ناصر في البحر، ومنه أصدر كتابه الجميل «السحر الأزرق، صيد في بحر عمان» وعنه كتب نصًّا سرديًا مختلفًا، متجاوزا فيه كتابيه السابقين، كتابه هذا واقع في تداخله وترابطه بين الرحلة والسيرة، قراء هذه التجربة الرحليّة سيكتشفون أحمد بن ناصر وعوالمه، وهم مع فصول الكتاب الأربعة (خلاصة/سمكة ميتة منذ ألف سنة، وصياد متفائل في إبحاره الأخير/مشهد افتتاحيّ لقطة أولى/الزورق قارب، القارب سمكة/مشهد ختاميّ لقطة أخيرة) سيعثرون على ما أفقدته الحياة فيهم، القوى المهملة والمعطّلة، فالعزيمة راكدة والإصرار خافتٌ، أو متلاشٍ بالمرّة.
قارئ هذه التجربة سيتأكد أن له قيمة لو فعّل رغباته وانطلق يغامر من تجربة حياة إلى أخرى غيرها، ثم بعدها سيقدِّم لروحه وللآخرين أعيادا من الفرح. ليس أمامنا مع هذه الحياة إلا محاورة البحر؛ لتجربة عيش مختلفة مع ما يشعرنا به من أحاسيس تعين الروح على التأمّل في البداية، ثم سيناديه البحر نفسه لتجربة التحدي والمغامرة، ومن بعدهما يمكننا تأكيد استعدادنا لأي ظرف حياة، حتى نكون داود وقد أكل من عمل يده، لنصل إلى قناعة أخيرة أن أيوب داخل كل واحد منا، ثم مع الإصرار على كتابة رحلتنا في هذه الحياة سنحافظ على أغلى ما يملكه الواحد منّا.
حمود بن حمد الشكيلي قاص وكاتب عماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: أحمد بن ناصر صید فی بحر ع فی کتابه رحلة إلى ما یمکن إلى ما هذا ما
إقرأ أيضاً:
مغامرو «نقتفي أثر أسلافنا» يختتمون مسيرًا بريًا تراثيًا في ولايات الداخلية
نزوى – أحمد الكندي
اختتم ثلاثة مغامرين من فريق «نقتفي أثر أسلافنا» للمسير الطويل رحلةً تراثيةً وأثريةً بمحافظة الداخلية، استمرت خمسة أيام، قطعوا خلالها نحو 130 كيلومترًا عبر أربع ولايات، متتبعين المسارات القديمة التي سلكها الأجداد بين القرى والحواضر العُمانية.
وانطلقت الرحلة بمشاركة حلمي بن هلال بن زاهر الكندي، ونواف بن سالم بن حميد السليماني، وناصر بن محمد بن ناصر الفلاحي، من قرية مسفاة العبريين بولاية الحمراء، مرورًا بقرية البلاد، ثم التوجّه إلى ولاية بهلا في اليوم الأول.
وفي اليوم الثاني، واصل المغامرون مسيرهم باتجاه حصن جبرين، مرورًا بقلعة بهلا وعدد من الحارات القديمة، في محطة جمعت بين التاريخ والطبيعة.
أما اليوم الثالث، فكان الأطول في الرحلة، حيث قطع المشاركون قرابة 45 كيلومترًا، انطلاقًا من أمام حصن جبرين إلى حارة البلاد بولاية منح، مرورًا بعدد من قرى ولايتي بهلا ونزوى.
وشهد اليوم الرابع مسيرًا من قرية البلاد بولاية منح إلى قرى المعمد والمعرى، ثم قرى كرشاء وردة البوسعيد والجل وفرق بولاية نزوى، حيث كانت نقطة نهاية المرحلة قبل الأخيرة.
وفي اليوم الخامس والأخير، انطلق الفريق نحو مركز مدينة نزوى، مرورًا بـ"سوق نزوى"، وحارة العقر، والغنتق، ثم زيارة جامع سمد وردّة الكنود، وصولًا إلى حارة السويق الأثرية بوسط المدينة، التي شهدت حفل استقبال أهالي الحارة للمغامرين، تضمن برنامجًا ترحيبيًا وتعريفيًا بمآثر الحارة ومزاراتها، وجولة في أزقّتها القديمة، قبل اللقاء الختامي مع الأهالي والأطفال إيذانًا بانتهاء الرحلة.
وأقيمت الرحلة برعاية الدكتور محمد بن عادل بن سعيد المغيري، مؤسس ومالك دُرّة المسفاة للنُزل التراثية بمسفاة العبريين، الذي أوضح عقب وصول الفريق أن الرحلة أُنجزت وفق المخطط الزمني والمسار المحدد، مشيرًا إلى أن رعاية هذه الفعالية تأتي دعمًا لفريق «نقتفي أثر أسلافنا» في جهوده للتعريف بالمسارات القديمة بين المدن والحواضر العُمانية، وتسليط الضوء على المزارات السياحية والأثرية والتاريخية.
من جانبه، قال حلمي بن هلال الكندي، أحد أعضاء الفريق: إن هذه الرحلة تأتي امتدادًا لسلسلة من المغامرات التي تستهدف المواقع الأثرية القديمة في سلطنة عُمان، وتتبع مسارات الأسلاف للتعريف بها، وإشراك الشباب المغامر في اكتشاف الدروب التي كان يسلكها الآباء قبل توفر الطرق الحديثة ووسائل النقل السريعة.
وأضاف أن الفريق دأب على تنظيم مثل هذه الرحلات منذ أكثر من خمسة عشر عامًا، ونفّذ خلالها العديد من المغامرات داخل سلطنة عُمان، إضافة إلى مشاركات خارجية مع فرق عالمية في مغامرات متنوعة، مؤكدًا أن الطموح المستقبلي يتمثل في تنفيذ مسير طويل يجوب محافظات سلطنة عُمان كافة، إلى جانب مسير آخر عبر دول الخليج لتتبع الطرق التاريخية التي سلكها الأجداد في تنقلاتهم ورحلاتهم.