طالب دعاة وحقوقيون شيخ الأزهر، الدكتور أحمد الطيب، بالاستجابة لدعوة حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، لقيادة علماء الأمة الإسلامية والتحرك لفك حصار دولة الاحتلال الإسرائيلي المفروض على قطاع غزة، الذي يواجه على مدار شهرين، حرب إبادة دموية من الآلة العسكرية للاحتلال بمساعدة أمريكية وأوروبية.

 وخلال مؤتمر صحفي للقيادي بـ"حماس" أسامة حمدان، حول تطورات العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، الثلاثاء، قال: "ندعو إمام الأزهر، لقيادة تحرك من العلماء على صعيد الأمة لكسر الحصار على غزة، وإدخال مواد الإغاثة عبر معبر رفح البري، رغم أنف الاحتلال دون قيد أو شرط".



 حمدان، الذي تقود حركته إلى جانب حركات المقاومة الأخرى في فلسطين مواجهات دامية ضمن عملية "طوفان الأقصى" ضد الاحتلال الإسرائيلي منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، أضاف: "ندعو علماء الأمة لتبني هذه الفكرة والعمل لجعلها أمرا واقعا".

 وأشاد حمدان، "بدور مؤسسة الأزهر الشريف من الحرب العدوانية على قطاع غزة، وإعلان شيخ الأزهر عن توفير منح دراسية كاملة لطلاب فلسطين الدارسين بجامعة الأزهر ومعاهد البعوث الإسلامية".



وتأتي دعوة حماس في ظل ما قامت به آلة الاحتلال الإسرائيلي من عمليات قصف على قطاع غزة، خلّف حتى مساء الثلاثاء، 16 ألفا و248 شهيدا، بينهم 7112 طفلا و4885 امرأة، بالإضافة إلى 43 ألفا و616 جريحا، فضلا عن دمار هائل وتشريد مئات الآلاف من الفلسطينيين.

وردا على "اعتداءات الاحتلال الإسرائيلي اليومية بحق الشعب الفلسطيني ومقدساته"، شنت "حماس" في 7 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، هجوما استهدف مستوطنات وقواعد عسكرية بمحيط غزة، فقتلت نحو 1200 إسرائيلي وأصابت حوالي 5431 وأسرت قرابة 239.

"مواقف الطيب"


يأتي نداء حماس لشيخ الأزهر، بعد يوم من توجيه الدكتور الطيب، رسالته إلى العالم لوقف الحرب على قطاع غزة، في نهاية كلمته إلى أعمال مؤتمر "كوب 28"، الذي تستضيفه الإمارات من 30 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي إلى 12 كانون الأول/ ديسمبر الجاري.


وقال الطيب، "إنَّها صرخة إنسان مذهول من هول آلة القتل الإرهابية الجهنميَّة التي يُعملها قُساة القلوب في صفوف المواطنين الآمنين من النِّساء والرجال والأطفال والرُّضع والخُدَّج، ومن مظاهر العنف والتخريب والدَّمار التي تشهدها أرض فلسطين السليبة".



وفي 11 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، وبعد أيام من طوفان الأقصى، أعلن الأزهر الشريف دعم المقاومة الفلسطينية، وأشاد بها، وقدم لها التحيته على صمودها، وطالب العالم الإسلامي بالوقوف معها بمواجهة الالتفاف الغربي لدعم الكيان.

وفي بيان أثار ردود فعل طيبة في العالمين العربي والإسلامي، قال الأزهر إن "التاريخ لن يرحم المتقاعسين المتخاذلينَ عن نصرة الشعب الفلسطيني"، ما زاد الآمال لدى الكثيرين حول استعادة الأزهر كمؤسسة دينية لها احترامها بين العالم الإسلامي لدورها وتأثيرها.

الأزهر  المرجعية الدينية السنية التاريخية وذات التأثير والقبول العالمي، أكد في البيان نفسه، على أنه "حان الوقت لكل أحرار العالم أن يتحدوا لإنهاء أسوأ وأطول احتلال عرفه التاريخ الحديث وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس".

ذلك الموقف من الأزهر ، توجه غلاف لمجلة "صوت الأزهر"، الذي أغضب السلطات المصرية واعتبرته محرجا لها، حيث خرج بـ"مانشيت" جاء فيه بأن "الاحتلال أصل كل الشرور"، باللغات العربية والإنجليزية والعبرية، مع سؤال: "إسأل ضميرك"، طارحا 10 أسئلة كاشفة عن جرائم الاحتلال على صفحة المجلة الأولى.

والسبت الماضي، وجّه شيخ الأزهر بإعفاء طلاب فلسطين البالغين 444 طالبا وطالبة، و75 آخرين، من المصروفات الدراسية وبسرعة توفير منح دراسية كاملة لهم، واستضافتهم بمدينة البعوث الإسلامية، مع صرف مبلغ مالي شهريا لهم.

مواقف الشيخ الطيب الداعمة للمقاومة جعلته عرضة للانتقادات الإسرائيلية، ودفعت معهد دراسات وأبحاث الأمن القومي الإسرائيلي "INSS" للهجوم بشدة شيخ الأزهر واتهامه بأنه يقف بجانب "الحركات المتشددة".

"دعوات مماثلة"

وهي ذات المواقف التي حدت بسياسيين وإعلاميين مصريين معارضين للنظام المصري لتوجيه نداءاتهم إلى الشيخ الطيب، في 5 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، مطالبينه بإعلان الزحف بنفسه نحو قطاع غزة، في خطوة يتبعه فيها ملايين المسلمين من مصر وباقي بلدان العالم الإسلامي.

وقال له الإعلامي معتز مطر: "يا أيها الإمام الأكبر وفيت وكفيت في الكلمات، والآن وقت الزحف". مضيفا: "يا شيخ الأزهر إن زحفا تقوده أنت وليس سواك نحو حدودنا مع غزة سيهز الأرض هزا، زحفا سيتبعك فيه الآلاف ثم الملايين، زحفا سيتحرك له إخواننا في إندونيسيا وباكستان وماليزيا قبل مصر والسعودية والأردن".

وقال له السياسي والإعلامي أحمد عبد العزيز: "يا فضيلة الإمام، أنت وحدك القادر على قلب الطاولة، وتغيير المعادلة، في مصر والمحيط العربي"، مطالبا إياه بـ"الإعلان عن مسيرة تتقدمها إلى معبر رفح، ولن يسمحوا لك بعبور القناة، اعتصم ومئات الآلاف التي ستتبعك على شاطئ القناة، وستكونون محط أنظار العالم، والقنوات الإعلامية كافة".

ودعا الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، الثلاثاء، شيخ الأزهر، للذهاب معا إلى معبر رفح والمشاركة في قافلة إغاثة لسكان قطاع غزة المحاصرين، مشيدا بدور الشيخ الطيب، في الأزمة.

وقال في بيانه إن: "الإدانة وحدها لا تكفي في ظل تحكم مصر في معبر رفح، حيث يمكن لفضيلة شيخ الأزهر أن يكون لديه دور أكبر في التأثير على الأوضاع، بما له من فضل، ومكانة لدى رئيس مصر".

فما مدى إمكانية أن يستجيب شيخ الأزهر لتلك الدعوات؟


وهنا قال عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف ومفتي الديار المصرية الأسبق الدكتور نصر فريد واصل، في حديثه لـ"عربي21"، إن "الأزهر وشيخه وعلماءه وطلابه مع فلسطين المحتلة حتى تتحرر، وهو الأمر الواضح في كل مواقف الأزهر".

وردا على السؤال: هل هناك ما يمكن أن تقدمه مؤسسة الأزهر أكثر من هذا الدعم؟، أضاف أن "الأزهر  يقدم كل ما في وسعه، ويدعو أحرار العالم لنصرة الحق والعدل والأمن والسلام، ويطالب بالأخذ بيد من حديد على يد المغتصبين المفسدين".

وتابع: "ومن منبركم ومن كل منابر العالم الحرة نواصل دعوة الأزهر  لكل أهل الحق ودعاة السلام أن يقفوا معنا لمنع هذا الظلم"، مطالبا "المسلمين في كل بقاع العالم أن يكونوا على قلب رجل واحد ولا يتنازعوا وأن يعتصموا بحبل الله جميعا ولا يتفرقوا، وفقا للأمر الرباني".

مفتي مصر الأسبق، أعرب عن أسفه الشديد من أن "المسلمين ليسوا على قدر الاستعداد والإعداد الذي أمرنا الله به"، مضيفا: بل إننا كمسلمين خذلنا أنفسنا وقضيتنا، ولم نكن على قدر الأمر الذي دعانا الله تعالى إليه".

أما بخصوص إمكانية أن يتبنى الأزهر بجانب الفاتيكان، لما للمؤسستين الدينيتين الأكبر في العالم من علاقات طيبة، دعوة يقودها الشيخ الطيب والبابا فرانسيس، لوقف الحرب الدموية على غزة، قال الشيخ واصل، إن "البيانات التي صدرت عن الأزهر كانت تحمل نفس المعنى".

وأكد أن "الأزهر والفاتيكان كلاهما يدعو للسلام، ولكن المشكلة في تنفيذ تلك الدعوات بمقابل الغطرسة الإسرائيلية والدعم الأمريكي اللانهائي بالسلاح والطائرات والسفن والمال، فأمريكا تقف كشريك في جرائم العدو بحق الفلسطينيين العزل".
 
ولفت إلى "أهمية دور المنظمات الدولية في تنفيذ تلك الدعوات، مثل الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، ومن قبلهما الشعوب الحرة التي تخرج للتظاهر وتسعى الضغط على حكوماتها للضغط على العدو لوقف عدوانه".

ويرى واصل، أنه "وقبل كل شيء علينا كمسلمين أن نقف مع أنفسنا وقفة ونراجع سياساتنا العالمية والاقتصادية للوقوف ضد كل من يقف جانب الاحتلال ويدعم عدوانه".

وحول نداء حماس لشيخ الأزهر ودعوتهم له بأن يقود مسيرة من علماء الأمة لفك الحصار عن غزة، أكد عضو هيئة كبار العلماء، أن "شيخ الأزهر  يدعو لفك الحصار وكل علماء الأمة مع هذه الدعوة".

واستدرك بقوله: "ولكن المشكلة ليست لدى شيخ الأزهر ولا علماء الأمة الذين لن يؤلوا جهدا ينفعون به المقاومة، ولكن المشكلة في تعنت العدو وقبول العالم بجرائمه وصمته عليها".

"لن يسمحوا له"

وفي المقابل، توقع عدد من المتحدثين لـ"عربي21"، عدم قدرة شيخ الأزهر على قبول دعوة حماس، مؤكدين أن رئيس النظام المصري عبدالفتاح السيسي، صاحب المواقف المثيرة مع شيخ الأزهر والمتشددة مع المقاومة الفلسطينية، لن يسمح له بقيادة هكذا مسيرة من علماء الأمة لفك الحصار عن غزة.

وقال القيادي في جماعة الإخوان المسلمين، أشرف عبدالغفار، لـ"عربي21"، إن "كل مسلم يتمنى أن يستجيب شيخ الأزهر لنداء زيارة غزة، كونه أحد أكبر أئمة المسلمين، إن لم يكن في نظر العالم الإسلامي أكبرهم".

الطبيب والحقوقي صاحب الباع الكبير في مجال الإغاثة الإنسانية بالبوسنة والعراق والسودان والصومال وغيرها، يرى أن زيارة الشيخ الطيب لغزة، "ستمثل كثيرا للعالم والمجتمع الدولي وسيكون لها أبعد الأثر بوقف العدوان أو إنهائه، وقد يضطر قادة أديان أخرى لحذو حذوه حتى لا يفضحهم الموقف".
 
وأكد عبد الغفار، أن "الإنسانية قيمة في كل دين والرحمة كذلك، ولكن للأسف استقلال الأزهر غير موجود، وهو من أوجب الواجبات، فلا يصح أن يرتبط موقف إمام عالم بموقف دولة بعينها".
 
وأشار إلى أن "السيسي، أحرص الناس على إنهاء حماس، وذلك باعترافه، وهو يمثل نصف إله الحرب، وإسرائيل تقصف، وهو يغلق المعبر، ويمنع المساعدات، ويمنع خروج أو دخول الأفراد من وإلى غزة، وهذا يمثل سلاحا لا يقل عن الطيران والقنابل التي تسقط كل يوم".

ولا يظن عبد الغفار، أن النظام في مصر "يسمح لشيخ الأزهر بالقيام بهذه المهمة المقدسة بهذه اللحظة، بينما غزة وفلسطين تنزفان"، مؤكدا أن "الأمة بحاجة لموقف شجاع يختلف عن المواقف الضعيفة التي يبديها حكام المسلمين".

 وقال إن "أولى الناس بذلك هو شيخ الأزهر"، ملمحا إلى أن "هذه الدعوة الثانية لشيخ الأزهر، فقد دعاه الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين وطالبه بتشكيل وفد برئاسته لزيارة غزة".

وفي نهاية حديثه أعرب عن أمنيته أن "يتجاوز الشيخ الصعاب ويستجيب، بموقف سيكتب له عند الله عملا عظيما، ويذكره المسلمون بالخير، ويستعيد الأزهر مكانته الحقيقية".

"طلب غير عملي"


من جانبه، يرى السياسي المصري والبرلماني السابق محيي عيسى، أن "شيخ الأزهر موقفه جيد حتى الآن، يفعل قد المستطاع، وهو لا يمتلك سلطة وليس بيده أكثر من ذلك".

وفي حديثه لـ"عربي21"، قال عيسى، إن "كلام أسامة حمدان، غير عملي"، وتساءل: "كيف بشيخ الأزهر أن يقوم بفك الحصار وهو أمر عجزت عنه دول وحكومات؟"، مضيفا: "ومن سيسمح للعلماء بالوصول إلى رفح فضلا عن دخول غزة؟".

وأكد أن "مصيبتنا في حكام خونة؛ هم من يُحكمون الحصار على غزة"، مشيرا إلى أنه "كان يمكن لحكومة مصر أن تكون ظهيرا لغزة، لو تركت حركة حماس، تطور أنفاقا بين غزة وسيناء".

وختم بالقول: "كان يمكن أن تغض حكومة القاهرة الطرف عن دخول التموينات والأسلحة إلى غزة، دون أن يعلم أحدا، ووقتها كان يمكن أن تتلقى المقاومة دعما ماديا من دولة مثل قطر".

"مطالبات أخرى"

وعبر مواقع التواصل الاجتماعي انهالت الدعوات لشيخ الأزهر للتحرك العملي لفك الحصار عن غزة.

وعبر الإعلامي المصري، قطب العربي، عن عرفانه وتقديره لدور الأزهر، واصفا إياه بأنه "أكثر تقدما من الموقف الرسمي المصري"، ولكنه قال إنه "لا يعني الرضا التام به".

وأضاف: "العتب على قدر المحبة، والطلب على قدر الممكن وهو كثير بالنسبة للأزهر، والمسلمون سواء في مصر أو خارجها يعوّلون كثيرا على الأزهر الذي ينظر إليه العالم كله بأنه صوت المسلمين العابر للحدود".



المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة مقابلات سياسة دولية الأزهر حماس الاحتلال غزة المصرية مصر حماس غزة الأزهر الاحتلال سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الاحتلال الإسرائیلی العالم الإسلامی على قطاع غزة الشیخ الطیب علماء الأمة لشیخ الأزهر لفک الحصار شیخ الأزهر معبر رفح على قدر

إقرأ أيضاً:

غزة ليست الحصار .. غزة هي السؤال

يتصور البعض أن الخطاب العربي السياسي العاجز تماما عن أي فعل حقيقي تجاه أطفال غزة الذين يبادون بالنار والجوع أمام أنظار العالم هو ذروة المأساة العربية، لكن الحقيقة أن مأساة غزة رغم مرارتها وقسوتها وجه واحد من وجوه كثيرة جدا لمآسي الأمة العربية العميقة، ووجه من وجوه انكشافها الحضاري، وأزمتها الفكرية التي لم تستطع تجاوزها بعد. وهذه الوجوه التي نراها في غزة وفي سوريا وفي لبنان وفي العراق والسودان وليبيا وفي بنية الوعي العربي عامة ليست مفاجئة لمن يقرأ البنية العميقة للعقل العربي خلال القرن الأخير على أقل تقدير؛ ولذلك لا غرابة أبدا ألا يكون لدى الأمة العربية موقف حضاري مما يحدث في غزة. والحقيقة أنها لم يكن لديها موقف حضاري مما حدث قبل ذلك في العراق، ومما قد يحدث في قادم الأيام في دول عربية أخرى؛ والسبب أنها وصلت إلى مرحلة باتت فيه غير قادرة تماما على بناء المواقف الحضارية تجاه قضاياها قبل القضايا الإنسانية العامة بعد أن وصلت إلى حالة من الانسداد الحضاري.

نشر مفكرون عرب كثر خلال العقود الخمسة الماضية أطروحات ناقشت هذه الأزمة الحضارية التي تمر بها بنية العقل العربي لا من خلال الأحداث السياسية اليومية، ولكن عبر الغوص في بنية العقل، وما يحيط به من قيود النص، وقدرته على الإبداع، والخيال، والإنتاج المستقل، والبنى الثابتة التي حالت كثيرا دون تشكيل مشروع حضاري عربي قادر على مواكبة الحداثة بمعناها العميق والمبدع والمنتج لا بمعناها الشكلي والاستهلاكي. لكن تلك الأطروحات بقيت في أفضل الأحوال نخبوية وبعيدة عن التبني من قبل المؤسسات البحثية والأكاديمية التي تصنع الأجيال العربية، فيما حورب الكثير منها تحت دعاوى مختلفة وواهية؛ الأمر الذي فاقم الأزمات العربية، وجعل الأمة أقرب إلى أن تكون رخوة ومنكشفة حضاريا منها إلى أمة صلبة وقادرة على الإبداع. فعصفت بها الأوهام، وسيطرت عليها الخطابات الشعبوية، وكثر الدجالون، وغاب المفكرون الحقيقيون، بل غابت الفلسفة والمنطق عن أمة كانت متقدمة في إنتاج المعرفة وبشكل خاص الفلسفة والمنطق.

وأمام هذا المشهد وهذه المعطيات لا غرابة أبدا أن يكون الوضع العربي كما نراه اليوم، عالم يكاد يكون بلا موقف حضاري، ولا فعل ثقافي، فهذا ما جنته الأمة على نفسها قبل أن يجنيه عليها الآخرون، وقبل أن تعيد اجترار نظرية المؤامرة، وهي وإن كانت حقيقية إلا أن الأمة نفسها فتحت المساحة للمؤامرات لتبني لها بنى راسخة في العقل العربي قبل مؤسساته.

ناقش جورج طرابيشي على مدى عقود قيود الماضي والتراث خلال مشروعه لنقد العقل العربي، كما ناقش محمد أركون البنى الدوغمائية التي تحرس «اللامفكر فيه» مؤكدا أن لا تقدم في ظل غياب العقل النقدي والإنساني في بنية الفكر العربي الإسلامي. وهكذا فعل نصر حامد أبو زيد، ومالك بني نبي، وعبدالإله بلقزيز، وغيرهم. ورغم أن أطروحاتهم كانت قابلة للنقاش والنقد في سياق السجال المعرفي؛ إلا أنه حتى هذا السجال اختفى من أجندات الوطن العربي، واستبدل به جدالات عقيمة وشعبوية قائمة على التكفير المذهبي، والإثني، والخطابات التعبوية التي تهدم ما تبقى للأمة، وتحاول تقويضه؛ نتيجة أحقاد تاريخية قائمة أيضا على المذهبية، والإثنية، ووهم الكيانات الوطنية.

ولذلك نحتاج أن ننظر إلى مأساة غزة من بُعد آخر لا يمثله الحدث السياسي، ولكن تعكسه المأساة الحضارية؛ لنستطيع اكتشاف حجم العطب البنيوي في بنية العقل العربي المتمثل في غياب الفعل وشلل الإرادة. ورغم التاريخ الطويل من غياب الفعل العربي الحقيقي إلا أن هذه اللحظة هي أكثر تلك اللحظات تأثيرا، وأعمقها تمثيلا لواقع ما وصلت له الأمة العربية.

وإذا كانت غزة كاشفة لمأزق الضمير العالمي، ولأخلاقه، ولقيم النظام العالمي فإنها كاشفة بشكل أكبر للمأزق الحضاري العربي الذي بدا بشكل واضح أنه خارج السياق وعيا بما يحدث، وقدرة على بناء خطاب حضاري معرفي قادر أن يشكل موقفا يتناسب وما يحدث في الأمة من شرقها إلى غربها، ومن جنوبها إلى شمالها.

وهذا الوضع العربي من الفشل والخنوع وتآكل الوعي لا يخص القيادات السياسية فقط رغم مسؤوليتها الكبيرة والأساسية، ولكنه يخص المثقف، والمؤسسات الثقافية، والفكرية، والأكاديمية، ومؤسسات التعليم، والمؤسسات «الدينية»، ومؤسسات الإعلام، ويخص الجمهور العربي. العالم العربي بكل مؤسساته مسؤول مسؤولية تضامنية وتشاركية عن الحال الذي وصلت إليه الأمة!

وإذا كان العالم يتحول جذريا أمامنا؛ حيث يعاد بناء نظام عالمي جديد تتآكل فيه الهيمنة الأمريكية على العالم، وتسقط شيئا فشيئا قطبيتها الواحدة، وتبني الصين مشروعها بكثير من الهدوء، ويعيد الذكاء الاصطناعي تعريف المعرفة ورسم حدودها- فإن العرب يبقون وسط هذا كله بلا مشروع حضاري قادر على الذهاب الآمن نحو المستقبل، ويديرون تحدياتهم الراهنة بعقلية القرون الوسطى، ومرجعية الفتنة الكبرى فيما يعيش العالم نهاية الحداثة، ويدخل إلى عصر ما بعدها.

ولذلك؛ فإن من يتفجع على ما يحدث في غزة فإنه يتفجع من حيث يدري أو لا يدري على حال الأمة ومصيرها ومستقبلها، يتفجع على الفجوة بين ما ندّعيه وما نحن عليه، وعلى التناقض بين خطاب القوة ووهم الفاعلية. لا تكشف غزة ضعفنا بقدر ما تكشف الفراغ الكبير الذي نحن فيه، ومأزق العقل العربي المحاصر بالأوهام والفراغ.

لا يتحقق الخلاص من كل هذا بوقف الحرب على غزة رغم أهميته في السياق الأخلاقي والإنساني، ولا بالانقلابات السياسية، ولا بسلام مزيف مع العدو الصهيوني، ولكن تحتاج الأمة للخلاص مما هي فيه إلى ثورة معرفية تعيد طرح مفاهيم الحرية والهوية والدين والتراث والمقدس والفلسفة والحداثة من جديد، وتحرر العقل العربي من كل القيود والأغلال التي تسيطر عليه. وهذه الثورة المعرفية لا تختص بالهوامش العربية والمراكز المزعومة، ولكن تشمل المراكز والأطراف، والعواصم ومدن المهمشين الذين لا مكان لهم في خطاب «الهوية الرسمية». والنتيجة ليس إحداث قطيعة مع الماضي أو التراث العربي، ولكن الانطلاق منه نحو المستقبل عبر قراءة العقل والذات والنصوص الثقافية العربية بشكل منطقي ومنهجي، وإعادة تعريف علاقة العربي بغيره من الحضارات بعيدا عن تصنيف الآخر باعتباره العدو اللدود بالضرورة، وأن نعيد منهجية مواقفنا مع الحضارات الأخرى بناء على منظومة القيم والمبادئ الإنسانية، وليس وفق التصنيفات الدينية والمذهبية والإثنية.

تحتاج النهضة التي نبحث عنها للعالم العربي إلى لحظة وعي، واعتراف شجاع بحالة الفشل التي وصلت لها الأمة، ثم اشتغال حقيقي لبناء وعي جديد مؤسس وفق مقولات فلسفية وفكرية وطرح معرفي، وحينها سنرى التغيير يتحقق ليس في وعي الأفراد فقط، ولكن في بنية المؤسسات السياسية، وخطاباتها الجديدة. والأمم لا تنهض بالعواطف والأمنيات، ولكن بالأفكار والعمل من أجلها، وبتحليل الهزائم، وبناء سيناريوهات لمسارات جديدة.

وهذا المسار ليس سهلا على الإطلاق، ولكنه ليس مستحيلا؛ فلا يمكن منطقا لعقل عربي حُرم من الفلسفة والنقد والتساؤل أن يُبدع فجأة مشروعا حضاريا دون أن يمر أولا عبر جراح الذات وخرائط الفقد؟

ولذلك من المهم أن ننظر في مرآة غزة إلى ما هو أبعد من الكارثة؛ ننظر إلى سؤالنا الحضاري الذي بات على هامش التاريخ قبل أن يصبح خارجه تماما. تغدو غزة بهذا المعنى مرآتنا بكل ألمها ونارها، وهي أيضا فرصتنا الأخيرة التي تمنحنا إياها الحضارة لننظر إلى أرواحنا كما هي، لا كما نُحب أن نتخيلها.

عاصم الشيدي كاتب ورئيس تحرير جريدة عمان

مقالات مشابهة

  • عالم أزهري: القرآن قدم وصفة واضحة في 5 آيات لحماية الأوطان من الانهيار
  • علماء وخطباء حجة يؤكدون وجوب اتحاد المسلمين لنصرة غزة
  • الأرز الابيض.. ماذا يفعل لجهاز الهضمي وللشعر؟
  • غزة ليست الحصار .. غزة هي السؤال
  • عمران .. لقاء للعلماء والخطباء يناقش المستجدات الراهنة في غزة
  • حكماء المسلمين يدين بشدة الهجوم الإرهابي على كنيسة بالكونغو الديمقراطية
  • “حماس”تدعو إلى تصعيد الحراك الجماهيري العالمي ضدّ استمرار العدوان الصهيوني
  • حماس تدعو لأن يكون الأحد المقبل يومًا عالميًا لنصرة غزة
  • علماء المسلمين: مصر قادرة على قيادة تحالف دولي لإنهاء الحرب ورفع حصار غزة
  • علماء المسلمين: مصر قادرة على قيادة تحالف إسلامي لإنهاء الحرب ورفع حصار غزة