المؤسسة السودانية.. من الطقوسية الى الانهيار (5/5) .. انزلاق الاحزاب السودانية في تربة الطقوسية اللزجة
تاريخ النشر: 4th, January 2024 GMT
mbakri9@gmail.com
محمد عبد الخالق بكري
في هذه الحلقة الاخيرة سأتناول زحف المؤسسة الطقوسية وسيطرتها على سلوك كل المنظمات السودانية ابان الفترة الانتقالية بعد إنتفاضة ديسمبر 2018. وسأحاول قدر الامكان الاختصار للوصول الى المحصلة الاخيرة التي ادعو القوى المدنية لها.
عندما تصدر الطقوسية من قلب مركز القرار المؤسسي ولسنوات طويلة في عملية الانغراض البطيء للمؤسسة تنداح الطقوسية في المجتمع ولا تقف في حد المركز المؤسسي، بل من المؤسف انها تتغلغل في مفاصل شتى ويشمل ذلك كل منظمات المجتمع، والنتيجة هي أعاقة التعاون المؤسسي.
يتضافر السلوك الطقوسي مع العقلانية المفرطة قصيرة النظر ليرسخ من طقوسية المؤسسة وانحدارها. للأسف سيطرت الطقوسية على ترتيبات الفترة الانتقالية بعد سقوط نظام البشير فبينما كان المكون العسكري متمرسا في الطقوسية، بحكم انه جزء من النظام الذي سقط، لم تتميز عنه القوى المدنية بلا استثناء فقد انخرطت هي الأخرى في طقوسيتها كم سأبين ادناه وانخرطت في الطقوسية التي امسكت بتلاليب المؤسسة هى الاخرى، بل في أحسن الفروض خضعت لما اسميه الاذعان الطقوسي.
انخرطت قوى الحرية والتغيير -المكون الأول الذي ضم الأحزاب التي وقعت على الميثاق - في خلافاتها وانقسمت. تم حنثت بعهدها بعدم المشاركة في السلطة، بل انخرطت في المحاصصة - وهي في تقديري من أكبر مظاهر الطقوسية في العالم العربي والافريقي - واكتفت بالمناصب الشكلية في السلطة الانتقالية واهملت قضايا مركزية وتركتهما كليا في يد المكون العسكري وسأتناول ذلك في الجزء الأخير من هذه الحلقة.
ولكن للنظر أولا الى تجليات الطقوسية في سلوك القوى المدنية بلا استثناء. ترتب على انقسام قوى اعلان الحرية والتغيير (قحت الأولى) ظهور تيارين في القوى المدنية تبلورا أخيرا في تيار قحت المجلس المركزي وتيار التغيير الجذري. أضعف الانقسام القوى المدنية لأقصى حد أمام المكون العسكري. وفي سبيل الكسب السريع تسبب التياران في انقسام المنظمة الوحيدة التي نالت ثقة كبيرة بين أوساط الشعب، بل وقادت الانتفاضة بشكل يومي ضد نظام البشير وهي تجمع المهنيين. ودون الخوض في أنه كان هنالك انتخابات شريعة (طقوسية بالطبع) وافق عليها طرفا تجمع المهنيين ولم يرض طرف بنتيجة الانتخابات، دون الخوض في ذلك دعنا ننظر الى المجريات والنتائج في النهاية، وأدعو القارئ للتأمل في النهايات الاخيرة لفعل الطرفين. يتجلى السلوك الطقوسي هنا في سعى الطرفان لميراث نفوذ تجمع المهنيين مجانا لزيادة نفوذهما ودون النظر للنتائج، ودون النظر لتاريخ المنظمة وكيفية تكوينها والتيارات المختلفة التي ساهمت في هذا التكوين، بل في تجاهل مريع لأسباب نفوذها الأخلاقي في الاساس. فقد كان الطرفان ينظران فقط للاسم والسمعة التي حققتها تلك المنظمة الباسلة عندما كانت متحدة. وهي نتيجة لتعاون مؤسسي في الاساس - وسعى كل طرف لإضافتها الى رصيده. وبالفعل تحقق لتيار التغيير الجذري ما اراده فقد صار هنالك منظمة ملحقة بمواقفه، منظمة اسمها تجمع المهنيين، تصدر البيانات المؤيدة لخطه، وبالفعل تحقق لقحت (المركزي) ما ارادته وصار لها منظمة اسمها تجمع المهنيين هي الاخرى تصدر البيانات المؤيدة لمواقفه. ولكن في النهاية ورث تيار التغيير الجذري وتيار قحت ظل باهت من المنظمة الاصلية ليس له مثقال ذرة من نفوذه القديم الذي كان يضبط ايقاع حركة الاحتجاج، بل مسارات حركتها اليومية في شوارع الخرطوم وام درمان والخرطوم بحري. رضى الطرفان في طقوسية كهنوتية بهذا الميراث التافه من منظمة كانت واعدة انصرفت عن واجبها الأساسي وهو بناء حركة نقابية مستقلة ورضى القادة الواعدين في المنظمة الاصلية أن يكونوا تكملة شعائرية Ceremonial لجهات غرقت في التقاليد الطقوسية.
حقيقي، أنني لا ارى في انقسام تجمع المهنيين الا فتنة احزابنا بالشعائر والطقوس. هذا مجهود نقابين صبور بدأ كالنحت في الصخر منذ 2012، كيف عنّ لك افساده بجمعية عمومية Ceremonial؟ هذا في الاساس كان تمرين في التعاون المؤسسي فشلت فيه المؤسسة السودانية الراهنة. مما يؤكد على الطابع الطقوسي لاحزابنا تمسك التحالفات بالاسم الأصلي لإعلان قوى الحرية والتغيير مع أن طبيعة التحالف ومكوناته قد اختلفت منذ تأسيسه في يناير 2019، وكان يفقد جزءا من نفوذه كل مرة مع انسلاخ هذا الفصيل او ذاك. بل حتى المجموعة التي انحازت للمكون العسكري سمت نفسها قوى اعلان الحرية والتغيير - الكتلة الديمقراطية، بل حولت في طقوسيتها تقليد الاعتصام الى اعتصام ممعن في طقوسيته نال بامتياز اسم اعتصام الموز. المسألة هنا ليس مسألة اسماء فقط وتغير طفيف في الاسم للتمايز وانما رغبة طقوسية دفينة للحفاظ على الاسم الطقوسي السحري كمعوّض للنفوذ المفقود للتحالف الاصلي بانقسام هذا الطرف او ذاك. وهذا في النهاية عجز عن التعاون المؤسسي، عجز موروث، هو انزلاق احزاب السودان في تربة المؤسسة الطقوسية.
لننظر الان الى القضايا الاساسية التي تؤكد تحول القوى المدنية نفسها نحو الطقوسية، وفي أحسن فرض الى الإذعان للطقوسية وغرق الاحزاب والتحالفات في التقاليد الطقوسية للمؤسسة السودانية. بعد إزاحة البشير، اهملت قحت قضية الحرب والسلام وترتكها كليا في ايدى المكون العسكري. هذا مخالف لتقاليد المؤسسة السودانية قبل انحدارها. من مجريات وتقاليد، بل من يوميات الانتفاضة الشعبية السودانية هي بحث القوى المدنية عن السلام فورا بعد سقوط الدكتاتورية بل احيانا قبل سقوطها. في يوميات ثورة اكتوبر 1964 كانت ندوة الجامعة الشهيرة من أكبر احداث الثورة. أكثر من ذلك عُين المرحوم سر الختم الخليفة كرئيس وزراء لحكومة أكتوبر بشبه اجماع القوى المدنية لصلته الحميمة بالجنوب وثقة الاخوة الجنوبيين تجاهه. وغض النظر عن النتائج، عقد مؤتمر المائدة المستديرة تحت اشراف القوى المدنية وكان سكرتيره المرحوم بروفسور محمد عمر بشير. كان الحال هكذا بعد سقوط دكتاتورية نميري. كانت أول تحركات القوى المدنية بعد انتفاضة مارس ابريل 1985 حول السلام، محادثات كوكادام. وقد دفع المواطنون الذين سعوا اليها ثمنا غاليا لذلك التحرك وسندتهم القوى المدنية على نحو لا يسع المجال للخوض فيه الان. وآخر تحركات القوى المدنية في فترة التعددية الثالثة 1986-1989 كانت حول السلام، اتفاقية الميرغني-قرنق.
أما حكومة قحت فقد سلمت هذه القضية الجوهرية بالكامل للمكون العسكري في حكومة الفترة الانتقالية، وانخرط العسكر في مسلسل جديد من الطقوسية في مفاوضات جوبا للسلام ووقع بالفعل اتفاق طقوسي مع الحركات المسلحة لم يؤثر حتى في تحسين الحياة في معسكرات النازحين دع عنك قضايا الحرية والتغيير. باركت حكومة قحت سلام طقوسي زائف مكّن من جديد لاستمرار المؤسسة الطقوسية التي أرسي تقاليدها نظام المؤتمر الوطني. بل أكثر من ذلك أعطت قحت لنفسها المبرر للمحاصصة. بل أكثر من ذلك مر من تحت أنوف ساسة قحت تحضير المكون العسكري لحاضنة بديلة من نفس قماشة المؤسسة الطقوسية.
القضية الثانية المعبرة بقوة عن غرق القوى المدنية في الطقوسية كانت الفشل في تكوين المجلس التشريعي. مارست قحت المركزي سياسة Kick the can down the road. هذا باختصار التسويف والمماطلة الى أن مات مطلب المجلس التشريعي. هنا لا اشكك في شرفاء قحت (المركزي)، لكن أقول هو انزلاق قدم التحالف ووقعه تحت سلطان الطقوسية الذي ضرب المؤسسة ككل. فمن ناحية كان المكون العسكري ينسج في مؤامرته بتكوين حاضنة من خلال سلام جوبا الطقوسي مما زاد الامر تعقيدا وظهرت مطالب الحركات المسلحة في نصيبها من مقاعد هذا المجلس التشريعي. ومن ناحية اخرى كان هنالك شريك سابق ذو نفوذ اخلاقي، التغيير الجذري - هو ايضا غارق في الطقوسية مثل قحت – يشكك في النسب التي تقترحها قحت بل في سلطتها وحقها في تسمية هذه النسب. وكان هنالك تجمعين للمهنيين. لكن في النهاية لا يجدي لوم اي جهة فقد خسرت جماهير الانتفاضة جسد كان من شأنه قلب المعادلة كلها.
في النهاية، قد يتسأل القاريء:"طيب! ما هو الحل؟" الحل ليس سهلا عندما تمسك بتلابيب مؤسسة ما الطقوسية. لكن بداية الحل تكمن في التفكير في الازمة والنظر للذات والآخر وفهم الأزمة على اساس انها ازمة مؤسسة تموت بين أيدينا وان السبيل الوحيد والمخرج هو التعاون المؤسسي نحو ترتيبات مؤسسية جديدة. لكل الاحزاب والتحالفات المدنية برامج تعتقد ان بها اسباب السعادة للمواطن السوداني. هذا جيد، ولكن المطلوب الان ابسط منذ ذلك. في ظني إن المطلوب هو صيانة حق الحياة للإنسان السوداني والحريات الاساسية وحقوق المواطنة المتساوية والقضاء على غول الفساد واهدار الثروة القومية. هذا هو المدخل للتعاون المؤسسي مع كل من يؤمن بذلك.
أود أن اشير في هذه الخاتمة الى مفهوم التكلفة الهالكة لظهور او تأسيس مؤسسات جديدة High sunk fixed costs of institution emergence وهو مفهوم في الاساس يتعلق بإعاقة التعاون المؤسسي. الترجمة له في ظني هو "التكاليف الثابته غير المحسوبة في الثمن النهائي - ربما افضل ترجمة هي التكاليف الهالكة لظهور المؤسسة". دعنى اولا أن أقدم مثال للتكلفة الهالكة: إذا اردت شراء سلعة ما من السوق واستغليت سيارتك او المواصلات العامة وذهبت الى اكثر من سوق بحثا عن السلعة المرادة واخيرا وجدتها في دكان ما، ستدفع الثمن كاملا، لكن لن يدخل في تحديد الثمن النهائي تكلفة المشوار من الحاج يوسف الى سوق بحري أو سوق ام درمان او السوق الافرنجي في بحثك. ستدخل فقط التكلفة في موقع الانتاج وضرائب الصادر والوارد والرسوم الجمركية..الخ. ستكون انت الرابح في النهاية. هذا باختصار المطلوب من احزابنا والقوى المدنية، عدم التفكير في التكاليف الهالكة الان وهي تأجيل برنامجك الممتاز الذي يؤرقك يوما بعد يوم ورغبتك في حكمنا من أجل سعادتنا. أنجز لنا مؤسسة يستقر فيها الانسان السوداني دون خوف وسنتظرك على ناصية الشارع.
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الحریة والتغییر التعاون المؤسسی التغییر الجذری القوى المدنیة تجمع المهنیین فی النهایة فی الاساس
إقرأ أيضاً:
الصليب الأحمر يحذر من الانهيار التام للرعاية الصحية في غزة
حذرت اللجنة الدولية للصليب الأحمر من أن نظام الرعاية الصحية في قطاع غزة يوشك على الانهيار التام، في إطار الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل بحق الفلسطينيين في القطاع منذ أكثر من عام ونصف.
وقالت اللجنة في بيان لها أمس الأحد إن أغلب المصابين الفلسطينيين في الحوادث الأخيرة بغزة كانوا يحاولون الوصول إلى مواقع توزيع المساعدات التابعة للآلية الأميركية الإسرائيلية.
ولفتت اللجنة إلى أن الأيام القليلة الماضية شهدت تصاعدا في وتيرة الأعمال العدائية حول المستشفيات القليلة المتبقية التي لا تزال قيد التشغيل بغزة.
كما دعت إلى الحفاظ على ما تبقى من مرافق رعاية صحية في القطاع لتفادي مزيد من الخسائر بالأرواح.
وشددت اللجنة على أن الطاقم الطبي يواجه تحديا بإنقاذ الأرواح في ظل استمرار تعرضه للرصاص الطائش، مما يعرّض سلامة العاملين بالمجال الطبي والمصابين على حد سواء للخطر، ويهدد استمرارية عمل المستشفى الميداني.
وأكدت أن الوتيرة غير المسبوقة لوصول المصابين -الذين يحتاج كثير منهم إلى تدخل فوري- أنهكت الطاقم الطبي واستنزفته.
وخلص الصليب الأحمر في بيانه إلى أن نظام الرعاية الصحية في غزة يوشك على الانهيار التام.
إعلانوشدد الصليب الأحمر على أن أعضاء الطاقم الطبي يواجهون تحديا في إنقاذ الأرواح تحت وابل الرصاص، مما يهدد سلامتهم واستمرار عمل المستشفى الميداني.
وخلال الأسبوعين الماضيين اضطر مستشفى الصليب الأحمر الميداني في مدينة رفح (جنوب القطاع) إلى تفعيل إجراءات الاستجابة لحوادث الإصابات الجماعية 12 مرة إثر استقباله أعدادا كبيرة من المصابين بطلقات نارية وشظايا، وفق البيان ذاته.
وأشارت اللجنة في بيانها إلى أن عدد الحالات التي استقبلها المستشفى خلال هذه الفترة تجاوز 916 حالة، من بينها 41 شخصا أُعلن استشهادهم فور وصولهم.
وعلى الصعيد نفسه، قالت مديرة المستشفى الميداني غريس أوسومو "نواصل استقبال أعداد كبيرة من المرضى يوميا، ونضطر إلى وضعهم في أي مكان متاح، بما في ذلك النقالات الموضوعة على الأرض".
فخاخ المساعداتوقبل ساعات من بيان الصليب الأحمر أعلن المكتب الإعلامي الحكومي في قطاع غزة ارتفاع عدد ضحايا فخاخ المساعدات الأميركية الإسرائيلية إلى 125 شهيدا و736 مصابا و9 مفقودين منذ 27 مايو/أيار الماضي، بعد استشهاد 13 فلسطينيا وإصابة 153 آخرين في هجومين أمس الأحد.
وبعيدا عن إشراف الأمم المتحدة والمنظمات الإغاثية الدولية، بدأت تل أبيب منذ 27 مايو/أيار الماضي تنفيذ خطة توزيع مساعدات إنسانية عبر ما تعرف بمؤسسة غزة للإغاثة الإنسانية، وهي جهة مدعومة إسرائيليا وأميركيا، لكنها مرفوضة من قبل الأمم المتحدة.
ويجري توزيع المساعدات في ما تسمى "المناطق العازلة" جنوبي غزة ووسط القطاع، وسط مؤشرات متزايدة على فشل هذا المخطط، إذ توقفت عمليات التوزيع بشكل متكرر بسبب تدفق أعداد كبيرة من الجائعين، مما دفع القوات الإسرائيلية إلى إطلاق النار، وهو ما خلّف قتلى وجرحى في صفوف المدنيين.
كما أن الكميات الموزعة توصف بأنها شحيحة ولا تفي بمتطلبات مئات الآلاف من الجائعين في القطاع.
وتتم عملية التوزيع وفق آلية وُصفت من منظمات حقوقية وأممية بأنها مهينة ومذلة، حيث يُجبر المحتاجون على المرور داخل أقفاص حديدية مغلفة بأسلاك شائكة، في مشهد شبهه مراقبون بممارسات الغيتوهات النازية في أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية.
إعلانوأقرت إذاعة الجيش الإسرائيلي بأن هذا المخطط يهدف إلى تسريع إخلاء سكان شمال القطاع من خلال حصر توزيع المساعدات في 4 نقاط فقط تقع جنوبي غزة.