يمثّل الفضاء مساحة أكبر لرؤية كوكبنا ومكنونات موارده منذ بدايات النصف الثاني من القرن الماضي الذي انتقل فيه الإنسان من الأرض إلى الفضاء محققا نقلة تاريخية بوصوله إلى القمر والدوران حوله وسبر أغواره بالوصول إلى اكتشافات استطاعت أن تخدم البشرية خلال الأعوام السبعين الماضية.
وشكّلت محاولة إرسال أقمار اصطناعية لمراقبة الأرض والفضاء محطة ناجحة لاكتشاف الفضاء عملت على تقريب المسافات بين العالم من شرقه إلى غربه، ومن شماله إلى جنوبه، عبر اتصالات صوتية ثم صورية ونقل حي مباشر مما جعل الإنسان يعيش اللحظة عبر تقنية اختصرت الكثير من الجهد على الإنسان ومكَّنته من الوجود في كل زوايا العالم في آن واحد.
ويعد مؤتمر الشرق الأوسط للفضاء، الذي تستضيفه سلطنة عمان اليوم ممثلة في وزارة النقل والاتصالات وتقنية المعلومات بالتعاون مع شركة يوروكنسلت من الاستحقاقات المهمة في ظل التوجهات المستقبلية نحو ترجمة أهداف رؤية عُمان 2040 من أجل استشراف المستقبل وتطوير الإمكانيات للاستفادة من موقع سلطنة عمان وقدراتها عبر المركز الوطني للفضاء والتقنية المتقدمة والذكاء الاصطناعي والتي من أبرزها المشاركة في مشاريع الفضاء القادمة التي يمكنها تحقيق عديد المكاسب للبلد، منها على المستوى التقني والمناخي والبيئي والمراقبة المستمرة للأحوال الجوية وزحف البحار على اليابسة وتطوير وتأهيل الكوادر الوطنية.
ولا يخلو المؤتمر من النظرة التجارية حول الاستفادة من كل الممكنات المتوفرة خلال السنوات العشر المقبلة على استقطاب الفرص الاستثمارية، إضافة إلى الترويج لقطاع الفضاء في المنطقة والذي يمكن أن يكون مناخا مهما للاستثمارات وتطوير تقنيات الفضاء.
المؤتمر الذي يحضره ما يصل إلى 400 مشارك و70 متحدثا من دول العالم إضافة إلى 15 مسؤولا من وكالات الفضاء والشركات العالمية، ينتظر أن يخرج بعديد التوصيات المهمة التي تواكب التوجهات المستقبلية في هذا القطاع.
لعل التركيز على تشجيع تدفق الاستثمارات المالية ونقل وتعزيز التقدم التقني والخدمات الفضائية وتوطين التقنيات المرتبطة بها وبحث تطورات سوق الاتصالات الذي يعد أحد أبرز أسواق العالم في الوقت الراهن والاستفادة من المليارات التي يحصدها ومراقبة الأرض والاستدلال على مواردها أمر بالغ الأهمية.
خاصة أن دولا ذات إمكانيات كبيرة تتنافس فيه حيث بلغ عددها 90 دولة في العالم، ناهيك عن أن صناعة الفضاء حققت في عام 2021م قرابة 377 مليار دولار مقارنة بـ290 مليار دولار في 2015، ويتوقع أن يقفز الرقم في 2030 إلى 642 مليار دولار متقدما إلى التريليون بعد ذلك بسنوات قليلة، وتستحوذ 5 دول على نسبة 82% حتى عام 2020 هي الولايات المتحدة الأمريكية والصين وفرنسا وروسيا واليابان.
المؤتمر يعد فرصة مهمة على المسارات المختلفة الاقتصادية والاستثمارية والبيئية والمناخية وتطوير التقنيات المتعددة وتخفيض تكلفة الاتصالات عبر التقنيات الحديثة.
نجاح المؤتمر يعتمد على أهمية توظيف الذكاء الاصطناعي الذي يعد طفرة سوق العمل في كل المجالات والذي يمكن أن ينقل استثمار الفضاء ومجالاته إلى آفاق أرحب في المرحلة المقبلة.
ما يهم هنا هو أن وجود سلطنة عمان على خريطة الفضاء أمر ملحّ بما يمكّنها من مواكبة التطورات العلمية في هذا المجال وسيعزز من مكانتها وقدراتها وإمكانياتها في حقل تطوير التطبيقات باستثمار الذكاء الاصطناعي، والذي يعد سوقا رائجا ومهما في خريطة العالم الجديد الذي نعايش مستجداته بشكل متسارع.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
في ذكرى رحيله.. ألبير قصيري حكيم العدم الذي سخر من العالم ومات ضاحكا
في غرفته الصغيرة بفندق "لوروبير" الباريسي، جلس ألبير قصيري، الذي تحل اليوم ذكرى رحيله، يحدّق في العالم من خلف نافذة، لا يخرج إلا نادرًا، وأختار العيش في غرفة فندق لأنه كان يكره التملك حيث كان يقول: "الملكية هي التي تجعل منك عبدا"، لم تكن تلك عزلة مفروضة، بل اختيار صارم، ذلك أن الرجل لم يكن يهوى الحياة كما نعرفها، بل كان يراها مهزلة كبيرة تستحق السخرية لا المشاركة.
من القاهرة إلى باريس: الولادة في قلب الشرقوُلد ألبير قصيري في حي الفجالة بالقاهرة عام 1913 لأسرة شامية ذات أصول سورية ـ لبنانية، متوسطة الحال، وكانت الفرنسية هي لغته الأولى، تعلّم في المدارس الفرنسية، وتأثر منذ الصغر بأدب فولتير وموليير، وقرأ بشغف روايات دوستويفسكي وبلزاك.
كانت فلسفة ألبير قصيري في حياته هي فلسفة الكسل، لم يعمل في حياته وكان يقول انه لم ير أحدا من أفراد عائلته يعمل الجد والأب والأخوة في مصر كانوا يعيشون على عائدات الأراضى والأملاك، أما هو فقد عاش من عائدات كتبه وكتابة السيناريوهات، وكان يقول: "حين نملك في الشرق ما يكفى لنعيش منه لا نعود نعمل بخلاف أوروبا التي حين نملك ملايين نستمر في العمل لنكسب أكثر".
نشر أولى كتاباته بالعربية، ثم انتقل سريعًا للفرنسية، ليكتب كل أعماله لاحقًا بهذه اللغة، كانت القاهرة التي كتب عنها ليست قاهرة النخبة بل قاهرة الحرافيش، المتسولين، الدجالين، الحواة، الباعة الجوالين، والكسالى الحكماء، ورغم انتقاله إلى باريس في الأربعينيات، ظل العالم المصري الشعبي مسكونًا في أدبه حتى آخر نفس.
الكتابة كسلاح ضد التفاهةلم يكن قصيري من الكُتّاب الغزيرين، بل نشر فقط ثماني روايات ومجموعة قصصية واحدة طيلة حياته، لكنه كان يؤمن أن الجملة الجيدة تأخذ وقتها مثل كوب نبيذ معتّق، فكان يكتب جملة أو اثنتين في اليوم، يحرّرهما عشرات المرات.
في أعماله، لم تكن شخصياته تبحث عن الخلاص، بل عن الضحك من العالم، كان يخلق أبطاله من قاع المجتمع، يُلبسهم فلسفة ساخرة، ويتركهم يهزأون بالسلطة، والدين، والرأسمالية، وكل مظاهر النظام، بلا عنف، بل بابتسامة لامبالية.
من "شحاذون ونبلاء" إلى "ألوان العار".. قصص عن الحُكماء المُهمّشينمن أبرز أعماله، "شحاذون ونبلاء" (1955): رواية عن شاب ثري يختار أن يعيش كمتسول ليصل للحكمة. الرواية هجاء ساخر للطبقة الوسطى والمثقفين المزيفين، و"ألوان العار": عن امرأة تعمل في الدعارة لتُعيل أسرتها في حي شعبي، يكشف بها عن مجتمع لا أخلاقي يتظاهر بالأخلاق، و"بيت الموت المؤكد": تحفة سوداوية عن شخصيات تنتظر الموت في فندق بائس لا يزوره أحد، و"العنف والسخرية": في هذه الرواية تظهر فلسفته العدمية بوضوح، حيث لا وجود لحلول بل فقط سخرية من كل شيء.
رجل عاش ومات في غرفة واحدةتزوج ألبير قصيري من ممثلة مسرحية فرنسية ولكن لم يدم هذا الزواج طويلا وعاش بقية حياته أعزب وحين كان يسأل عن السعادة كان يقول أن أكون بمفردى، وكانت حياته كلها غرفة، وكتاب، وسجائر، وأحاديث هامسة مع أصدقاء نادرين، وعندما اشتد عليه المرض في سنواته الأخيرة، ظل يبتسم ويقول: "كل شيء سخيف إلى حد لا يُحتمل.. حتى المرض".
مات في يونيو 2008، ولم يشيّعه سوى قلّة، لكنه ترك إرثًا فريدًا يقول لنا إن الكُتّاب الحقيقيين لا يحتاجون إلى جمهور واسع، بل إلى جملة صادقة، تسخر من العالم وتظل باقية.