ذكرت مجلة "فورين بوليسي" الأمريكية، أن الهجوم الجريء الذي شنته أوكرانيا على سفينة حربية روسية كبرى في شبه جزيرة القرم في الساعات الأولى من يوم 26 ديسمبر الماضي كان بمثابة حلقة أخرى في استراتيجية كييف لحرمان روسيا من السيطرة على البحر الأسود، وأنه مع خروج معظم سفن أسطول البحر الأسود الروسي من الميناء الأصلي في سيفاستوبول، لم يعد هذا الأسطول قادرا على العثور على ملاذ آمن في أي مكان على طول شبه جزيرة القرم، خاصة وأن جميع الموانئ هناك معرضة حاليا للهجوم.

ويؤكد معهد دراسة الحرب - الذي يتخذ من الولايات المتحدة مقرا له - أن ميناء سيفاستوبول على البحر الأسود شهد انخفاضا مطردا في عدد السفن البحرية الروسية بين يونيو وديسمبر 2023. وبينما تبذل روسيا قصارى جهدها لمهاجمة البنية التحتية لأوكرانيا، فإن تحركها المحفوف بالمخاطر لنشر السفن والغواصات المسلحة بصواريخ "كاليبر" متعددة المهام في البحر الأسود يعرضها لهجوم أوكراني محتمل، وهو ما يعد اعترافا ضمنيا بأن روسيا لم تعد قادرة على الاعتماد على موانئ شبه جزيرة القرم.

واعتبرت "فورين بوليسي" أن نجاح أوكرانيا في هذا الصدد يعود إلى الصواريخ والطائرات بدون طيار المنتجة محليا، والتي يتم إطلاقها أحيانا باستخدام قوارب زودياك أو زلاجات نفاثة (جيت سكي). لكن أقوى هجمات أوكرانيا جاءت من الجو، حيث استخدمت كييف طائراتها المقاتلة التي تعود إلى الحقبة السوفييتية لإطلاق صواريخ منتجة محليا وصواريخ زودها بها حلف شمال الأطلسي (ناتو)، وهي الهجمات التي تم شنها تحت حماية الدفاعات الجوية الأوكرانية المتقدمة - بما في ذلك الدفاعات الأجنبية المقدمة حديثا لها- والتي تسقط بانتظام غالبية الصواريخ والطائرات بدون طيار الروسية المتجهة إلى أهداف أوكرانية.

وأشارت المجلة الأمريكية إلى أن أوكرانيا استطاعت بذلك قطع خطوات كبيرة نحو حرمان روسيا من السيطرة على البحر والمجال الجوي فوق أراضيها وما حولها، وبالتالي منعت البحرية والقوات الجوية الروسية من العمل والإفلات من العقاب، متسائلة عما إذا كان ما تقوم به كييف كافيا لتحقيق النصر؟ 

وقالت المجلة إنه بالنسبة للعديد من المراقبين الغربيين، لا يبدو النصر ممكنا في مواجهة موجة تلو الأخرى من القوات الروسية التي تسحق الدفاعات الأوكرانية. وربما تكون استراتيجية أوكرانيا المتمثلة في حرمان روسيا من الاستخدام الحر لبحرها ومجالها الجوي ناجحة، ولكن في ظل الظروف الراهنة، لا تستطيع أوكرانيا هزيمة الجيش الروسي على الأرض، ولا تستطيع الدفاع ضد كل صاروخ يضرب أهدافا مدنية.

ويرى بعض المحللين أن أجزاء كبيرة من الغرب يستشعرون حاليا أن أوكرانيا تخسر الحرب البرية، الأمر الذي لا يترك للبلاد أي طريق إلى النصر لاسيما وأن روسيا تجبر المدنيين الأوكرانيين على الخضوع، ما قد يدفع كييف في مرحلة ما إلى وقف إطلاق النار والسعي من أجل السلام.

ولكن المشكلة في هذا السيناريو هي أنه يعني الهزيمة ليس فقط لأوكرانيا، بل أيضا للولايات المتحدة وحلفائها في أوروبا وآسيا. ومن شأنه أن يشجع كلا من روسيا والصين على متابعة أهدافهما السياسية والاقتصادية والأمنية دون رادع بما في ذلك الاستيلاء على أراض جديدة في أوروبا الشرقية وتايوان.

وتساءلت "فورين بوليسي" عن مدى رجاحة هذه الرؤية؟! أم أن النجاح الذي حققته أوكرانيا في البحر والجو يشير إلى احتمال التوصل إلى نتيجة مختلفة؟ أم أنه يمكن هزيمة الجيش الروسي من خلال تعزيز جاهزية أوكرانيا للقتال بطرق جديدة؟ 

ولفتت المجلة إلى أنه إذا سألت أحد الخبراء العسكريين الأمريكيين، فإنه سيؤكد أن مفتاح طرد الروس (من أوكرانيا) هو إخضاعهم لهجمات جوية دقيقة لا هوادة فيها، تتزامن بشكل جيد مع عمليات لقوات الأسلحة المشتركة على الأرض. وفي حين يستخدم الأوكرانيون في الوقت الراهن الأسلحة المتاحة لهم بشكل مثير للإعجاب لضرب القوات الروسية على المستوى الاستراتيجي، كما هو الحال في شبه جزيرة القرم، واستهداف مناطق القيادة واللوجستيات، إلا أن النجاح على المستوى التكتيكي يظل حتى الآن بعيد المنال. ولتحقيق اختراق تكتيكي على الجبهة البرية يؤدي إلى نجاح عملياتي واستراتيجي، سيتعين على الأوكرانيين أن يكونوا أكثر فعالية من الجو.

وتشدد "فورين بوليسي" على أنه لكي تكون القوة الجوية حاسمة في عام 2024، يجب على القوات المسلحة الأوكرانية تحقيق التفوق الجوي، خاصة وأن المزيد من الأسلحة المصممة خصيصا لهذا السيناريو من شأنها أن تجعل أوكرانيا أكثر نجاحا على الجبهة في مواجهة روسيا.

ودللت المجلة على ما ساقته بالإشارة إلى تأكيد القائد العام للقوات المسلحة الأوكرانية، فاليري زالوجني، أنه للخروج من المأزق الموضعي الحالي والعودة إلى حرب المناورات، حيث تتمتع أوكرانيا بميزة، فإن القوات الأوكرانية تحتاج إلى التفوق الجوي، والقدرة على الاختراق، وقدرة أفضل على مكافحة بطاريات الصواريخ، والمزيد من الأصول للحرب الإلكترونية. ونوهت المجلة إلى أن زالوجني يتحدث هنا عن ثلاثة مكونات رئيسية على وجه التحديد، وهي: طائرات الاستطلاع القتالية بدون طيار التي تستخدم لتنسيق الهجمات بالمدفعية (والتي يمكن أن تشمل طائرات TB2 تركية الصنع، أو MQ-1C Gray Eagles، أو MQ-9 Reapers، أو الطائرات بدون طيار رخيصة الثمن خفيفة الوزن المصممة حسب الطلب والقادرة على استخدام أسلحة بعينها)، والطائرات المسلحة بدون طيار المخصصة لقمع الدفاعات الجوية للعدو، فضلا عن أجهزة محاكاة صواريخ أرض جو متوسطة المدى لردع الطيارين الروس، وأخيرا مركبات غير مأهولة لإزالة الألغام.

وأشارت "فورين بوليسي" إلى أن هذا المزيج من القدرات يذكرنا بالطريقة التي مارستها الولايات المتحدة وقوات حلف شمال الأطلسي (ناتو) خلال الحرب الباردة في ألمانيا الغربية لمواجهة القوات البرية المتفوقة عدديا في "حلف وارسو" والمحمية بدفاعات جوية متعددة الطبقات. وقد تم تطوير فريق الهجوم الجوي المشترك (JAAT) لمزامنة طائرات الهليكوبتر الهجومية والمدفعية والدعم الجوي القريب من الطائرات المقاتلة لضمان وجود وابل مستمر من النيران في حالة وقوع هجوم. وكان الهدف من هذا المزيج هو منح القوات القدرة على المناورة والمرونة اللازمة للتغلب على كثافة الأعداد، وتجنب حرب الاستنزاف، وتجنب نوعية القتال الدموي الذي يميز المأزق الحالي في أوكرانيا.

وأوضحت المجلة أنه في حالة أوكرانيا، فإن فريق الهجوم الجوي المشترك الحديث سوف يشمل، بين أشياء كثيرة، طائرات بدون طيار مسلحة تحمل صواريخ "مافريك" و"هيلفاير"، وذخائر متسكعة (نظام تسليح جوي، تحوم فيها الذخيرة حول المنطقة المُستهدفة لبعض الوقت وتقوم بالهجوم بمجرد تحديد موقع الهدف)، وقذائف مدفعية موجهة بدقة، وصواريخ موجهة بعيدة المدى تطلقها الطائرات. وسيتم تنسيق هذه الأنظمة في بيئة كهرومغناطيسية يشكلها المشغلين الأوكرانيين للسيطرة على المجال الجوي المحلي، وإشباع ساحة المعركة بالذخائر، وإزالة الألغام لفتح الطريق أمام هجوم بري. 

ويجب هنا تدارك استعداد روسيا لتحمل معدلات كبيرة من الضحايا؛ ما يستلزم أن يكون فريق الهجوم المشترك الأوكراني أكثر فعالية في مجال الدفاع؛ لصد القوات المتقدمة وإلحاق الهزيمة بها، ما يفتح الفرص أمام أوكرانيا لاستغلال التغير المفاجئ في حظوظها استراتيجيا، ويمنحها فرصة للقتال.

وعليه، فإذا تمكنت أوكرانيا من تحقيق الزخم في الحرب البرية، والذي لم تتمكن من تحقيقه خلال هجومها المضاد الفاشل في الصيف، فسوف يكون أمام كييف مسار حقيقي نحو النصر. وسيمر هذا المسار عبر براعة أوكرانيا الواضحة في البحر والجو، مقترنا بمزيج متطور من التقنيات على الأرض. ولن يكون هذا المسار مسارا إلى النصر لأوكرانيا فقط، بل للولايات المتحدة وحلفائها أيضا.

المصدر: البوابة نيوز

كلمات دلالية: أوكرانيا روسيا طائرات بدون طیار شبه جزیرة القرم البحر الأسود فورین بولیسی إلى أن

إقرأ أيضاً:

خبير عسكري: مواجهة روسيا وأوكرانيا ضربت معايير الحرب التكتيكية

قال الخبير العسكري والإستراتيجي العميد إلياس حنا إن الحرب الروسية الأوكرانية قلبت المفاهيم العسكرية المتعارف عليها، مشيرا إلى أن الطائرات المسيّرة والصواريخ غيرت قواعد الاشتباك وأدخلت الجيوش في مرحلة جديدة من الصراع.

وأوضح حنا، في تحليل للمشهد العسكري بالحرب الروسية الأوكرانية، أن خصائص هذه الحرب تجاوزت الأساليب التقليدية، بعدما نجحت أوكرانيا في تنفيذ هجمات بطائرات مسيّرة على عمق الأراضي الروسية، مستهدفة مواقع إستراتيجية مثل القاذفات بعيدة المدى.

وأضاف أن ما تشهده المدن اليوم من قصف متبادل يظهر طبيعة مواجهة جديدة لا تعتمد فقط على السيطرة الميدانية، بل تضع شبكات المواصلات وخطوط الإمداد والقدرات التقنية على رأس الأولويات التكتيكية للجيشين المتقاتلين.

ويأتي هذا التطور بعد أن أعلنت أوكرانيا، اليوم الاثنين، أن روسيا شنت هجوما واسعا بطائرات مسيّرة استهدف أساسا مطارا عسكريا قرب الحدود الغربية، وأسقطت خلاله الدفاعات الجوية 460 مسيّرة من أصل 479 و19 صاروخا من أصل 20.

وأكد حنا أن المدينة الأوكرانية بوكروفسك تمثل مركزا إستراتيجيا مهما لشبكة سكك الحديد، وإذا تمكنت القوات الروسية من السيطرة عليها، فذلك سيفتح الطريق نحو مدن كراماتورسك وسلوفيانسك، المعقلين الأساسيين في إقليم دونيتسك.

إعلان

وأشار إلى أن السيطرة على بوكروفسك تمثل أولوية لموسكو، لأن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ضم هذه الأقاليم الأربعة بمراسيم رسمية، مما يعكس الرغبة الروسية في فرض أمر واقع تفاوضي على الأرض عبر التقدم الميداني.

أسلوب المراجل

ولفت إلى أن الجيش الروسي يتبع أسلوب "المرجل" العسكري، وهو أسلوب تقليدي يعود إلى الحربين العالميتين، حيث يعتمد على تطويق المدينة أو المنطقة المستهدفة ثم قصفها بشكل مكثف لتسهيل السيطرة عليها لاحقا.

وبيّن أن الجغرافيا الأوكرانية المعقدة، بوجود 16 ألف جسر و23 ألف نهر وأكثر من 22 ألف كيلومتر من السكك الحديدية، تجعل من هذه الحرب مواجهة تدور بين أطراف المدن والريف والمراكز الحيوية لوجستيًا وتنقّليًا.

وتناول حنا أيضا دلالة دخول القوات الروسية حدود مقاطعة دنيبرو، مشيرا إلى أن هذا التقدم ليس بهدف السيطرة الشاملة، بل يشكل حركة التفاف تهدف لتطويق بوكروفسك وقطع طرق الإمداد الأوكرانية الواصلة إليها.

واعتبر أن ما يجري في دنيبرو يعكس سعيا روسيا لعزل مناطق القتال عن خطوط التموين اللوجستي للقوات الأوكرانية، تماما كما حدث سابقا في كورسك داخل روسيا حين قطعت القوات الروسية طرق التواصل وأنهت المقاومة.

وعن إعلان روسيا نيتها إنشاء منطقة عازلة في تلك المقاطعة، قال حنا إن موسكو أصبحت تسيطر على نحو 20% من الأراضي الأوكرانية، وهو ما يعادل 120 ألف كيلومتر مربع تقريبا، لكنها لم تستكمل السيطرة على كامل دونيتسك وخيرسون.

وأضاف أن هذه السيطرة الجزئية تعزز الموقف التفاوضي الروسي الذي يشترط انسحاب القوات الأوكرانية من المناطق الخاضعة لنفوذ موسكو مقابل أي تقدم على طاولة التفاوض، ما يعكس البعد الإستراتيجي لتحركات الكرملين.

مقالات مشابهة

  • روسيا أنجزت تبادل الدفعة الثانية من أسرى الحرب مع أوكرانيا
  • خبير عسكري: مواجهة روسيا وأوكرانيا ضربت معايير الحرب التكتيكية
  • القاهرة الإخبارية تكشف عن أخر تطورات الحرب الروسية الأوكرانية
  • روسيا تعلن اكتمال المرحلة الأولى من تبادل الأسرى مع أوكرانيا
  • الكرملين: روسيا مستعدة لمواصلة المحادثات مع أوكرانيا والوفاء باتفاقيات التبادل
  • زيلينسكي: أوكرانيا بحاجة إلى إنهاء الحرب.. ومستعدون للتفاوض مع روسيا
  • روسيا: تقدم القوات الروسية بأراضي دنيبروبتروفسك هو الواقع الجديد
  • روسيا تعلن وصول قواتها إلى منطقة وسط أوكرانيا
  • أوكرانيا تشن هجوم بالمسيرات على العاصمة الروسية
  • أوكرانيا تحدد موعد تبادل الأسرى مع روسيا