الجزيرة:
2025-05-16@15:19:20 GMT

مثقف ضد السلطة

تاريخ النشر: 25th, January 2024 GMT

مثقف ضد السلطة

مثلما أنّ محمد علي باشا 1769 – 1849 م هو مؤسّس دولة الاستبداد الحديثة القائمة في مصر حتى اليوم والغد، كذلك فإنّ الشيخ عبدالرحمن الجبرتي 1753 – 1825م هو مؤسّس ثقافة الحرية بمعناها الحديث، أي البحث عن الحقيقة، مستهديًا بيقظة الضمير المتجرّد، دون التفات إلى ما قد ينال رضا الحكّام أو يغضبهم، ودون اعتبار لما قد يحظى بإعجاب النخب والعوام أو ما يسخطهم، أسّس الجبرتي سلطة الضمير الحرّ.

الباشا في النصف الأوّل من القرن التاسع عشر أنجز أمرَين استثنائيَّين: أولهما – استقرار السلطة في بلد لم تعرف فيه السلطة معنى وحقيقة الاستقرار لقرنَين من الزمن، حيث ضعْف العثمانيين وتناحُر المماليك. وثانيهما: مركزية السلطة وبسط القانون الموحّد على كافة التراب الوطني بالقدر الذي أنجزه مينا نارمر 3200 قبل الميلاد.

طبعة خاصة من الطغيان

حكم الباشا مصر – منفردًا – نصف قرن، ولم يحدث في القرون الثلاثة السابقة على ولايته أن حكمها أحدٌ أكثر من سنوات تعدّ على أصابع اليد الواحدة. لكن استقرار السلطة وما رافقه من أمن وأمان، ومركزية السلطة وما رافقها من تحديث وعمران، هذا وذاك تمّ إنجازهما بقدر عالٍ من الطغيان الذي أصبح مكونًا عضويًا أصيلًا في بنية السياسة المصرية حتى اليوم والغد، بحيث أصبح من البداهة ألا تصير حاكمًا حقيقيًا لمصر دون أن تُنتج طبعتك الخاصة من الطغيان، طغيان وظيفي يسمح للحاكم بأمرَين وضع أساسهما محمد علي الباشا: الأمر الأول: أن يبقى الحاكم في السلطة ما دام على قيد الحياة، الأمر الثاني: أن يقبض بيد من حديد على كافة مفاصل ومفاتيح السلطة، ومعنى الأمرَين حكم فردي مطلق، مع عدة فوارق مهمة:

أولها: أن الطغيان في عهد الباشا وذريته- على مدى قرنٍ ونصفٍ – أي من مطلع القرن الثامن عشر حتى منتصف القرن العشرين – هو طغيان ساذج ومبتدئ وضعيف، إذا قُورن بالطغيان اللاحق عليه، الطغيان الأعنف من دولة 23 يوليو 1952 م وحتى اليوم. وثانيهما: أن الباشا أسس جيشًا وطنيًا حديثًا أعفى مصر من الاعتماد على الجند المرتزِقة والعبيد المماليك من البيض كانوا أم السود، هذا الجيش هو الهيكل العظمي أو الشاسيه الحديدي أو التصميم الخرساني الذي قامت عليه واستندت إليه الدولة المصرية والمجتمع المصري والهُوية المصرية الحديثة .

وثالث هذه الفوارق: أن الباشا أسّس الجيش، لكن لم يحكم بالجيش، حكم حكمًا مدنيًا محضًا، الجيش فقط كان للقتال، لم يكن الجيش في عهد الباشا وذريته من بعده مؤسسة حكم ولا صانع قرار سواء في السياسة أو الاقتصاد أو المجتمع، بل قرار الحرب والسلم ذاته لم يكن قرار الجيش، فقط كان قرار نخبة الحكم من المدنيين.

رابع هذه الفوارق: أن الجيش في عهد الباشا كان مثل غيره من جيوش القرن التاسع عشر في أوروبا مؤسسة محترفة يديرها المدنيون ولا تدير هي المدنيين.

مثقف متحرر

الجبرتي يختلف عن كل من جاؤوا بعده من رموز الثقافة المصرية في أنه جرّب مذاق الحياة في مناخ الحرية السلبية قبل أن يؤسس محمد علي باشا الاستبداد المطلق، الحرية السلبية التي عاشها الجبرتي في النصف الثاني من القرن الثامن عشر لم تكن نتاج توازن فعَّال بين صلاحيات الحكم وحقوق المحكومين وحرياتهم، لم تكن نتاج حالة سياسية ناضجة ومستقرّة، لكن كانت نتاج أمرَين: سلطة هشّة غير مستقرة وغير قابضة على أزمّة الأمور، يقابلها طبقة حضرية مصرية في العواصم والبنادر تتشكل من جمهرة واسعة من التجار والعلماء والصوفية وأصحاب الحِرف والمهن، وكلما ازدادت هشاشة السلطة، ازدادت هوامش الحريات والحقوق ومساحات المناورة والحضور السياسي التي تستمتع بها وتستفيد منها الطبقات الحضرية الناشئة.

في مقدمة كتابه: " عجائب الآثار في التراجم والأخبار"، حدَّد موقفه وموضعه وموقعه كمثقف مستقل متحرر من أي التزام أو طاعة تجاه أي سلطة سياسية، وهو كذلك – بالبداهة – تحرّر من أي مسعى للمنافع المادية والأدبية من وراء الكتابة، كذلك التحرر من أهواء النفس وميولها مع أو ضد هذا أو ذاك.

كتب يقول: " ولم أقصد بجمعه – يقصد الكتاب – خدمة ذي جاه كبير، أو طاعة وزير، أو طاعة أمير، ولم أداهن فيه دولةً بنفاق أو مدح أو ذم مباين للأخلاق، لميل نفساني، أو غرض جسماني، وأنا أستغفر الله من وصفي طريقًا لم أسلكه، وتجارتي برأس مال لم أملكه ".

عنف واستئصال

سجّل الجبرتي تاريخ السنوات الأولى من حكم محمد علي باشا من 1805 – 1822 م، حيث توقف عن الكتابة بعد أن لقي نجله مصرعه، ويُقال إن الباشا ذاته كان وراء مقتله، توقف عن الكتابة 1822 م حتى مات 1825م، وتبقى عظمته في أنه رصد حجم العنف الذي تأسست عليه الدولة الحديثة، وهو العنف الكامن في طبعها وتحت جلدها وعمق تكوينها، وهو العنف الذي تستدعيه الدولة الحديثة كلما احتاجت إليه واستلزمه أمر إعادة تثبيتها من جديد، إذا تعرّضت لهزة أو تعثرت في كبوة، هو العنف الذي ميّز وما زال يميز علاقاتها برعاياها أو مواطنيها.

في كتابه: " مصر في القرن الثامن عشر : دراسات في تاريخ الجبرتي "، يذكر محمود الشرقاوي 1909 – 1971م أنه " مما لا شك فيه، أنّ الباشا كان يعرف ما سجّله الجبرتي عن سيئاته ومساوئ حكمه، وأن الباشا جزع من ذلك، واستاء منه أكبر الاستياء، وقد أراد الباشا أن يرد على الجبرتي، من طريق غير مباشر، فطلب من شيخ الأزهر الشيخ محمد العروسي الذي تولى المشيخة بعد الشيخ الشنواني – هذا تمييز مهم؛ لأن والده كان شيخًا للأزهر، ثم نجله كذلك جاء شيخًا للأزهر، أي الجَد والأب والحفيد تولوا المشيخة – طلب محمد علي باشا من العروسي الأوسط أن يكلف أحد كبار العلماء بتأليف كتاب يعارض ما سجّله الجبرتي، فوقع التكليف على الشيخ خليل بن أحمد الرجبي الشافعي، الذي وضع كتابًا ملأه مدائح في محمد علي باشا والإشادة بذكره، وتوجد من هذا الكتاب نسخة خطية في دار الكتب المصرية تحت رقْم 585 تصنيف تاريخ".

بعد ذلك، وبالخبرة التي كسبها من طول المكث في الحكم، تعرف الباشا على وسائل البروباغندا الحديثة، واجتذب عشرات من الصحفيين والمؤرّخين والرحّالة والجواسيس الغربيين الذين نسجوا – بأمره – سردية عبقريته كمصلح للشرق على خطى الغرب أو نابليون الشرق، كما كان يطيب له أن يوصف، وهؤلاء نسجوا السردية كمثال وليست كواقع، كتجربة نجاح عبقرية في المطلق، لا كتجربة تأسست على العنف والاستئصال وإرهاق المصريين في تحقيق مطامح فردية.

التحرر من قيود السلطة

عاش الجبرتي عمره بين عامي 1753 – 1825 م، النصف الثاني من القرن الثامن عشر والربع الأول من القرن التاسع عشر، وهي فترة اتسمت بدرجة عالية من عدم الاستقرار، وصراعات السلطة في داخل نادي الحكم المملوكي المغلق، واستهزاء المماليك الجدد بالسلطنة العثمانية في إسطنبول، حيث نجحت مغامرة علي بك الكبير 1728 – 1773 م في الاستقلال بمصر والشام والحجاز واليمن والبحر الأحمر، وحيث تجرأ الفرنسيون لأول مرة منذ الحملة الصليبية السابعة 1250م بقيادة لويس التاسع 1214 – 1270م على غزو الشرق الإسلامي من مصر في حملة نابليون 1798م، وحيث دخلت مصر في حزام الصراعات الأوروبية بين الفرنسيين والإنجليز على الاستعمار والسيطرة على تجارة العالم غير الأوروبي مَن في أميركا اللاتينية وآسيا وأفريقيا.

وحيث باتت السلطنة العثمانية رجل أوروبا المريض، وحيث تفتَّتت السلطة في مصر وشهدت عقودًا عدة من السيولة والاضطراب كثرت فيها مظالم الحكام رغم ضعفهم، وكثر فيها احتجاج الشعب بصورة غير مسبوقة وغير ملحوقة، حقبة طويلة من الاحتجاجات الشعبية لم يوقفها غير تمكن الباشا – بمساعدة أوروبا – من تأسيس سلطة مستبدة تملك أدوات السيطرة الحديثة، وفي مقدمتها العنف المنظم الممنهج المشروع، عنف الدولة الوطنية المقدسة.

امتاز الجبرتي بأنه وُلد في أعلى بيوت الأرستقراطية المصرية، والده الشيخ 1698 – 1774م كان من ألمع علماء الشرق سواء في مصر أو عموم الديار الإسلامية، جمع بين علوم الدين والطب والجبر والحساب والهندسة والموازين، بيته قِبلة لطلاب العلم يتوافدون عليه من كل الجهات بما في ذلك أوروبا، مكتبته من كبرى مكتبات الشرق، علاقاته واسعة بالأمراء المماليك في مصر والسلاطين العثمانيين في إسطنبول، ترك لولده ثروة ضخمة كانت سندًا له في التحرر من ربقة الحكام، فلم يبذل الجبرتي أيَّ جهد في التقرب من الحكام قبل أو بعد مجيء محمد علي باشا.

ظل متحررًا من أي قيد يربطه بالسلطة، واحتفظ – مع محمد علي باشا بالذات – بخصومة سياسية وفكرية حافظ عليها حتى مات، ولم يشارك صديقه الصدوق الشيخ حسن العطار 1766 – 1835م في التقرب من الباشا، حيث ألّف العطار كتابًا تقرب به للباشا وأهداه إليه وتولى مشيخة الأزهر، علمًا أنّ العطار جدير بالمشيخة لعلمه ونبوغه حتى لو لم يتقرب للحاكم.

ضرب الرموز الوطنية

كذلك، كان موقف الجبرتي، عندما انقلبت نخبة المشايخ ضد نقيب الأشراف عمر أفندي الأسيوطي الشهير في التاريخ بـ "عمر مكرم" 1750 – 1822 م تورّع الجبرتي أن يكون جزءًا من اللعبة الخسيسة، كانت الإطاحة بعمر مكرم بداية مشوار ممنهج من تخليع أسنان الطبقات الحضرية: العلماء والتجار والأشراف والصوفية وأهل الحِرف، الذين اكتسبوا خبرات النضال السياسي في العقود الأخيرة بين القرنين: الثامن عشر والتاسع عشر، كانت الإطاحة بعمر مكرم تأسيسًا لواحدة من أخطر قواعد الطغيان في الدولة الحديثة : ضرب الرموز والقوى الشعبية والنخب بعضها ببعض عبر الترغيب والترهيب، ثم القضاء عليها جميعًا، هذه القاعدة معمول بها حتى اليوم والغد، وهي ضمان الحكَّام للبقاء في السلطة أطول فترة ممكنة، ثم هي ضمان لهم من أجل الاستحواذ على أكبر قدر من السلطة المطلقة.

الوحيد الذي وقف موقف الجبرتي من الباشا هو صديقه المقرب الشيخ أحمد الطحطاوي، وهو تركي الأصل، كان شيخًا لفقهاء الحنفية، وقد استدعوه للتآمر على عمر مكرم، لكنه خاف الله وتورع، فكاد له المشايخ عند الباشا حتى عزلوه عن مشيخة الحنفية، ثم أعاده الباشا للمشيخة في وقت لاحق.

الجبرتي سبق منظمات حقوق الإنسان ومؤسسات المجتمع المدني في رصد المظالم الاجتماعيَّة باعتبارها انتهاكًا لحقوق الإنسان. كما سبق المدارس التاريخية الحديثة في التركيز على التاريخ الاجتماعي قبل التركيز على التاريخ السياسي. هذه وتلك، هي جوهر الروح النضالية التي اتّصف بها الجبرتي كمثقف وكاتب ومؤرخ.

وهذا مقال الخميس المقبل بمشيئة الله تعالى.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: القرن الثامن عشر محمد علی باشا التاسع عشر حتى الیوم من القرن فی مصر

إقرأ أيضاً:

من المنصة إلى القفص

لم يكن خبر وفاة المستشار شعبان الشامي رئيس محكمة جنايات القاهرة وأحد رؤساء دوائر الإرهاب -دوائر استثنائية شُكلت نهاية عام 2013 بغرض الانتقام من خصوم السلطة الحالية- خبرا ككل الأخبار، فبمجرد ذكر اسمه بعد مرور أعوام من انقطاع أخباره وانتهاء أدواره العاصفة بكل الحقوق والمدنسة لقواعد القانون وقيم الإنسانية من على منصة القضاء؛ تذكرت صرخات المظلومين غير المسموعة أمامه من داخل قفص زجاجي عازل خلف قفص حديدي لا يوفر للمتهمين حقهم في مباشرة إجراءات محاكمتهم، حيث لا يُسمع لهم صوت إلا لمن يأذن له صاحب المعالي الذي لا يشغله قانون ولا هو بدستور يبالي، فيخرج أمامه لدقائق لا تخلو من عنفه اللفظي ومحاولات التشويش وكأن الكلام أصبح أمام القاضي في ساحة العدل حرام! تذكرت تلك الحنجرة الغليظة والكراهية الدفينة والتعالي والغطرسة التي لم تقتصر فقط على المتهمين المطلوب التنكيل بهم بل طالت فرق الدفاع عن هؤلاء، وفي مقدمتهم طبعا الرئيس المنتخب الوحيد في تاريخ مصر المرحوم الدكتور محمد مرسي، الذي لم يسلم من إعداماته.

تذكرت بخبر وفاته كيف سيطر العجز على كل آليات القانون أمام آلة توحش لم تكتف بما اقترفته من جرائم بل شرعنتها وحصّنت أدواتها من كل ملاحقة أو عقاب، كيف كانت الآلام وفيرة في نفوس من شاركناهم قصصهم رصدا وتوثيقا، تذكرت حناجر غلبتها في نهر حديثها عن ألم الظلم الواقع على أصحابها، دموع غزيرة تأكدت معها أننا أمام ضمائر ضريرة.

لت دوائر الإرهاب بصورة انتقائية وبمزيد من المخالفات القانونية، بحيث شملت تقريبا كل القضاة الذين أفصحوا عن مواقفهم الشخصية المعادية للفصيل الذي يحاكَم قادته وأعضاؤه أمام القضاء الاستثنائي، وهذا الإفصاح يكفي لإبعاد القضاة عن قضايا متعلقة بالمختلفين معهم، وفي هذا إهدار كبير لمبدأ استقلالية القضاء
تذكرت كيف عبّرت بالكلمات عن وقع أول هذه الأحكام والصدمة التي استيقظت عليها، لم أكن أتخيل أن هناك من بين المنتسبين للقضاء المصري من يُستخدم بهذا الشكل ويقبل أن يكون جزارا يعتلي منصة مقدسة ممسكا بيده سكينا ويذبح الأبرياء وكأن دماءهم ماء، وعلى غير عادتي في الكتابة التي تخضع للتنقيح والتعديل وجدت نفسي أنشر ما كتبته مرة واحدة بلا مراجعة وبلسان مصري أصيل، قلت عن هذه الصاعقة حينها:

"أحكام بتصدر جوّه قاعة محكمة، متفصلة بمقص دار، بمزاج أفنديهم كان القرار، عدموا العدالة بمشنقة، رفعوا قيمة البلطجة، في مهرجان اسمه البراءة للي إيده ملطخة، بدم اللي مات ماسك علم، رافع شعار أنا اللي سلاحي فلساني وبهتافي برج الكون. صلوا الجنازة عالقضاة، النهاردة يوم وفاتهم، والدفنة من غير الكفن، فـ المنيا واجب العزا، واللي رايح أوعى ينسى يجيب شموع، دي الشمس من كتر الدموع ضلمت واتألمت، لسانها حاله مكنش يومك يا عدالة، تبقي سجادة لرئيس يدوس عليكي بجزمته ويدنسك، مطرقة على راس بريء، كل ذنبه أن حلمه يعيش ضلك".

بكل تأكيد لكل إنسان محبوه ومقربون منه؛ له في قلوبهم محبة وود مهما كانت قسوته أو بطشه، ووجه بشوش يحمل لهم كل جميل مهما كان توحشه، يظل الإنسان إنسانا وبحاجة إلى مساحة مهما كانت خفية وصغيرة، يشعر فيها بالحب مهما عظمت بداخله الكراهية ويتمتع بالود والمحبة وإن فاض منه الظلم مع كل البشر. ولذلك فأنا دائما أتفهم كلمات الإطراء والثناء في أشخاص رصيدهم عند كل من يعرفونهم شر بل وشر مطلق، فربما يكونوا من قلائل عاملهم بوجه إنساني وأفاض عليهم من حبه الشحيح.

حالة الفرح التي غمرت قطاعا ليس بالقليل من الشعب المصري بخبر وفاة المستشار الشامي وصلت في بعض المواقف إلى حد الشماتة، وفي المقابل وجدنا هجوما عنيفا على هذا القطاع الذي يعاني من ظلم معالي المستشار المتوفى ومن معه من قضاة الدوائر الاستثنائية.

سارعت دار الإفتاء المصرية برد استنكرت فيه الشماتة وذكرت بأنها ليست من قيم الإسلام ولا الإنسانية! هي نفسها دار الإفتاء بمفتيها الذي لطالما أيد في رأيها الاستشاري المعمول به في القضاء المصري بإعدام مئات الأبرياء من المصريين، ولم تتحلّ ولو لمرة بالشجاعة وصون أمانة الإفتاء لتعلن رفضها هذه الأحكام رغم علمها اليقيني بأن هذه الأحكام ليست نتيجة محاكمات عادلة ولا أدلة صائبة. وهنا وجب سؤالها: ما هو حكم الإسلام في إهدار الدم بغير حق؟ وهل هو أشد عند الله من شماتة المظلوم في موت من ظلمه؟

على الجانب الآخر لم تتأخر أبواق السلطة الإعلامية والسياسية، وحضرت بوقاحتها المعتادة تصوّب سهام السفه والتشويه والطعن بوصلة نفاق واستنكار الشماتة. هؤلاء لم يتركوا نقيصة ولا جريمة إلا وارتكبوها؛ من تدليس وتحريض على الكراهية والقتل والطعن في ذمم الناس والشماتة في أموات المظلومين، وتعبيرهم في مشاهد غير إنسانية لا حصر لها على مدار سنوات عن مدى ابتهاجهم وشماتتهم مع كل حالة وفاة لرموز سياسية وفكرية لا تعترف بشرعية السيسي رئيسا لمصر وتراه قائد انقلاب عسكري! هذا أصدق مشهد لمقولة "الشيطان يعظ"! ولو أنّ في أمثال هؤلاء خيرا أو رجاء لسألتهم: أيهما أشد على النفس وعند الناس يا أهل التدليس والفتن؛ شماتة المظلوم أم فتنة المأجور المزموم؟

يقول أصحاب المصالح مع السلطة والمقربين منها، وغيرهم من المخدوعين فيها بشعارات الوطنية المزيفة، إن الرجل قد قال وقوله الحق وحكم وحكمه العدل، أُسندت إليه قضايا تمس أمن مصر فقضى بما يراه وعاقب بالقانون جناة! إذن فلماذا هذا السقوط الأخلاقي بهذه الشماتة في رجل قام بدوره ولقي الآن ربه؟

لن أخوض ساعيا في ردي على هذا السؤال في تفاصيل جرت في تلك المحاكمات، وعدد لا حصر له من المخالفات التي ستشهد عليها جدران تلك الباحات، ستشهد على اغتيال العدالة في عقر دارها. أستطيع أن أختصر ردي في بضعة سطور، لعل وعسى ترى تجتمع بها الحقيقة مع النور:

- دوائر الإرهاب التي ترأس إحداها المستشار الشامي هي دوائر استثنائية حالت دون مثول المتهمين أمام قاضيهم الطبيعي، وعلى الرغم من ذلك قبِل بالمشاركة في هذه المخالفة.

- تشكلت دوائر الإرهاب بصورة انتقائية وبمزيد من المخالفات القانونية، بحيث شملت تقريبا كل القضاة الذين أفصحوا عن مواقفهم الشخصية المعادية للفصيل الذي يحاكَم قادته وأعضاؤه أمام القضاء الاستثنائي، وهذا الإفصاح يكفي لإبعاد القضاة عن قضايا متعلقة بالمختلفين معهم، وفي هذا إهدار كبير لمبدأ استقلالية القضاء، وبالتالي فإن المستشار الشامي كان ضمن مجموعات استغلت منصبها القضائي في تصفية حسابات شخصية؛ سواء معهم أو مع من آلت إليهم مقاليد الحكم.

- بعيدا عن عدم التزام تلك الدوائر بقواعد المحاكمات العادلة وتمكين المتهمين من حقهم كاملا في الدفاع عن أنفسهم، اعتمدت تلك الدوائر تحريات الشرطة أو اعترافات انتُزعت من المتهمين تحت التعذيب كدليل إدانة وحيد استوجب توقيع عقوبات قاسية مثل الإعدام والسجن المؤبد، في تحد صارخ وفج للقواعد القانونية وما تواترت عليه أحكام محكمة النقض المصرية من عدم جواز الاستناد على تحريات الشرطة كدليل يُقضى به بأحكام قاسية مثل الإعدام والسجن المؤبد.

نحن أمام رئيس دائرة قضائية استثنائية تشكلت بصورة انتقائية للقيام بأدوار انتقامية في حق معارضي السلطة، لم تكتف بذلك بل لم تراع قواعد المحاكمات العادلة ولم تلتزم بالقانون عند إصدار أحكامها، وتغاضت عن وقائع تعذيب تحدث عنها أغلب المتهمين أمامها
إذن نحن أمام رئيس دائرة قضائية استثنائية تشكلت بصورة انتقائية للقيام بأدوار انتقامية في حق معارضي السلطة، لم تكتف بذلك بل لم تراع قواعد المحاكمات العادلة ولم تلتزم بالقانون عند إصدار أحكامها، وتغاضت عن وقائع تعذيب تحدث عنها أغلب المتهمين أمامها، ولعل حديث الشاب محمود الأحمدي عن وقائع التعذيب أبلغ مثال على عدم اهتمام المحكمة بالتحقيق في تلك الادعاءات والتأكد من الناحية الشكلية حفاظا على ما تبقى من قيمة مهنية لتلك الدوائر! لم يُفتح تحقيق واحد في وقائع التعذيب.

فإذا كان رصيده على هذا النحو من العصف بالحقوق وظلم الناس إرضاء لطرف على حساب العدل وقيمه، وهو في الأصل سيف العدالة وحصن المظلوم وملاذه، فلا وجه للاستغراب من فرحة من طالهم ظلمه، خاصة وأن آمالهم في الإنصاف منعدمة في الحياة الدنيا في ظل وجود السلطة التي نفذ لها ما تريد، ولكن آمالهم في خالقهم لم ولن تنقطع، لعل سر هذا الفرح يكمن في أن الحماية التي حالت دون محاسبته في الدنيا قد انتهت بوفاته وانتقل إلى حيث الحساب والعقاب.

هذا الموقف لا يعبر عن خصومة أو عداء مع القضاء المصري كمنظومة لها تاريخ كبير في تحقيق العدالة وإنصاف المظلوم وتطبيق صحيح القانون، وإنما هو موقف رافض لاستخدام القضاء المصري في عمليات انتقام غير قانونية لمواطنين مصريين على خلفية سياسية، فالقضاء المصري بتاريخه ورموزه أكبر من أن يكون أداة بهذا الشكل لسلطة تنفيذية ليس لها سلطان على السلطة القضائية.

وفي ختام هذا الكلام أقول إنه لا يملك أحد الحق في إلقاء لوم على مظلوم نتيجة شعوره بالراحة أو تلقيه خبر وفاة ظالمه بسعادة، فهذا شعور إنساني طبيعي لا يتعارض مع الفطرة السوية ولا النفس النقية، أما الشماتة فهي أمر آخر لا يأتي به قلب بالخير زاخر، لا يحمل في طياته وجه تفاخر.

هذا ما في نفسي ويحمله عقلي، والله أعلى وأعلم..

مقالات مشابهة

  • "انتعاش" في حركة الملاحة البحرية بالمياه العربية
  • وداعاً أيها الشاعر الذي أزعج الظالمين والقتلة والفاسدين كثيراً ..!
  • محمد بن زايد يروي لترامب قصة مستشفى كند الذي وُلِد فيه
  • الهدنة مع الشيطان
  • ناهد السباعي: تدربت علي الغناء من أجل بنات الباشا .. وخوضت تجربة الإنتاج وهذا مصيرها l حوار
  • كذبة نيسان / هبة عمران طوالبة
  • من المنصة إلى القفص
  • ما مشروع هيومين للذكاء الاصطناعي الذي أطلقه ولي العهد السعودي محمد بن سلمان؟
  • الأمين العام لمجلس التعاون لدول الخليج العربي جاسم بن محمد البديوي خلال القمة الخليجية الأمريكية في الرياض: نشكر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على قراره رفع العقوبات عن سوريا وننوه بجهود ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في هذا القرار الذي سينعكس إيجا
  • “حماس” تنعى زهران الذي اغتالته أجهزة السلطة في طوباس