الأيديولوجية لدولة الكيان الصهيوني
تاريخ النشر: 25th, January 2024 GMT
الدولة الصهيونية التي اختلقها -زورا وقهرا- الغرب الامبريالي، تستمد فلسفة وجودها من دعاية تلمودية، وضع فقهَها العقائدي والسياسي زعماءُ الصهيونية اليهودية، ممن نشأوا وتربوا ونهلوا من الثقافة الغربية الاستعمارية، وقد بنوا خيالهم الفلسفي والسياسي على مآسيهم التاريخية، إذ جعلوا فكرة تدمير نبوخذ الثاني صرح حضارتهم أساسا لبناء عقائدهم الفكرية، فاعتبروا سقوط الهيكل أو المعبد الذي بناه النبي سليمان في القدس، نقطة ارتكاز في بناء فكرهم العقائدي للصهيونية، إذ أتى على هيكلهم الأشوريون سنة 587 ق.
ويُعدّ التلمود النص المركزي لليهودية الحاخامية، والمصدر الأوّل للشريعة الدينية اليهودية، الذي جعلته الصهيونية مصدر إلهام لنهضتها، والصهيونية حركة عقدية سياسية، ظهرت كفكرة أيديولوجية من التراث الثقافي والديني اليهودي، وقد أخذت هذه العقيدة في التشكل خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر في التجمعات اليهودية، المنتشرة في شتات وسط دول أوروبا وشرقها.
كانت هذه الفكرة التي اختمرت في عقول زعماء الحركة الصهيونية، تقوم على ضرورة إيجاد كيان سياسي صهيوني، تضمّه دولة قومية تجمع شتات اليهود من دول العالم، وتنهي حالة التيه التي يعيشونها منذ سبيهم الكبير، وتمكّن هذه الدولة من عودة الأمة اليهودية من الشتات إلى الوطن الأم بأرض الميعاد بفلسطين، أخذت هذه الفكرة تشغل بال قادتهم وزعمائهم وتستهويهم لزمن غير يسير، وكانوا يوظفون النصوص الدينية المستلهَمة من التلمود، وهي التي زيّفوا كثيرا من حقائقها على أيدي الكتبة والحاخامات، وقد أدخلوا عليها حقائق لا تمتّ إلى التوراة بشيء من الحق، وإنما حرفوها بما يخدم مشاريعهم الدينية والقومية والسياسية والاقتصادية، لتعبئة الرأي العام اليهودي، كيما يتقبل الفكرة الصهيونية ويسهل تحويلها إلى حقيقة سياسية واقعية.
والأساس الأيديولوجي الذي قامت عليه الحركة الصهيونية، أن الشعب اليهودي عاش دهورا طويلة في أرض الشتات، وأنه إن استمر على هذه الحال، فإن الهوية اليهودية ستزول من الوجود، أو ستذوب في المجتمعات الغربية والشرقية التي يوجدون بها، لأنهم يعيشون في أقليات مهمَّشة ومنبوذة وممقوتة من الشعوب، وكانت هذه الأيديولوجيا قد مسّت لديهم الوتر الحساس، فحفّزت الكثير من زعماء الصهيونية ومثقفيهم وإعلامييهم، على بث هذا الوعي في التجمعات اليهودية، لأن بعض المتدينين اليهود رفضوا فكرة تأسيس الدولة الصهيونية، لأنها تتعارض مع تعاليم التوراة التي تنص على أن اليهود ابتلاهم الله بالتيه في الأرض.
ومما شجّع على بروز هذه النزعة القومية لدى اليهود الصهاينة، ما رأوه من ظهور اتجاه قومي في أوربا خلال القرن التاسع عشر، بعد أن نشأت الدولة الوطنية عندهم في القرنين السابع عشر والثامن عشر، وقد أدى بروز القومية في أوربا إلى نشوب حروب طاحنة بينهم، كل ذلك غذى الشعور القومي الصهيوني، وجعله يطمح إلى تأسيس كيان سياسي يجمع شتات اليهود، تقليدا للنزعة القومية الأوروبية التي عاشوا أحداثها.
وكان تيودور هرتزل الكاتب والصحفي السويسري، أول من طرح فكرة تأسيس الدولة القومية اليهودية، وسرعان ما تلقفتها نخبة المجتمع اليهودي كفكرة قابلة للنمو والتحقيق، في حال اقتناع المجتمع اليهودي بها وناضل من أجل بلوغ أهدافها، ولمّا أخذت الفكرة في النضج أطلق الصحفي ناتال بيرنبون اسم “الصهيونية” عام 1890على هذا الكيان السياسي، الذي يعبّر عن معنى النهضة، وكانت فلسطين هي الوجهة التي اختاروها، لتأسيس كيانهم السياسي المشؤوم.
واستقى هرتزل فكرة الدولة من حاخامات سبقوه في الدعوة إلى ضرورة تجميع اليهود في كيان قومي وسياسي، يحفظون به وحدتهم وهويتهم وثقافتهم، حين رأوا تنامى الشعور بمعاداة السامية في الدول الأوروبية، بعدما طغوا ونشروا الرذيلة وجميع ألوان الشر والفساد والإفساد، فاجتمع الغرب على كره اليهود وبغضهم، لذلك ظهرت فكرة ما أسماه اليهود “معاداة السامية” لاستدرار العطف عليهم من السياسيين والمثقفين والطبقات العليا في المجتمعات الغربية، ولاسيما من قبل الإعلاميين المؤثرين الذين يملكون قوة التأثير في الرأي العام وتوجيهه، على نحو ما نشاهده اليوم في توجيه السياسة الدولية من طريق النقد اللاذع لرجال السياسة والمؤثرين من مختلف الطبقات الاجتماعية العليا في مجتمعاتهم.
ولما وجد هرتزل قبولا لفكرته، ألّف كتابا أصدره عام 1896، تحت عنوان” الدولة اليهودية”، ضمّنه مجموعة من الأفكار والمبادئ، تنظّر لتأسيس الدولة اليهودية، ضمن مشروع دقيق وواضح المعالم، ومن ركائزه الأولى وجوب تشجيع اليهود على الهجرة إلى أرض فلسطين، وإلزام المؤثرين منهم ببعث مشاعر اليقظة وغرس الروح الصهيونية في عقولهم ونفوسهم، وهي الروح التي تقوم على وجوب تأسيس دولة يهودية قومية، على أرض أسلافهم التاريخيين في فلسطين وعاصمتها أورشليم، وإعادة بناء الهيكل رمز الديانة اليهودية والهوية التوراتية.
وأخذت المحاولاتُ الأولى في تجسيد هذا المشروع على أرض الواقع، على أيدي جمعية يهودية اجتمعت بمدينة خاركيف الأوكرانية عام 1882، أطلِق عليها اسم جمعية “بيلو”، ورسموا هدفا أوّليا يكون بمثابة النواة الأولى، لتجسيد فكرة تأسيس الدولة اليهودية، بإنجاز مشروع صهيوني تكون انطلاقته، تأسيس تجمعات فلاحية لليهود الشرقيين في فلسطين.
وكان نشاط الحركة الصهيونية يتنامى في أوروبا، بعدما نضجت الفكرة لدى المجتمع اليهودي وزعمائه، واكتسبت اهتماما سياسيا وإعلاميا متزايدا في الغرب وكثير من دول العالم، بعدما عُقد المؤتمر الصهيوني الأول بين 29 و31 أوت، من عام 1897 في مدينة بال السويسرية.
وقد اكتسبت الحركة الصهيونية اهتماما سياسيا وإعلاميا كبيرا في أوروبا والعالم، بعد انعقاد هذا المؤتمر المشؤوم على فلسطين والأمة العربية والإسلامية.
أعلن المؤتمرُ قيامَ الحركة الصهيونية العالمية، وانتخب لهذا الغرض لجنة تنفيذية، جعلت مدينة فيينا مقرًّا لوجودها ونشاطها، كما قرر المؤتمرون تأسيس مؤسسات مالية، في شكل صندوق يموِّله أثرياء اليهود والمشتركون البسطاء منهم عام 1901، بناء على ما تقرر في المؤتمر الخامس.
بعد هذه الإجراءات المتسارعة، تقاطرت هجراتٌ يهودية منظمة من أوربا الشرقية على فلسطين، وبخاصة من روسيا بعد قيام الثورة البلشفية التي باءت بالفشل عام 1905.
كانت الخلافة العثمانية -حينئذ- تعاني من أمراضها وضعفها وتقهقرها، ولكنها كانت تصارع على البقاء والصمود، فلجأ إليها هيرتزل وطلب منحه “حق عودة اليهود إلى فلسطين” لتأسيس دولتهم على أراضيها، وكانت مساعيه تجري على قدم وساق بين 1896 و1906، وقد أغرى الخليفةَ بأن يسعى لدى الدول الأوروبية لخفض المديونية الكبيرة التي كانت تثقل كاهل دولة الخلافة، فلما فشلت مساعيه ذهب إلى بريطانيا ونسج علاقاتٍ ودية مع ساسة بريطانيا، بما فيهم وزير المستعمرات جوزيف تشامبرلين، فاقترح عليه جوزيف إقامة تجمع لليهود في العريش أو أوغندا، لأن بريطانيا كانت تعلم أن السلطان العثماني لا يقبل فكرة تأسيس كيان سياسي لليهود بفلسطين.
إلا أن هذه المحاولة كانت ناجحة من الوجهة السياسية، إذ استطاع هذا الصهيوني أن يقنع بريطانيا الامبريالية صاحبة الشأن الكبير -يومئذ- بفكرة تأسيس الدولة الصهيونية، والمشاريع الخيالية -دائما- تبدأ بفكرة بسيطة تُرمى إلى الشارع، ثم تنضج وتنمو وتتطور وتخرج إلى التجسيد في أرض الواقع طالما وراءها مطالبون.
انتقد الصهيوني الروسي شاييم ويزمان، رئيس إسرائيل بين 1949-1952، خطة هيرتزل الذي كان ينادي بـ”الصهيونية الديبلوماسية” على أنها غير مجدية، فاقترح بديلا عنها سمّاه “الطريق الملكي”.
واتصل ويزمان مباشرة بمحيط ملك بريطانيا، وأثمرت جهوده بوعد بلفور المشؤوم، الذي صدر في الثاني من شهر نوفمبر 1917، وقد وطّد لتأسيس دولة الكيان الصهيوني بعد ما أتيحت الظروف السياسية في المشرق العربي، بتحالف الوهابيين وبريطانيا على الخروج على العثمانيين والقبول بتأسيس “دولة إسرائيل” في فلسطين في حال وصولهم إلى الحكم، بعدما رفض شريف مكة العرض البريطاني بتأسيس دولة الكيان في قلب الأمة العربية والإسلامية.
كانت المساعي الصهيونية السياسية تتسارع في أعمالها، وتتزامن مع الهجرات اليهودية المنظمة والمتتالية لتدارك الضعف الديمغرافي أمام الفلسطينيين، ومما عطّل تسارع الحركة الصهيونية في تنفيذ مشروعها السياسي والقومي في بناء كيانها القومي، هو معارضة الكثير من اليهود فكرة تأسيس الدولة، لأنه يتعارض مع تعاليم التوراة، ولكن سرعان ما خفتت حركة المعارضة اليهودية، بعد إبادتهم في محرقة الهولوكوست على أيدي النازيين، فانتقصت أعداد المعارضين، وتيسّر على الصهاينة السياسيين تنفيذ وعد بلفور، وأسسوا كيانهم السياسي والقومي في 14 مايو عام 1948، فكانت النكبة الحقيقية التي حلّت بالفلسطينيين والأمة.
وتحققت فكرة هرتزل التي بدأت بفكرة بسيطة، ثم وصلت إلى تأسيس كيان قومي عنصري غاشم، على أرض فلسطين التاريخية، وهاهي عصابات الكيان المهاجرة من شرق أوروبا وشتات العالم تستولي على كل فلسطين، على حساب الحقوق المشروعة لأصحاب الأرض الأصليين، ومما زاد عصابات الكيان غلوًّا وتطرُّفا وخروجا عن القانون والأعراف، هو تخاذل النظام العربي الذي باع كل شيء من أجل مصالح الزمر الحاكمة، ولاسيما زمر المطبِّعين والخائنين والناكثين والقاسطين والمنافقين والمارقين.
والعلمانية التي تتبناها سياسة الكيان، ليست إلا دعاية سياسية لم تتجاوز مستوى الخطاب الاستهلاكي فحسب، لأن محتوى أيديولوجية هذا الكيان وجوهره، هو تعاليم التلمود المتطرفة، التي أوصلت المتطرفين إلى الحكم، وأصبحوا يدعون علانية إلى التقتيل والحرق والتدمير والتخريب والتحطيم والتعذيب لكل الفلسطينيين.
فضلا عن كون سياسة الكيان الداخلية سياسة عنصرية راديكالية، لأن ممارساتهم على بني ملّتهم من اليهود الفلاشا الأحباش ويهود العرب سياسة عنصرية مُفرِّقة، فقد جعلوهم من الطبقات الاجتماعية الدنيا، التي لم تحظ بأي امتياز سياسي أو قيادي أو وظيفي سامي إلا في القليل النادر.
خير الدين هني – الشروق الجزائرية
المصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: الحرکة الصهیونیة تأسیس کیان
إقرأ أيضاً:
هزيمة الصهيونية
حاتم الطائي
◄ إسرائيل وبدعم أمريكي سعت لرفع علامة نصر زائفة في حربها مع إيران
◄ 12 مليار دولار الخسائر الأولية لإسرائيل في "حرب الأيام الـ12"
◄ رماد الحرب لم ينطفئ.. واشتعال نيرانها سيقود لمآسٍ غير مسبوقة
في الوقت الذي يتباهى فيه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بأنَّه "دمَّر" البرنامج النووي الإيراني، مُستخدمًا 12 قنبلة من طراز "جي بي يو-57"- والتي يجب أن تكون محرَّمة دوليًا؛ حيث تزن القنبلة الواحدة منها أكثر من 30 ألف رطل- تتواصل التقارير الاستخباراتية والإعلامية الأمريكية التي تُفيد بأنَّ المفاعلات النووية الإيرانية لم يلحق بها ضرر كبير؛ بل ذهب كثيرون إلى أن القصف الأمريكي الغاشم على المفاعلات الإيرانية لم يكن سوى قصف لهياكل خرسانية لا قيمة لها.
تقييمات أجهزة الاستخبارات التي أوردتها شبكة "سي إن إن" الأمريكية أكدت أن الضربات الأمريكية لم تؤثر على عمليات تخصيب اليورانيوم، ويأتي ذلك بالتزامن مع تأكيدات بأن الإيرانيين نقلوا اليورانيوم المخصب وأجهزة الطرد المركزي إلى مواقع آمنة، قبل أيام من القصف الأمريكي. هذه المعلومات وغيرها مما يتوالى تباعًا تؤكد أن الطرف الأمريكي ومن ورائه الإسرائيلي، قد سعيا فقط إلى رفع علامة نصر زائفة، بعدما نجحت الصواريخ الإيرانية بأنواعها وأحجامها وقدراتها النوعية والمختلفة، في دك مدن الاحتلال الإسرائيلي، مثل تل أبيب وحيفا وبئر السبع وغيرها، وأصبحت المشاهد التي كان يراها الإسرائيلي في غزة، تنتشر في هذه المدن، وظل الإسرائيليون مختبئين في الملاجئ طيلة 12 يومًا، استطاعت إيران فيها ولأوَّل مرة في تاريخ المواجهات مع الكيان الصهيوني، أن تقصف العمق الإسرائيلي، وتُدمِّر البنية التحتية العسكرية، خاصة مقرات قيادة جيش الاحتلال وقيادة جهاز المخابرات "الموساد"، وقيادة جهاز المخابرات العسكرية "أمان"، ومعهد وايزمان للعلوم المعروف بأنَّه "العقل النووي" لإسرائيل.
هذه الحرب- التي بدا للبعض في مُستهلها أنَّ إسرائيل حققت نصرًا على إيران باغتيال عدد من قادتها العسكريين والأمنيين والعلماء النوويين- انقلبت وبالًا وخسرانًا على هذا الكيان العدواني المُجرم؛ إذ لم تتردد إيران في الرد بكل قوة، مُرتكزة على قدراتها العسكرية الهائلة، وتماسكها الداخلي المتين، وهذه نقطة حاولت إسرائيل والولايات المتحدة اللعب عليها، واستغلالها، ظنًا منهما أنَّ النظام الإيراني سيسقط من داخله، وقد استعانت إسرائيل في ذلك بعملاء وجواسيس على الأرض، لكن المؤسسات الإيرانية، التي تُشكِّل "الدولة العميقة"، نجحت بجدارة في الحفاظ على اللُحمة الوطنية، واستمرت هذه اللُحمة حتى بعد انتصار إيران على إسرائيل. ولا شك أنَّ مشهد الجنازات المهيبة التي شُيِّع فيها القادة والعلماء الذين اغتالتهم يد الغدر الصهيونية، أبلغ دليل على تماسك الشعب الإيراني خلف قيادته، إدراكًا منه بأهمية الحفاظ على كيان الدولة من الانهيار، حتى لو اختلف البعض منهم مع السياسات، لكنهم يتفقون على الوطن الإيراني.
خسائر إسرائيل في حربها مع إيران، فاقت كل التوقعات، إذ تُشير تقديرات موثَّقة إلى أن الكيان الصهيوني كان يتكبّد يوميًا مليار دولار أمريكي، ما يعني 12 مليار دولار خلال أيام الحرب، وهذه فاتورة ضخمة لا تستطيع أمريكا الوفاء بها لإسرائيل أو تقديم "خطة مارشال" إسرائيلية على غرار "مارشال الأوروبية" في أعقاب الحرب العالمية الثانية. لذلك نرى أنَّ استعراض ترامب للعضلات الأمريكية، من خلال قنابل "بانكر باستر" الخارقة للتحصينات، ليست سوى إخراج هوليودي عديم القيمة، حاول من خلالها ترامب إثبات أنه صاحب البصمة الأخيرة في هذه الحرب، ودعمًا منه لصديقه مجرم الحرب بنيامين نتنياهو، لإخراجه من أزمته الطاحنة. لكن ما لم يُدركه ترامب ولا المجرم نتنياهو، أن الإيرانيين أُمة، وليست دولة تضم مواطنين ورعايا، والأُمة تدافع عن حقها حتى آخر رجل منها، لذلك ومع تدخل ترامب وإعلان وقف إطلاق النار بين إيران وإسرائيل، لقّنت إيران إسرائيل والولايات المتحدة درسًا لا يُنسى؛ حيث استبقت دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، وقصفت مواقع استخباراتية وعسكرية ومخازن سلاح، وألحقت بها أضرارًا غير مسبوقة.
والوضع الراهن أشبه بمرحلة اللاسلم واللاحرب، فبينما توقفت الصواريخ وربضت الطائرات المُقاتلة في حظائرها، إلّا أن ما يُمكن أن يُدبر في الخفاء، قد يُفضي إلى ما هو أعظم مما شاهدناه على مدى 12 يومًا، ولذلك ربما تعمل إيران حاليًا على تسريع وتيرة زيادة تسليحها النوعي وخاصةً ما يتعلق بالدفاعات الجوية، وقد تواترت أنباء عن صفقات مرتقبة بين إيران والصين، لشراء مقاتلات صينية متعددة المهام، فضلًا عن أنظمة دفاع جوي لمواجهة أي انتهاك للسيادة الإيرانية.
وهنا يجب أن نقف على أبعاد الموقفين الصيني والروسي؛ حيث اعتقد البعض أنَّ كلًا من بكين وموسكو، لم يُبديا رغبة في الدخول في مواجهات غير مباشرة مع الولايات المتحدة، من خلال دعم طهران، عسكريًا، بينما أظهرت الصين وروسيا، دعمًا سياسيًا قويًا للغاية، سواء من خلال البيانات الدبلوماسية المُستنكرة للعدوان الإسرائيلي ثم الأمريكي، أو بتلمحيات عن أهمية تسليح إيران. وليس أبلغ من ذلك، تصريح ديميتري ميدفيديف نائب رئيس مجلس الأمن القومي الروسي، والرئيس الروسي السابق، بأنَّ إيران قد تحصل على سلاح نووي (رؤوس نووية) من أي طرف، ولا شك أن رجلاً بحجم ميدفيديف لا يمزح ولا يُلقي بالتصريحات جزافًا؛ بل هو يعلم يقينًا ما ينطق به. وهذا يعني أننا أمام احتمالين واردين؛ الأول أن إيران ربما تكون غيّرت عقيدتها النووية، وقررت امتلاك سلاح نووي، ليس من أجل العدوان على أحد، لكن بهدف الردع، وفي ذلك لن تكون إيران قد خالفت فتوى المرشد الأعلى الذي حرَّم استخدام السلاح النووي في الضربات العسكرية. أما الاحتمال الثاني، فيُشير إلى الخطوة التالية، وهي إما تصنيع السلاح النووي، من خلال اليورانيوم المُخصب بنسبة 60% والذي تملك إيران منه حاليًا أكثر من 400 كيلوجرام، وهي نسبة وكمية يقول الخبراء النوويون إنها قادرة على تصنيع سلاح نووي، لكن ليس بنفس كفاءة وقوة تدمير اليورانيوم المُخصَّب بنسبة 90 أو 95%. أو لربما تلجأ إلى شراء السلاح مباشرة من أي دولة نووية، مثل كوريا الشمالية أو الصين أو روسيا ذاتها!
المشهد الضبابي القائم حاليًا، يثير شهية بعض الأطراف لأداء أدوار بعينها، أو لتنفيذ مُخططات؛ فالمنطقة باتت تعيش فوق تنُّور ضخم، يتصاعد اللهب منه ولا أحد يعلم كيفية تفاديه، لكن هناك من يجمع الخيوط ويعُد العُدة لتفجير مُفاجآت، البعض منها مُتوقّع والآخر ربما لا. وهذا التوقعات لا تنفصل أبدًا عن قضية غزة الجريحة، التي ما تزال تنزف دمًا، في مذابح المساعدات، والطحين المعجون بدماء الأبرياء من سكان غزة الأبية. ويؤكد ذلك التسريبات المتتالية عن اعتزام الرئيس الأمريكي الإعلان عن وقف لإطلاق النار في غزة، وتنفيذ هدنة تستمر لمدة 60 يومًا، ومن بعدها يجري الاتفاق على وقف دائم ومستدام لإطلاق النار، بالتوازي مع إبرام اتفاقيات تطبيع أو معاهدات أمنية مع بعض الدول العربية، والمرشح الأبرز في هذا السياق: سوريا.
واختيار سوريا لم يكن عشوائيًا أو اعتباطيًا؛ بل قائم على رهانات محسوبة، تستهدف في المقام الأول والأخير، قطع شريان الإمدادات نهائيًا عن المقاومة في لبنان، وتهيئة الأجواء للتخلص من الحشد الشعبي في العراق بعد ذلك، من خلال كتائب ومليشيات طائفية مسلحة، تتقاتل فيما بينها؛ الأمر الذي سيضمن لإسرائيل مسلكًا سهلًا نحو إيران، إذا ما أرادت أن تُكرر مقامرتها الخاسرة مجددًا.
ويبقى القول.. إنَّ الهزيمة النكراء لإسرائيل في حربها مع إيران، ومحاولات دعم الولايات المتحدة لها والتغطية على هذه الهزيمة، تؤكد أنَّ هذا الكيان الهش ليس سوى نمر من ورق، ويتعين على دول المنطقة الاتحاد والوحدة لمواجهة أي عربدة صهيونية، تستهدف أمننا واستقرارنا، وهو ما يفرض بالتبعية الاعتماد على الذات، وتعزيز الوعي الشعبي بالمخاطر التي تُحدِّق بِنا، والسعي نحو الانعتاق من الهيمنة الأمريكية، التي لا تستهدف سوى سلب إرادة الدول بعد نهب مواردها وخيراتها، وما دون ذلك سيُفضي إلى مزيد من الهزائم النفسية قبل المادية، وسيسمح لثُلة من المتطرفين الصهاينة وتيار اليمين الأمريكي، أن يفرض سطوته على المنطقة، وتنفيذ مخططاتهم لما يصفونه بـ"شرق أوسط جديد"، أشبه بجمهوريات الموز والحدائق الخلفية للقوى الإمبريالية. وفي المرحلة القادمة الخوف كل الخوف من انزلاق بعض الدول العربية في تطبيع مجاني مع الكيان الصهيوني دون إعلان للدولة الفلسطينية حسب مخطط ترامب فيما يعرف بـ"مشروع الدرع الإبراهيمي"، الأمر الذي سيفقد هذه الدول شرعيتها وما تبقى من شعبيتها الفقيرة، ومما سيعرض المنطقة لانفجارات مستقبلية قادمة، ويحرمها من فرص السلام والتنمية، وهذا ما يريده ويطمح إليه أعداء الأمة "والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون".