حين تُستخدم معاداة السامية لتجريم الحقيقة وحماية الاحتلال
تاريخ النشر: 7th, July 2025 GMT
أحمد الفقيه العجيلي
خلال متابعتي للأحداث المروّعة في غزة، وقفت طويلًا عند تقرير أممي لافت كانت قد أعدّته فرانشيسكا ألبانيز، المقرّرة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
التقرير نُشر في يوليو 2025 تحت عنوان: "من اقتصاد الاحتلال إلى اقتصاد الإبادة"، ويكشف بلغة قانونية وأخلاقية مدى الجُرأة التي بلغها التواطؤ الدولي مع الجرائم الإسرائيلية.
بحسب ما ورد في هذا التقرير، فإن ما يحدث في غزة لا يمكن وصفه إلا بكونه إبادة جماعية مكتملة الأركان، تتورّط فيها عشرات الشركات العالمية، بدعم مباشر أو غير مباشر، عبر التمويل أو التوريد أو الشراكة اللوجستية.
وقد استندت ألبانيز -بحسب ما أفادت به عدة تقارير إعلامية- إلى شهادات ميدانية وتوثيقات حقوقية لتقديم توصيات صارمة، منها الدعوة إلى فرض حظر على تصدير الأسلحة لإسرائيل، ومحاسبة الشركات المتورطة.
❖ السامية: الأصل والمعنى
بحسب ما اطلعت عليه من مصادر لغوية وتاريخية، فإن مصطلح "السامية" في أصله تصنيف لغوي، لا علاقة له بالدين أو القومية. يشير إلى مجموعة من الشعوب التي تتحدث لغات تنحدر من أصل مشترك، منها العربية والعبرية والآرامية والأمهرية وغيرها. وبذلك، فإن العرب واليهود -بل وغيرهم- جميعهم يُصنّفون ضمن الشعوب السامية.
إلا أن استخدام المصطلح تغيّر لاحقًا، وتحول من توصيف لغوي إلى أداة تُوظَّف سياسيًا وأيديولوجيًا، خصوصًا في العقود الأخيرة.
❖ من الهولوكوست إلى التوظيف السياسي للمصطلح
تُظهر الدراسات التاريخية أن تعبير "معاداة السامية" ظهر في أوروبا في القرن التاسع عشر، بوصفه توصيفًا لموجات الكراهية والتمييز التي طالت اليهود في بعض المجتمعات الأوروبية. وبعد كارثة الهولوكوست، استُخدم المصطلح بوصفه شكلًا من أشكال التكفير الأخلاقي عن الجرائم التي ارتُكبت ضدهم.
غير أن الملاحَظ -بحسب ما يتكرر في خطابات النقاد والحقوقيين- أن هذا المصطلح خرج عن سياقه، وتحول إلى مظلة تُستخدم لتبرير ممارسات الاحتلال الإسرائيلي، ولقمع كل صوت ناقد لتلك السياسات.
❖ حين يتحوّل النقد إلى تهمة
من خلال تتبعي لعدد من الحوادث الحقوقية والإعلامية، لاحظت أن الاتهام بـ"معاداة السامية" يُستخدم ضد ناشطين وصحفيين وحتى أكاديميين -بل أحيانًا يطال يهودًا معارضين للصهيونية- لمجرد معارضتهم للجرائم المرتكبة بحق الفلسطينيين.
المفارقة المؤلمة أن الشعب الفلسطيني -وهو من أعرق الشعوب السامية- يُتَّهم بمعاداة السامية حين يدافع عن أرضه وكرامته! وهكذا، تنقلب الحقائق:
الضحية متهمة، والجلاد مُحصن بشعارات الأخلاق وادعاء المظلومية.
❖ تقرير ألبانيز: من اقتصاد الاحتلال إلى اقتصاد الإبادة
في 3 يوليو 2025، أصدرت "فرانشيسكا ألبانيز"، المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، تقريرًا بالغ الأهمية تحت عنوان: "من اقتصاد الاحتلال إلى اقتصاد الإبادة".
وصفت ألبانيز الوضع في غزة بأنه كارثي، واعتبرت أن إسرائيل تنفذ "واحدة من أفظع الإبادات الجماعية في التاريخ الحديث"، مطالبة بفرض حظر على الأسلحة المصدرة لإسرائيل، ووقف العلاقات التجارية والمالية معها، ومحاسبة جميع الشركات المتورطة قانونيًا.
وأشار التقرير إلى تورط أكثر من 60 شركة عالمية في التربّح من الجرائم المرتكبة في غزة، من بينها شركات أمريكية كبرى مثل: لوكهيد مارتن، فالانتاير، كاتربيلر، وفولفو، بالإضافة إلى مؤسسات مالية معروفة مثل: BNP Paribas وBarclays. هذه الشركات، بحسب التقرير، تسهم بشكل مباشر أو غير مباشر في دعم آلة الحرب الإسرائيلية من خلال توريد الأسلحة أو توفير البنية التحتية والمعدات الثقيلة أو التمويل.
❖ ردود الفعل الدولية
رفضت الولايات المتحدة التقرير بشدة، ووصفت اتهامات ألبانيز بأنها "لا أساس لها" و"معادية للسامية". وفي يونيو 2025، أرسلت البعثة الأمريكية لدى الأمم المتحدة رسالة إلى الأمين العام أنطونيو جوتيريش، طالبت فيها بإقالة ألبانيز، واتهمتها بدعم حركة حماس وبالتحامل على إسرائيل، معتبرة إياها غير مؤهلة لمنصبها الأممي.
ولم تكتفِ واشنطن بذلك، بل اتهمت ألبانيز بشن "حملة غير مقبولة من الحرب السياسية والاقتصادية ضد الاقتصاد الأمريكي والعالمي".
❖ كلمة تقدير ودعوة للإنصاف
من منطلق الواجب الإنساني والأخلاقي، لا يسعني إلا أن أُعبّر عن تقديري العميق لجهود المفوضة الأممية فرانشيسكا ألبانيز، التي أظهرت شجاعة نادرة في مواجهة واحدة من أعتى منظومات القمع الإعلامي والسياسي، دفاعًا عن مبادئ العدالة وكرامة الإنسان.
إن ما قامت به ألبانيز لا يمثل فقط توثيقًا قانونيًا لجريمة مستمرة، بل هو شهادة تاريخية تنحاز للحقيقة في زمن يُحاكم فيه الضحايا. ومن هنا، فإن من الواجب أن نقف إلى جانبها، وأن نُطالب المجتمع الدولي الحر، وكل من يؤمن بحقوق الإنسان، بأن يُدينوا الحملة الإعلامية الشرسة التي تتعرض لها من قبل القوى الإمبريالية الأمريكية والصهيونية العالمية، لا لشيء سوى لأنها نطقت بالحق.
❖ موقف ألبانيز
رغم الضغوط، دافعت ألبانيز عن تقاريرها، مؤكدة أنها تستند إلى القانون الدولي والشهادات الميدانية، وأن مهمتها هي حماية حقوق الإنسان دون تمييز. ورفضت الاتهامات بمعاداة السامية، معتبرة أن محاولات إسكاتها تهدف إلى تقويض المساءلة الدولية، وإلى تجريم كل من يفضح جرائم الاحتلال.
❖ التمييز بين الديانة والسياسة
من الضروري التأكيد على أن اليهودية ديانة سماوية، نحترمها كما نحترم سائر الديانات.
واليهود بشر متنوعون، فيهم مناصرو السلام، وفيهم المعارضون للصهيونية. أما الصهيونية فهي حركة سياسية استعمارية، قامت على فكرة إقامة وطن قومي لليهود على أرض فلسطين، وما ترتّب على ذلك من نكبة وتشريد واضطهاد مستمر.
ومن هنا، فإن نقد الصهيونية وممارسات الاحتلال ليس معاداة للديانة، بل موقف سياسي أخلاقي.
❖ استرداد المعنى الحقيقي للمصطلح
إذا كان هذا المصطلح قد اختُطف، فإن استعادته تتطلب مشروعًا متكاملًا، يقوم على عدة مستويات:
أولًا: التوعية الإعلامية والشعبية
نحتاج إلى نشر وعي حقيقي حول أصل المصطلح، وحقيقة الشعوب السامية، والتمييز بين الديانة اليهودية والسياسة الصهيونية، يجب أن ننتج محتوىً بلغة واضحة، يُخاطب العقول بعيدًا عن الشعارات.
ثانيًا: تفكيك الهيمنة الخطابية الغربية يجب الرد على الخلط المتعمّد في الإعلام الغربي، وتوضيح أن معاداة الظلم لا تعني معاداة قوم أو دين.
ومن المهم دعم الأصوات اليهودية المناهضة للصهيونية، كشهادات حية تكشف زيف الادعاء باحتكار تمثيل اليهود في العالم.
ثالثًا: تحصين الخطاب العربي والإسلامي
علينا أن نتعامل بحذر مع المصطلحات، وألا نكرّرها دون تفكيك، ويجب التأكيد على أن العرب أنفسهم ساميون، بل إنهم -في فترات كثيرة من التاريخ- كانوا ضحايا حقيقيين للعنصرية الغربية.
❖ اغتنام اللحظة... وتفعيل المقاطعة
في ضوء هذا التقرير الجريء، وما أحدثه من زخم حقوقي وإعلامي، تبدو اللحظة مؤاتية لتحرك جماعي واسع من قبل الدول الإسلامية والعربية، والمنظمات الحقوقية، والمجتمع المدني العالمي، لترجمة هذا الإدانة القانونية إلى فعل ملموس.
لقد أثبتت تجارب سابقة -كما تابعنا في حملات مقاطعة شركات داعمة للاحتلال- أن الضغط الشعبي والمؤسسي قادر على تحقيق نتائج حقيقية، سواء عبر تراجع بعض الشركات عن عقودها، أو انسحاب مستثمرين كبار، أو حتى إثارة نقاشات داخلية في البرلمانات الغربية.
إن المقاطعة الاقتصادية والسياسية ليست مجرد شعار عاطفي، بل أداة مقاومة قانونية وفعّالة، تكفّلها قوانين حقوق الإنسان وحرية التعبير.
ومن هنا، فإن تفعيلها في هذه اللحظة بالذات، يمثل واجبًا أخلاقيًا وفرصة استراتيجية لا يجوز تفويتها.
❖ مسؤوليات الدول العربية والإسلامية
التحرك السياسي والدبلوماسي من خلال الاعتراض على الاستخدام المضلل للمصطلح في المحافل الدولية، والدعوة إلى وضع تعريف دقيق له، يمنع خلط حرية التعبير بالنزعات العنصرية.
2. دعم مراكز الأبحاث والإعلام
تأسيس منصات بحثية وإعلامية قادرة على إنتاج خطاب بديل، يعتمد على التوثيق والمهنية واللغة العالمية.
3. بناء تحالفات واسعة التعاون مع منظمات حقوقية ونشطاء من مختلف الخلفيات القومية والدينية، من أجل فضح الاستخدام السياسي للمصطلح، وإظهار الحقيقة.
4. إصلاح المناهج التعليمية
ينبغي أن تعلّم المدارس والجامعات الجيل الجديد كيف يفرّق بين المفاهيم، ويفهم السياقات، ويتعامل مع المصطلحات بعقل ناقد لا مقلّد.
❖ خاتمة:
تحرير المفاهيم مقدمة لتحرير الإنسان
إن ما حدث –ويحدث- في غزة، كما توثق تقارير أممية عديدة، يرقى إلى مستوى الإبادة الجماعية. ووصم من يُندد بهذه الجرائم بأنه معادٍ للسامية، هو في ذاته اعتداء آخر على الضحايا، وعلى الحقيقة.
الدفاع عن فلسطين ليس موقفًا ضد دين أو قوم، بل هو دفاع عن قيمة إنسانية عليا: العدالة.
"وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ" – [المائدة: 8]
حين تتحرر المصطلحات، يتحرر الوعي... وحين يتحرر الوعي، تبدأ رحلة التحرر الحقيقي.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
كلمات دلالية: معاداة السامیة بحسب ما فی غزة
إقرأ أيضاً:
لماذا غابت الفيديوهات التي توثق ما يجري في الأقصى؟
مع دخول المسجد الأقصى المبارك في موسم الاقتحامات الأطول والأعتى خلال العام، والذي بدأ برأس السنة العبرية، مرورا بيوم الغفران وانتهاء بالموسم الأخطر، وهو عيد العُرش (المظال)، كان لا بد من بسط قضية التغطية الإعلامية لما يجري في المسجد على طاولة البحث والدراسة.
فالمتابع لأحوال المسجد الأقصى لا يخفى عليه التراجع الشديد مؤخرا لعدد الصور والفيديوهات التي توثق الاقتحامات، وما يقوم به أفراد جماعات المعبد المتطرفة داخل المسجد يوميا.
حتى وصل الأمر إلى أن جميع الصور والفيديوهات التي وثقت اقتحامات رأس السنة العبرية في 23 من سبتمبر/أيلول الماضي واقتحامات يوم الغفران مطلع أكتوبر/تشرين الأول الحالي، كانت من خارج المسجد، بل من خارج البلدة القديمة كلها.
وكان عدد لا بأس به من الصور التي بثتها صفحات إخبارية ووسائل إعلام عربية لتغطية الحدث قد التقطت من فوق جبل الزيتون الذي يبعد مسافة حوالي 500 متر هوائي عن أسوار المسجد الأقصى الشرقية.
وهذه الزاوية بدورها لا تغطي إلا مساحة صغيرة من المسجد الأقصى أمام الجامع القبلي، ولا يمكن منها مراقبة ما كان يجري خلال تجمع المستوطنين في المنطقة الشرقية للمسجد، أو خلال أدائهم طقوسهم الدينية في الجهة الشمالية أو الغربية من المسجد الأقصى.
أما الصور والفيديوهات التي أظهرت أفعال هذه الجماعات فكان مصدرها للأسف هو صفحات هذه الجماعات نفسها على وسائل التواصل الاجتماعي، وذلك بعد نشرها صورا وفيديوهات تبين ما فعله أفرادها في المسجد من باب التفاخر بإنجازاتها خلال الاقتحامات.
ولعل أحد أهم النماذج التي بينت خطورة ما يجري هو مسألة نفخ بوق رأس السنة العبري داخل المسجد، حيث غاب هذا الحدث عن التغطيات بشكل كامل، حتى ادعت جماعة "بيدينو" المتطرفة أن المستوطنين نفخوا البوق داخل المسجد خمس مرات في ذلك اليوم، بينما أظهرت شهادات المقدسيين الذين تمكنوا من الوصول إلى الأقصى في تلك الفترة سماعَ صوت البوق مرة أو مرتين خلال اليوم دون تصوير.
إعلانولم يكن بالإمكان تأكيد ذلك أو نفيه، إلى أن نشرت نفس الجماعة المتطرفة فيديو لأحد المستوطنين ينفخ البوق داخل المسجد قبل أن يتم إخراجه من المسجد على يد شرطة الاحتلال.
فيما يحتفي الحاخام المتطرف يهودا غليك عراب اقتحامات المسجد الأقصى المبارك بهذه العملية، ويسوقها كـ"انتصار رمزي" في معركة السيطرة الدينية على المكان.
خلال العام الأخير، شددت قوات الاحتلال قبضتها على المسجد الأقصى المبارك بشكل غير مسبوق، حيث وصل الأمر إلى تدخلها في كل صغيرة وكبيرة داخل المسجد، وحتى التدخل في عمل دائرة الأوقاف الإسلامية كمنع ذكر غزة في خطب الجمعة، أو حتى الإشارة إليها وإن من بعيد، تحت طائلة الإبعاد عن المسجد دون النظر إلى طبيعة شخصية الخطيب ومركزه الديني والاجتماعي والرسمي، كما فعلت مع الشيخ محمد سرندح خطيب المسجد الأقصى، والشيخ عكرمة صبري خطيب الأقصى ورئيس الهيئة الإسلامية العليا، والشيخ محمد حسين مفتي القدس والديار الفلسطينية، وغيرهم.
وقد ترافق ذلك مع تضييق ممنهج على الصحفيين المقدسيين والمصورين الذين يشكلون عين الناس على ما يجري داخل المسجد، إذ أصبح كثير منهم عرضة للاستدعاء، أو الإبعاد، أو مصادرة الهواتف والكاميرات عند محاولتهم توثيق أي حدث، بل وبلغ الأمر بشرطة الاحتلال، تفتيش هواتف المصلين المسلمين أثناء وجودهم داخل المسجد الأقصى؛ للتأكد من أنهم لم يلتقطوا صورا أو فيديوهات للمستوطنين خلال الاقتحامات، الأمر الذي جعل من عملية نقل الصورة من داخل المسجد شبه مستحيلة في كثير من الأوقات.
وتشير شهادات عدد من الصحفيين والناشطين المحليين، إلى أن قوات الاحتلال لم تكتفِ بإغلاق الأبواب في وجوههم، بل قامت في أحيان كثيرة بإخراجهم من باحات المسجد قبل بدء الاقتحامات بدقائق، أو منعهم من دخول المسجد أصلا تحت ادعاءات مختلفة؛ ليبقى الميدان خاليا إلا من المستوطنين والشرطة.
وهذا الإخلاء المسبق للمكان من الإعلاميين والمرابطين يأتي ضمن خطة واضحة لتغييب الصورة الحقيقية لما يحدث، بحيث لا تصل الصورة إلا بعد انتهاء الحدث عبر الرواية الإسرائيلية الجاهزة التي تُقدَم بصفاقة على أنها "صلاة محدودة" أو "زيارة جماعية منظمة" لباحات عامة مفتوحة حسب التعريف الإسرائيلي للمسجد الأقصى.
ومع غياب العدسة الميدانية، تضعف قدرة الرأي العام العربي والإسلامي على متابعة ما يجري في المسجد، لتتحول القدس إلى مجرد عنوان عابر في نشرات الأخبار، بينما تتواصل في داخلها عمليات فرض التقسيم الزماني والمكاني للمسجد الأقصى بهدوء وصمت تام.
فالمشهد الذي كان قبل سنوات يملأ الشاشات بأصوات التكبير والاحتجاج، أصبح اليوم صامتا إلا من بيانات مقتضبة تصدر عن دائرة الأوقاف الإسلامية، أو وزارة الخارجية الأردنية، أو عن بعض المؤسسات المختصة والمهتمة.
إن ما يجري ليس مجرد صدفة ظرفية، بل هو نتاج سياسة طويلة المدى تهدف إلى سلخ المسجد الأقصى عن حضوره الإعلامي، وهو جزء من هندسة الوعي العام بإلغاء المسجد منه.
فالمعركة على المسجد ليست معركة حجارة ومبانٍ فقط، بل معركة رواية وصورة وذاكرة، إذ إن المشهد المرئي هو واحد من أبرز أدوات تحفيز الوعي القادرة على خلق التعاطف لدى الناس، ومن يمتلكُ القدرة على نقل الصورة، يملك القدرة على تشكيل الرواية، ومن يحتكرُ الرواية، يستطيع أن يبرر الفعل ويطمس الحقيقة.
إعلانولأن الاحتلال أدرك مبكرا أن صورة الجندي وهو يقتحم المسجد أو صورة المستوطن وهو يرفع علمه في باحات الأقصى كفيلة بإشعال غضب عالمي واسع، فقد قرر أن يمنع الكاميرات من الدخول، وأن يفتح المجال بالمقابل لعدسات إسرائيلية مختارة تلتقط المشهد بالطريقة التي يريدها هو، ثم تُوزع لاحقا في وسائل التواصل الاجتماعي لجماعات المعبد المتطرفة مصحوبة برؤيتها وتبريراتها للحدث.
ما يزيد خطورة المشهد أن منصات التواصل الاجتماعي التي شكلت على الدوام أداة مهمة لنشر ما يجري في الأقصى، ومقاومة التعتيم الإسرائيلي، أصبحت هي الأخرى ساحة للرقابة الصامتة.
فبمجرد أن تنتشر مقاطع توثق أي اقتحامات، أو اعتداءات على المسجد الأقصى أو المصلين فيه، تُحجب أو تُخفض درجة ظهورها؛ بحجة "مخالفة معايير المجتمع"، وهو ما يجعل التعتيم اليوم أكثر إحكاما وتطورا، إذ لم يعد بحاجة إلى جنود يمنعون الكاميرات عند الأبواب بالضرورة، بل يكفي أن تعمل خوارزميات الشركات الكبرى لحجب الصورة في لحظة.
بالمقابل، فإن المرابطين والناشطين المقدسيين الذين يوثقون لحظات الاقتحام والاعتداء، ولو من بعيد وينشرونها بسرعة قبل أن يقبض عليهم الاحتلال، أصبحوا اليوم خط الدفاع الأول عن الذاكرة البصرية للمسجد، ولولاهم لانقطعت الصلة بين العالم وبين ما يجري فعلا في باحاته. لكن هذه الجهود الفردية، مهما بلغت شجاعتها، تفتقد اليوم إلى منظومة دعم إعلامي ومؤسسي تحميها للأسف.
إذن، فالتعتيم الإعلامي لم يعد مجرد عَرَض جانبي للصراع على المسجد الأقصى، بل أصبح أداة رئيسة في إدارة المشهد. فحين لا تُرى الانتهاكات، لا يُحاسَب أحد، وحين تغيب الصورة، يغيب معها الإحساس بخطورة ما يجري. ولهذا يبدو الاحتلال أكثر حرصا على إغلاق العدسات من حرصه على إغلاق الأبواب.
هذا يفتح الباب للسؤال عن كيفية التعامل مع ما يجري، وهنا لا بد من الإشارة مباشرة إلى الجهات الرسمية في المسجد الأقصى، وتحديدا دائرة الأوقاف الإسلامية التي تتبع وزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الأردنية، التي بات الاحتلال يتعامل معها باعتبارها تدير الوجود الإسلامي داخل المسجد الأقصى فقط، ولا تدير المسجد نفسه، وهذا الأمر ينبغي عدم السكوت عنه وعدم التهاون معه.
إن المطلوب من الأردن الرسمي أن يمارس حقه القانوني والسياسي الكامل في إدارة شؤون المسجد الأقصى المبارك حتى لو أدى ذلك إلى تأزيم الموقف مع إسرائيل، فالتأزيم وإن كان يبدو سلبيا للوهلة الأولى إلا أن نتائجه على المستويين؛ المتوسط والبعيد إيجابية، فالاحتلال الذي يحاول أن يظهر اليوم قويا بإطلاق جنونه في غزة والضفة الغربية في الحقيقة لا يمكنه في هذا الوقت المغامرة بفتح جبهات أكثر من اللازم.
ومغامرة التصعيد والتأزيم مع بلد مثل الأردن، ستعمق الشرخ في المجتمع السياسي الإسرائيلي المنقسم على نفسه أصلا، خاصة بالنظر إلى أن الأردن يقع على أطول خط حدود برية مع إسرائيل.
ملف المسجد الأقصى بالنسبة للأردن يعتبر مسألة وجودية لا يمكن ولا يجوز التهاون فيها مهما كانت النتائج. ولذلك، فإن أقل ما يمكن للأردن أن يفعله هو ممارسة حقه المكفول بموجب القانون الدولي باعتباره يمثل السلطة الدينية صاحبة الحق الحصري في إدارة الأقصى وصيانته وإعماره بما في ذلك مراقبة كافة أرجاء المسجد الأقصى ونشر حراسه فيها لتوثيق ونشر ما يحدث فيه من عدوان لا يمكن السكوت عنه؛ وإلا فإن هذا التعتيم المقصود يمكن أن يكون مدخلا لطمس هوية الأقصى والتأسيس للمعبد معنويا وماديا تحت ستار الحصار والتعتيم، وعند ذلك لن ينفع الندم.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحنمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطبيان إمكانية الوصولخريطة الموقعتواصل معناتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتناشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتناقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outline