لماذا يتصاعد الخطاب المصري ضد اللاجئين؟!
تاريخ النشر: 5th, February 2024 GMT
تصاعدت بشكل مفاجئ لهجة الحكومة المصرية ضد اللاجئين، بعد أن تذكرت مؤخرا الأعباء التي تتحملها بسبب وجودهم المتزايد!! وانتقلت التصريحات تباعا من رئيس الجمهورية إلى قرارات واجتماعات حكومية عقدت خصيصا لمناقشة تقنيين وضعهم.
ويلاحظ التغير السلبي في اللهجة السياسية والإعلامية باتجاه اللاجئين، على عكس ما كانت تتباهي به دائما التصريحات الرسمية كبلد يساوي بينهم وبين المصريين.
وتخلط هذه الإحصائيات بين الأوضاع القانونية للمقيمين في مصر، فأغلب الأجانب هم مهاجرون أو مقيمون بشكل قانوني، وليسوا لاجئين. وهذا الخلط يرجع إلى عدم التفرقة بين اللاجئ والمهاجر أو الأجنبي، واعتبار أن كل من يعيش في البلاد ولا يحمل الجنسية المصرية يعتبر لاجئا.
تخلط هذه الإحصائيات بين الأوضاع القانونية للمقيمين في مصر، فأغلب الأجانب هم مهاجرون أو مقيمون بشكل قانوني، وليسوا لاجئين. وهذا الخلط يرجع إلى عدم التفرقة بين اللاجئ والمهاجر أو الأجنبي، واعتبار أن كل من يعيش في البلاد ولا يحمل الجنسية المصرية يعتبر لاجئا. ويترتب على اختلاف التوصيف، تعامل مختلف من الدول مع كل من المهاجرين واللاجئين بموجب قوانين وإجراءات مختلفة
ويترتب على اختلاف التوصيف، تعامل مختلف من الدول مع كل من المهاجرين واللاجئين بموجب قوانين وإجراءات مختلفة.
وعلى عكس الرقم السابق، تستضيف مصر نحو 289.5 ألف لاجئ وطالب لجوء من 65 دولة، غالبيتهم من سوريا ثم السودان وجنوب السودان وإريتريا وإثيوبيا واليمن والصومال، منهم 194 ألف طالب للجوء و51 ألف نازح حسب مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في حزيران/ يونيو 2022. وبداية من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، تصدرت القائمة الجنسية السودانية تليها السورية.
وجانب كبير من السودانيين يقيم بموجب اتفاقية الحريات الأربع التي وقعتها مصر والسودان عام 2004، وتنص على حرية التنقل والإقامة والعمل وتملك العقارات لمواطني البلدين في البلد الآخر.
وانعكس هذا التوجه المتشدد في الفترة الأخيرة باتخاذ الحكومة المصرية إجراءات مشددة ضد اللاجئين وبشكل خاص مع السوريين والسودانيين، من خلال تقييد تعليمات الدخول، والتضييق على المقيمين منهم من خلال فرض تأشيرة مسبقة على السودانيين الهاربين من النزاع المسلح القائم في السودان والوافدين إلى مصر، والتوقف عن قبول جوازات السفر الممددة، ومنع إضافة الأطفال على جوازات سفر أسرهم، بالمخالفة لاتفاق سابق بين البلدين كان يضمن حرية دخول الأطفال والنساء وكبار السن من الرجال دون الحصول على تأشيرة.
من جهة أخرى، عملت مصر على تقنين أوضاع إقامات السوريين داخل البلاد خلال 3 أشهر، وإصدار إجراءات جديدة تضع شروطا إضافية على الراغبين في الحصول على الإقامة الدائمة،بالرغم من أن الكثيرين منهم لا يملكون جوازات سفر سارية.
ومؤخرا وافق مجلس الوزراء على قانون "لجوء الأجانب"، والذي يُلزم اللاجئين وطالبي اللجوء بتقنين أوضاعهم خلال سنة من تاريخ العمل باللائحة التنفيذية المنتظر صدورها، ومنح الأجانب المقيمين بصورة غير قانونية مهلة لتوفيق أوضاعهم وتقنين إقامتهم مقابل ما يعادل ألف دولار أمريكي.
وانتقلت هذه النغمة بشكل مفاجئ من الفخر إلى خانة الابتزاز، بالمبالغة في أعداد اللاجئين سعيا لطلب مساعدات دولية إضافية مقابل هذه الاستضافة على غرار التجربة التركية مع أوروبا.
كما ظل ملف الهجرة أحد الموضوعات الموضوعة على جدول الأعمال بين المسئولين المصريين ونظرائهم الأوروبيين، بالتأكيد على دور مصر في منع الهجرة غير الشرعية للاتحاد الأوروبي عبر البحر، وطلب مساعدات مالية مقابل ذلك تحت مسمى المساعدات الفنية.
وأخيرا انتقل الوضع إلى ما يمكن أن يطلق عليه اعتبار اللاجئين عبئا اقتصاديا، تمهيدا لفرض أعباء مالية على المقيمين في مصر أيا كان وضعهم.
ويبدو أن البحث عن موارد مالية بالدولار يمثل دافعا رئيسيا لأجهزة الدولة في ممارسة الضغوط على القادمين إلى مصر؛ هروبا من الأزمات الإنسانية في بلدانهم وبشكل خاص السوريون والسودانيون.
يتحمل المهاجرون واللاجئون عبء أوضاعهم المالية؛ بدءا من توفير مسكن والحصول على احتياجاتهم اليومية والعلاج والتعليم سواء من خلال العمل بشكل غير رسمي بأجور زهيدة، أو إنشاء مشروعات اقتصادية على نفقتهم الشخصية، ومقابل ذلك يدفعون الضرائب والرسوم اللازمة للدولة، وأغلب هؤلاء من السوريين
والإشكالية أن الحكومة المصرية لا تعاني من أعباء مادية مقابل استضافة اللاجئين، حيث تتولى مفوضية شئون اللاجئين المسئولية الأساسية في تقديم بعض المساعدات، بالإضافة إلى تقديم بعض الكنائس والهيئات مثل كاريتاس مساعدات إضافية.
وحتى تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، بلغ إجمالي ما حصلت عليه مصر من المفوضية الأوروبية 151 مليون دولار لدعم مؤسسات الدولة التي تستجيب لاحتياجات الحماية والتعليم والصحة للاجئين.
من جانب آخر، يتحمل المهاجرون واللاجئون عبء أوضاعهم المالية؛ بدءا من توفير مسكن والحصول على احتياجاتهم اليومية والعلاج والتعليم سواء من خلال العمل بشكل غير رسمي بأجور زهيدة، أو إنشاء مشروعات اقتصادية على نفقتهم الشخصية، ومقابل ذلك يدفعون الضرائب والرسوم اللازمة للدولة، وأغلب هؤلاء من السوريين.
إلى جانب ذلك، لا تتمتع الحكومة المصرية بتاريخ إيجابي في التعامل مع اللاجئين خاصة من السودان والدول الأفريقية، ولا ينسى الكثيرون واقعة فض اعتصام اللاجئين السودانيين ضد المفوضية في حي المهندسين عام 2005، والتي أسفرت عن مقتل ما يصل إلى 35 لاجئا وإصابة العشرات، بالإضافة إلى ترحيل عدد كبير من طالبي اللجوء من إريتريا وتشاد إلى دولهم رغم مخالفة ذلك لاتفاقية اللاجئين 1951 والتي وقعت عليها الحكومة المصرية.
بالتوازي مع ذلك، بدأت حملات اللجان الالكترونية المصرية في الفترة الأخيرة بالتحريض على اللاجئين من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، والادعاء بأنهم لا يتحملون نفقاتهم، وأنهم يكلفون الدولة مصروفات زائدة وأخيرا تحميلهم أسباب تردي الوضع الاقتصادي باقتناص فرص العمل من المصريين!! وهو ما لا نظنه بعيدا عن توجهات الدولة في هذا الموضوع.
تأتي إثارة ملف اللاجئين مع تزايد احتياجات مصر من النقد الأجنبي كاشفا للهدف الأساسي، بالسعي للوصول لاتفاقات مع المؤسسات الدولية على تلقى قروض أخرى، وممارسة الضغوط على مفوضية شئون اللاجئين وبلدان أوروبا لتلقي أموال إضافية. ويتشابه هذا التوجه مع نهج النظام مع المصريين في الخارج، بمحاولة تلقي أموالهم بطرح مشروعات معينة لجذب العملة الصعبة
في النهاية، تأتي إثارة ملف اللاجئين مع تزايد احتياجات مصر من النقد الأجنبي كاشفا للهدف الأساسي، بالسعي للوصول لاتفاقات مع المؤسسات الدولية على تلقى قروض أخرى، وممارسة الضغوط على مفوضية شئون اللاجئين وبلدان أوروبا لتلقي أموال إضافية. ويتشابه هذا التوجه مع نهج النظام مع المصريين في الخارج، بمحاولة تلقي أموالهم بطرح مشروعات معينة لجذب العملة الصعبة.
وإثارة هذا الموضوع في هذه اللحظة يشير إلى عدد من الأسئلة؛ أهمها:
هل يمكن أن يؤدي استخدام هذا الملف لإخراج النظام من أزمته وحل المشاكل الاقتصادية التي تسبب فيها بسياساته الفاشلة والتي رفعت حجم الديون إلى ما يزيد على 160 مليار دولار؟ هذا ما نشك فيه طالما لم يتم تغيير هذه السياسات أولا.
وما مدى تأثيرها على التزاماته الدولية بحق اللاجئين، وما تفرضه اتفاقية 1951 في شأن رفض العودة القسرية لهؤلاء اللاجئين لبلدانهم، أو فرض إجراءات تعسفية على إقامتهم؟ والمفارقة أنها تأتي في ظل سعي رسمي لتسفير المصريين كعمالة مهاجرة في البلدان الأوروبية لجلب مزيد من العملة الصعبة!!
وما مدى تأثيرها على علاقات النظام بالجوار الإقليمي الذي يعاني من نزاعات عسكرية؛ يبدو أنها ستستمر لوقت طويل في ظل تراجع الدور المصري في الوساطة لحل وإنهاء هذه المشكلات؟
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه المصرية اللاجئين سوريا السودان الهجرة سوريا مصر السودان لاجئين الهجرة مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة رياضة سياسة سياسة اقتصاد سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الحکومة المصریة من خلال فی مصر
إقرأ أيضاً:
البذاءة بوصفها إستراتيجية جمالية للمقاومة وتفكيك السلطة
د. ناهد محمد الحسن
تشير تجارب التاريخ الثقافي إلى أن الفضاء الفني غالبًا ما يستعيد القدرة على قول ما تعجز السياسة عن الإفصاح عنه. تتقدّم الفنون لتصدح باللغة التي لا تستطيع السلطة سماعها او تحمّلها. فاللغة المصفّاة بنت السلطة، أما اللغة المنفلتة فهي بنت الحرية، ولا يجتمع الاثنان في حنجرة واحدة. من هنا، يصبح تتبّع البذاءة في الفنون أشبه بتتبّع التصدعات الدقيقة التي تظهر في جدار السلطة. فكلما اتسعت التصدعات، ارتفع صدى الضحكات، سقطت الهيبة، تراجع الخوف وتطوّرت المقاومة.
فعندما تهيمن السلطة على القنوات الرسمية للخطاب، يصبح الفن بما يتضمنه من سخرية، انحراف لغوي، فجور رمزي، وتوظيف مقصود للابتذال وسيطًا معرفيًا يسمح بإعادة إنتاج الحقيقة خارج الأطر التي تفرضها البنى السلطوية. ولهذا، فإن دراسة البذاءة في الفن ليست بحثًا في الذوق، بل في إمكانات المقاومة داخل الخطاب الجمالي. فكل انحراف لغوي عن المعايير المفروضة هو — في لحظات التحولات السياسية — فعل مقاومة يكشف حدود السلطة ويعيد توزيع القوة الرمزية داخل المجتمع.
من المسرح الإغريقي إلى التنظير الحداثي: جذور البذاءة بوصفها نقدًا للسلطة
يبيّن تحليل مسرح أريستوفان _ الذي نشأ في القرن الخامس الميلادي_أن استخدام الألفاظ الجنسية الفجة لم يكن ناتجًا عن رغبة في الإضحاك وحده، بل عن سعي لفضح النفاق الأخلاقي والسياسي عبر تفكيك “هالة الخطاب الرسمي”. فالمحظور اللغوي، حين يُستدعى إلى المسرح، يعمل كـ أداة لكسر احتكار الطبقات الحاكمة لمعنى الأخلاق. بعد ذلك بقرون، وضع ميخائيل باختين إطارًا تنظيريًا لهذا الدور في مقولته حول الكرنفالية، حيث يتعرض النظام الرمزي السائد لانقلاب مؤقت يسمح للخطاب الشعبي بالهيمنة على الفضاء العام. موضحا للجمهور معنى اللحظة التي بمقدورهم فيها ان يسقطوا الملك، بحدّ الضحكة وليس بحد السيف.
ففي الكرنفال:
– يضحك الشعب على السلطان،
– تتلاشى الفواصل بين “المهذب” و”الوقح”،
– وتتحول البذاءة إلى آلية لنزع هالة السلطة.
في هذه اللحظة، يصبح الضحك أكثر ثورية من أي وثيقة سياسية، لأنه يطيح بالخوف — والسخرية تنزع الشرعية من السلطة أكثر مما تفعل المعارضة الرسمية. ويُظهر هذا التحليل أن البذاءة في سياق الكرنفال ليست انحرافًا أخلاقيًا، بل آلية لتفكيك الهرمية السياسية والاجتماعية عبر تعليق الحدود بين “الرفيع” و”الوضيع”. تدعم الدراسات اللاحقة في السخرية السياسية العربية هذا الطرح، مؤكدة أن الهزل — وخصوصًا حين يتضمن انحرافًا لغويًا — يخلق “عالمًا موازيًا” يتخفف من الرقابة ويتيح إمكانات جديدة للتعبير عن الرفض (Badarneh, 2011؛ Elsayed, 2021).
الأدب والفجور اللغوي: إعادة تشكيل الذائقة وتقويض البنية الأخلاقية الرسمية
يمثل الأدب أحد أهم الحقول التي استخدمت البذاءة لتحدي السلطة الرمزية. رواية د. هـ. لورانس Lady Chatterley’s Lover (1928) لم تُحاكم لأنها جنسية فقط، بل لأنها فضحت نفاق الأخلاق الطبقية في إنجلترا ما بعد الحرب العالمية الأولى. فالعلاقة بين امرأة من النخبة وخادم من الطبقة العاملة كانت جريمة رمزية تهدم المعمار الاجتماعي. القضاء اعتبر الرواية “بذيئة”، لكن التاريخ اعتبرها — لاحقًا — نقطة تحول في تحرير الجسد من رقابة الدولة. البذاءة هنا كانت تكشف ما تحجبه اللياقة: العطب الحقيقي في المجتمع. وفي السياق ذاته، تُظهر دراسة أعمال هيلدا هيلست أن المزج بين السامي والوضيع ليس مجرد خيار جمالي، بل تقنية لزعزعة النسق الأخلاقي وإعادة توزيع السلطة داخل اللغة. وقد فسّرت قراءات باختين ومافيسولي هذا التداخل بوصفه آلية تكشف البنية القمعية التي تتخفى خلف اللغة المنقّاة.
في كتابه الوصايا المغدورة، يذهب ميلان كونديرا أبعد من الدفاع عن البذاءة — فهو يراها جزءًا من “حكمة الرواية”، التي تكشف السخافات الكبرى للسلطة من خلال ما يبدو تافهًا أو مبتذلًا. يلمس كونديرا جوهرًا مهمًا حين يؤكد أن البذاءة ليست خروجًا عن اللغة، بل عودة اللغة إلى حقيقتها الأولى: أن تقول ما يخشاه الجميع.
يتضح من ذلك أن البذاءة في الأدب تؤدي وظيفة مزدوجة: نقد البنية الأخلاقية الرسمية، وفتح المجال لوعي مغاير يتجاوز الحدود التي ترسمها المؤسسات الثقافية والسياسية.
الموسيقى والراب: البذاءة كأرشيف للغضب الاجتماعي ( (NTM نموذجًا
أشار محمد عباس — مشكورًا — إلى أهمية فرقة الراب الفرنسية Suprême NTM كنموذج لتسيس البذاءة. فالاسم ذاته (Nique Ta Mère) يشكل تصريحًا احتجاجيًا يتجاوز الخطاب الأدبي أو الصحفي، ليعبر عن الغضب البنيوي المتولد من تهميش الضواحي الفرنسية. تُظهر الأدبيات المعنية بثقافة الهيب–هوب أن البذاءة هنا ليست إساءة شخصية، بل لغة احتجاجية تشكّل هوية مشتركة ضد عنف الشرطة، العنصرية المؤسسية، الفقر، واستبعاد الفئات المهمشة من المشاركة السياسية.
في أغنية (شرطة Police)، حوّلت هذه الفرقة الشتيمة إلى وثيقة احتجاج سمعي. وعندما حوكمت المجموعة بسبب كلماتها، تحوّلت المحاكمة إلى اعتراف رسمي بأن اللغة يمكن أن تهدد النظام أكثر مما يهدده العنف المادي. لماذا تهمنا تجربة NTM؟
لأنها تجسّد ما يقوله باختين ومارك ليفين و(سارة عوض)، أن الفن يولد سلطة رمزية موازية، وأن اللغة البذيئة قد تكون الشكل الأوضح لانتزاع الاعتراف بوجود الهامش. وهذا يتقاطع مع دراسات الفن الاحتجاجي في المنطقة العربية (LeVine, 2015؛ Awad et al., 2017)، التي تُظهر أن ثقافة الهامش تنزع إلى استخدام أشكال لغوية “غير مصقولة” بوصفها وسيلة لمخاطبة السلطة مباشرة دون وساطة.
البذاءة في الفنون البصرية والشارعية: تفكيك الهيمنة الرمزية
تكشف البحوث الحديثة في الفن السياسي في شمال إفريقيا وغرب آسيا (2023–2024) أن الفضاءات الفنية غير الرسمية — الشوارع، الجدران، الفضاء الرقمي — أصبحت منصات مركزية لإعادة إنتاج خطاب مقاوم. في فلسطين مثلًا، يوضح Alım (2020) أن الجداريات تشكل بنية رمزية مضادة تحافظ على الذاكرة وتؤسس لخطاب سياسي موازٍ. وفي مصر، رهنت Elsayed (2021) على أن السخرية الرقمية تمثل “كرنفالًا جديدًا” يتيح لغات هجينة تمزج بين الفحش والتهكم والصورة الرقمية لإنتاج مقاومة يومية. وتشير الكتب الحديثة عن الفن المقاوم (Art Against Authoritarianism in SWANA, 2024؛ الى أن الأنظمة السلطوية تميل إلى معاقبة النكتة أكثر من معاقبة المقال السياسي، لأنها: تنتشر خارج هياكل السيطرة، تُسقط الخوف، وتحوّل الجمهور إلى منتج للمعنى. وبذلك يتحول الفعل الفني البذيء إلى تحدٍّ مباشر للهالة السلطوية.
السياق السوداني: السخرية الشعبية كآلية لإسقاط الهالة السياسية
تُعد تجربة صحيفة حلمنتيش (أواخر ثمانينيات القرن العشرين) واحدة من أبرز الأمثلة السودانية على استخدام السخرية اللاذعة — وأحيانًا البذيئة — بوصفها آلية تفكيك رمزي للسلطة في سياق ديمقراطي هش. وينسب اليها نقل الصحافة السودانية المنضبطة الى البذاءة، في مفارقة مثيرة للتنظيم االإسلاموي الذي كان يتضرع للشعب السوداني بالطهرانية، مزاحما لأحزاب طائفيّة راسخة في القداسة، مشهرا الفن والكاريكاتير كأدوات لنزع القداسة عن منافسيه. وصول حلمنتيش إلى المجال العام لم يكن مجرد دخول صحيفة ساخرة، بل كان تفكيكًا مباغتًا لمنظومة الوقار السياسي التي حكمت المجال العام لعقود. وهو ما ينسجم مع ما تقترحه الأدبيات المتعلقة بالكرنفال الباختيني: أن السخرية — بما فيها من تهكّم وانحراف لغوي — تعمل على تعليق التسلسل الهرمي مؤقتًا، بما يسمح بإعادة توزيع السلطة الرمزية بين “المرموق” و”العادي”. اعتمدت حلمنتيش على هجاء سياسي مباشر، وعلى تفكيك الصورة المثالية للقيادات التقليدية عبر لغة شعبية غير منقّاة.
هذا النوع من الخطاب وفقا للباحثين، لا يقصد الإساءة الشخصية، بل يعمل — وفق تحليل زعزعة الرسميّة المفرطة للخطاب السياسي، كشف التوتر بين “القيمة الأخلاقية” المعلنة والسلوك السياسي العملي، وإعادة سلطة التقييم إلى الجمهور بدلاً من النخب. وفي إحدى اللحظات البالغة الدلالة — التي كثيرًا ما تُذكر في الذاكرة السياسية السودانية — هي قبول الإمام الصادق المهدي كتابة مقدّمة لكتاب احتوى الرسوم الساخرة التي استهدفته. تجسيد لفكرة أساسية في الثقافة الديمقراطية: أن السخرية جزء من المجال العام، وأن الهالة الرمزية للزعيم ليست ملكًا خاصًا، بل خاضعة للفحص الشعبي. هذا السلوك من جانب القيادات يشكّل مواجهة مختلفة تمامًا عن ردود الفعل السلطوية التي غالبًا ما تلاحق السخرية بالعقاب. وفي المفهوم الباختيني، هذه اللحظة تمثل قبول الحاكم بأن يدخل — طوعيًا — في فضاء الكرنفال، أي فضاء التساوي المؤقت بين السلطة والجمهور.
المفارقة التاريخية: عودة السلاح إلى أصحابه
تُظهر التجربة السودانية في ثورة ديسمبر أن الخطاب الساخر البذيء عاد مجددًا، لكن هذه المرة موجَّهًا إلى الحركة الإسلامية نفسها — التي كانت قد استخدمت حلمنتيش في الثمانينيات لتفكيك خصومها. وهذا يعزز فرضية مركزية في هذا البحث:
البذاءة ليست ملكًا لجماعة سياسية، بل ظاهرة لغوية–اجتماعية تتغير وظيفتها بحسب موقعها داخل الحقل السلطوي. فحين تنتقل الجماعة من الهامش إلى السلطة، تتحول البذاءة التي كانت فاعلة في مقاومتها إلى أداة موجَّهة ضدها، لأن الشروط التاريخية التي شَرعنت استخدامها آنذاك تنقلب عليها. وهكذا تُظهر حلمنتيش ما يسميه باختين بـ”قانون انقلاب الخطاب“: فباختين يرى أن الكلمات لا تنتمي لمن نطقها أول مرة، بل هي كيانات حيّة تتغير دلالتها حسب من يقولها، ولمن يقولها، وفي أي ظرف، وبأي نبرة. هذه الحركة المستمرة تجعل الخطاب غير ثابت وقابلًا دائمًا للانقلاب على سياقه الأصلي. الكلمة التي وُلدت خاضعة قد تتحول إلى كلمة متمرّدة، والكلمة التي صُنعت لتمجيد السلطة قد تنقلب فجأة إلى أداة للسخرية منها.
المفارقة التاريخية: السلاح يعود إلى أصحابه
بعد عقود، وفي ثورة ديسمبر، وُجِّه الخطاب البذيء إلى الإسلاميين أنفسهم — الذين سبق أن استخدموا حلمنتيش ضد خصومهم. هذا يؤكّد قانونًا لغويًا–سياسيًا مهمًا: البذاءة لا تظل سلاحًا بيد طرف واحد. حين تتغير موازين السلطة، يتغير اتجاه الشتيمة. فالبذاءة و إن وضعت في بنى تحت قشرة الدماغ في التشريح، ودفعت الى هامش المدينة، ووصمت بالانحطاط والقذارة فستبقى الخصم الناصع في مواجهة السلطة.
تُظهر التجربة السودانية في ثورة ديسمبر، كما وثّقها الخطاب الشعبي، أن البذاءة لم تكن مجرد رد فعل انفعالي، بل استراتيجية رمزية لإزالة الخوف والتحرر. وقد سبق وقدمت في حلقة لي في يوتيوب أيام الثورة تحليلا عن احتفاء الجماهير بعبارة غير لائقة القتها سيّدة ثائرة على الهواء مباشرة في قناة الجزيرة، لم تصدم المذيع وحده والمشاهدين، ولكنها الرصاصة التي خرّبت اللعبة. (يمكنك مشاهدة الحلقة هنا: https://youtu.be/y0CC8jksQxQ?si=P06xNUSxdab_7moz)
فتحت الثورة الباب الخلفي كما قال غوفمان واسقطت الستارة عن مسرحية الأدب المدّعاة. احتشد الاف المتابعين لصفحة ماما و لأنّها دون أن تحصل على شهادة في العلوم السياسية اين يمكن ان تنصع بذاءتها، فلم تصفق للسلطة، ولكنها دون ان تقرأ ماركس انحازت لمظالم طبقتها. وهكذا دمجت ثورة ديسمبر مظالم الشعب وحولت اللغة الصادمة إلى أداة لإعادة تعريف المسموح والممنوع في الخطاب العام، عبر تفكيك الهالة التي بنتها الأنظمة المتعاقبة حول رموزها. هذا يتسق مع ما تقترحه النظريات الحديثة في تحليل الحركات الاجتماعية حول دور اللغة المنحرفة في بناء التضامن وكسر الاحتكار الأخلاقي للخطاب الرسمي.
ختاما:
تكشف المراجعات التاريخية والنظرية والعملية أن البذاءة — حين تُستخدم في سياق جمالي مقصود — تعمل كآلية مقاومة تُعيد توزيع السلطة داخل الفضاء العام. فهي: تكسر احتكار السلطة للخطاب، تفتح المجال لأصوات الهامش، تعيد صياغة الحدود الأخلاقية بطريقة تُنتج معرفة بديلة، وتضمن خلق فضاء نقدي خارج سيطرة الدولة. وهكذا، تتحول البذاءة في الفن من “انحراف لغوي” إلى استراتيجية معرفية وجمالية وسياسية تستعيد بها الجماهير حقها في الكلام. أن البذاءة ليست انحرافًا عن الأخلاق، بل انحرافًا عن السلطة. وأن الفن — حين يقترب من حافة الممنوع — يحرر اللغة من السقف الذي تفرضه الدولة، المجتمع، والدين. الفن ليس مجرد مرآة، بل مطرقة لغوية تعيد تشكيل ما نجرؤ على قوله… وما نخشى قوله.
نواصل..
الوسومد. ناهد محمد الحسن